ما قبل الإستراتيجية المصرية لحقوق الإنسان
يعلمنا الأستاذ محمود شاكر في كتابه الهام "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" (1986) أن نفكر في ما قبل المنهج قبل أن نناقش المنهج ذاته، ويقصد بما قبل المنهج الأسس الفلسفية والقيمية التي يستند ويتأسس عليها المنهج ذاته، وبهذا ينتقل الجدل والنقاش من حديث في المضمون إلى حديث في الأطر التفسيرية الكامنة وراءه.
وجريا على عادة أستاذنا شاكر، نناقش في هذا المقال الأسس التي استندت إليها وانطلقت منها الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أصدرتها السلطات المصرية في سبتمبر/أيلول الجاري (2021) بعد سنتين من العمل عليها.
في الحروب على الإرهاب، وعلى الهجرة غير المشروعة، وعلى الجريمة المنظمة، وعلى الوباء، تستخدم الدولة المعاصرة -في حروبها تلك- آليات متشابهة لتحقيق النصر على عدو غير واضح المعالم والحدود، ويتم تعريفه وفق مصالح كل دولة، وفي الحروب كل شيء مشروع أو يمكن شرعنته لتحقيق النصر الذي لا يأتي أبدا.
11 سبتمبر ومنطق الحرب
صدرت الوثيقة في ذكرى مرور 20 عاما على هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في ربط واضح بين مسألتي حقوق الإنسان والحرب الأميركية العالمية على الإرهاب التي دشنها الرئيس بوش الابن بعد تفجيري برجي التجارة عام 2001، ولكن ما لم يدركه مصدرو الإستراتيجية أن هذه الحقبة -حقبة سبتمبر- كانت فترة تراجع وانتهاك للحقوق المدنية.
وربما أدركوه وأرادوا أن يبرروا بمظلة الحرب على الإرهاب انتهاكات حقوق الإنسان التي باتت مما هي معلوم بالضرورة في تقارير منظمات دولية وحقوقية عديدة واعترفت به الإستراتيجية ضمنيا، ولكن ما لم يدركوه أيضا أن هناك حركة مراجعات كبيرة ومتسعة لتداعيات هذه الحقبة على أميركا ذاتها وسياستها الخارجية وأمنها القومي بما يمكن معه الحديث عن حقبة ما بعد 11 سبتمبر.
في الحرب على الإرهاب، كما في الحرب على الهجرة غير النظامية، والحرب على الجريمة المنظمة، والحرب على الوباء، تستخدم الدولة المعاصرة -في حروبها تلك- آليات متشابهة لتحقيق النصر على عدو غير واضح المعالم والحدود، ويتم تعريفه وفق مصالح كل دولة، وفي الحروب كل شيء مشروع أو يمكن شرعنته لتحقيق النصر الذي لا يأتي أبدا.
تسير الدولة تجاه المختلف عرقيا أو ثقافيا أو دينيا، أو الإرهابي، أو المهاجر غير النظامي، أو المجرم قانونا، في مسارات متعددة، تبدأ بنزع الإنسانية لتنتهي بنزع المواطنة عن الشخص أو الفئات المستهدفة، تستخدم في سبيل ذلك الآليات التالية:
أولا: نزع الإنسانية
فالأميركيون السود والمهاجرون والإرهابيون مجردون من الإنسانية، ومن ثم يجب أن لا تتم معاملة من نزعت إنسانيتهم بالمساواة لأنهم يعتبرون أقل قيمة، ويتم الاعتداء على هذه المجموعات تماما عن طريق تحويلهم إلى صور نمطية أو أرقام لا معنى لها، وعندئذ يبدأ العنف الممنهج المبرر أو "المشروع