يوم كان العالم كله أميركيا

كومبو يجمع كل من : ترامب وبايدن بوش وأوباما
(AFP)

"كلنا أميركيون" هكذا جاء عنوان مانشيت صحيفة لوموند الفرنسية ذات التاريخ الطويل في انتقاد السياسة الخارجية الأميركية قبل 20 عاما صباح يوم 12 سبتمبر/أيلول 2001.

وكان اختيار محرري الصحيفة لهذا العنوان عاكسا لحالة التعاطف العالمي ردا على وقوع هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 القبيحة والتي قتل فيها 3 آلاف أميركي داخل الأراضي الأميركية. ولم يقتصر التعاطف العالمي على الأصدقاء في القارة الأوروبية، بل امتد هذا التعاطف لمختلف أنحاء العالم، وخرجت جموع من الشعب الكوبي للتبرع بالدم للأميركيين رغم الحصار الأميركي وتراث العداء بين الدولتين، كذلك قام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالتبرع بدمه أمام شاشات التلفزيون رغم مرضه وكبر سنه.

بيد أن حظ أميركا كان شديد السوء، فبدلا من وجود حكماء في البيت الأبيض تستغل هذا التعاطف غير المسبوق من أجل تشكيل تحالف دولي لمواجهة تهديد تنظيم القاعدة حول العالم، وللبحث في أسباب استهداف أميركا بهذه الصورة، كان هناك إدارة على رأسها جورج بوش وديك تشني ودونالد رامسفيلد وجون أشكروفت، وقاموا بدلا من ذلك بتخيير العالم إما أن تقف مع أميركا أو تفق ضدها.

وردا على هجمات 11 سبتمبر، اعتمدت إدارة بوش على إستراتيجيتين سببت عداء الكثير من الشعوب، الأولى تتعلق بحرب كونية ضد الإرهاب، والثانية تطلعت -صوريا- لنشر الديمقراطية في دول العالم العربي والإسلامي.

تم التعبير عن الإستراتيجية الأولى في الحرب على الإرهاب ومن ثم جر الأميركيين لحربين، الأولى في أفغانستان رآها أغلبهم مبررة، وبعد أقل من 3 سنوات أوقعتهم الإدارة ذاتها في حرب أخرى، رأتها الأغلبية غير مبررة، في العراق. وبعد 20 عاما من القتال وسقوط عشرات وربما مئات الآلاف بين قتلى وجرحى من الأفغان والعراقيين والأمريكان، خسرت أميركا حرب أفغانستان تاركة وراءها دولة فاشلة ومجتمعا منهارا، وعادت حركة طالبان المتشددة للحكم بعدما أزاحتها واشنطن من سدة الحكم قبل 20 عاما. وبعد 17 عاما من الحرب في العراق، لم تنسحب القوات الأميركية بصوة كاملة بعد، ولم يستقر العراق ولم ينعم برخاء اقتصادي، بل يخضع بصورة أو أخرى لهيمنة سياسية واقتصادية إيرانية.

شهدت الحرب على الإرهاب ممارسات مشينة، واطلع العالم على فضائح معاملة المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب سيئ السمعة، كما كان لاستخدام معسكرات اعتقال في غوانتانامو تأثيرات بالغة على الصورة الأميركية حول العالم خاصة مع ورود أنباء التعذيب والانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون

ودفعت الإستراتيجية الثانية واشنطن للضغط على الدكتاتوريات العربية لتبني ممارسات سياسية ديمقراطية. وصدمت نتائج "الانتخابات شبه الحرة"، التي أجريت في فلسطين ومصر والمغرب، الإدارة الأميركية حيث حققت القوى السياسية الإسلامية مكاسب لم تتوقعها واشنطن. ثم فوجئت واشنطن بالربيع العربي مع اندلاع ثورات وانتفاضات شعبية عربية مطالبة بالديمقراطية، وكشفت المواقف الأميركية خلال سنوات حكم الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ومن بعده الجمهوري دونالد ترامب، فراغ الدعوات الديمقراطية الأميركية من مضمونها، بعدما باركت واشنطن الانقلابات على العملية الديمقراطية في عدة دول عربية، واستمرارها في دعم حلفائها من الدكتاتوريات العربية التقليدية.

من ناحية أخرى، بعد 20 عاما من تجربة الحرب على الإرهاب، لا تبشر حالة الديمقراطية الأميركية بأي خير، بل هناك أحداث تؤكد أن هناك خطرا حقيقيا على هذه الأمة الرائدة. فبسبب الحرب على الإرهاب عرفت أميركا سياسات داخلية رآها الكثير من الخبراء دراكونية في طبيعتها حيث سمحت بتوغل الأجهزة الأمنية الأميركية لسنوات في التنصت، وتتبع الكثير من مواطنيها خاصة المسلمين منهم.

وشهدت الحرب على الإرهاب ممارسات مشينة، واطلع العالم على فضائح معاملة المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب سيئ السمعة، كما كان لاستخدام معسكرات اعتقال في غوانتانامو تأثيرات بالغة على الصورة الأميركية حول العالم خاصة مع ورود أنباء التعذيب والانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون، وحتى اليوم، وبعد 20 عاما من استخدامه، لم يتم إغلاق المعتقل. وبررت واشنطن استخدام معسكرات الاعتقال السرية في العديد من دول العالم كي يمكن تعذيب المشتبه في قيامهم بأعمال إرهابية، وهو ما لا يمكن القيام به داخل الأراضي الأميركية. ولم تتردد الإدارات الأميركية المتعاقبة في استخدام الطائرات المسيرة (من دون طيار) لاستهداف مشتبه فيهم دون أي تحقيقات او إظهار لأي دلائل على ذلك. وقُتل المئات من المشتبه في كونهم إرهابيين في اليمن وباكستان وأفغانستان وغيرهم، وقُل معهم آلاف الأبرياء من النساء والأطفال.

من الناحية الجيوإستراتيجية، فقد شغلت الحرب على الإرهاب الولايات المتحدة بمعارك هامشية في دول فقيرة هامشية، وجاء ذلك على حساب الإستراتيجية الكونية حيث ركزت الصين على النمو الصناعي والاقتصادي والعسكري، والذي كان نقطة الانطلاق له قبل 20 عاما. من هنا مثّل عام 2001 عاما فارقا في تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، وقد دفع دخول الصين للمنظمة التجارية مع العالم واستغلال بكين رخص الأيدي العاملة الماهرة والضخمة لجذب ملايين المستثمرين، وحققت الصين طفرة تنموية غير طبيعية خلال العقود الأربعة الأخيرة جعلتها تتقدم وتصبح صاحبة الاقتصاد الثاني في العالم من حيث الكم.

صاحب ذلك خروج الكثير من التحليلات عن قرب وصول الاقتصاد الصيني للمرتبة الأولى، وقد يكون هذا التصور صحيحا فيما يتعلق بالكم، لكن عندما تتعلق المقارنة بالكيف، فما زال أمام الصين أشواط كبرى وطويلة واجب اجتيازها على مهل. وفي الوقت الذي لا يخشى فيه الكثير من الأميركيين صعود الصين ويرونه حتميا، وعليهم التأقلم معه والاستفادة منه. ما يقلق الأميركيين ويؤرق نومهم هو ما أفضى إليه حال الديمقراطية الأميركية خلال السنوات الأخيرة، وحالة الاستقطاب الواسعة التي تُقسّم الأميركيين. ومثلت أحداث 6 يناير/كانون الثاني الماضي، حين تم اقتحام مبنى الكابيتول، ضربة للديمقراطية الأميركية في قلبها مع رفض أنصار رئيس منتخب نتائج انتخابات خسرها، بل تمادى ليؤكد أنها مزورة من دون أن يقدم دليلا ملموسا على ذلك، وهو ما يفتح الباب للتشكيك في نتائج الانتخابات المستقبلية.

وتجيء ذكرى 11 سبتمبر هذا العام والعالم يحبس أنفاسه مما هو قادم بعد المشاهد الأليمة في محيط مطار كابل. لقد اعترف الرئيس بايدن بأن هدف بلاده لا يجب أن يتعلق بإعادة بناء دول أو مجتمعات أو تشكيلها على النسق الأميركي. واستغرق الوصول لهذا الاعتراف عقدين من الزمان وتكلفة ضخمة من الدماء والأموال، ومن السمعة الدولية التي لا يُتخيل معها مرة أخرى أن يقول العالم، كما قال يوم 12 سبتمبر/أيلول 2001، إننا "كلنا أميركيون".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.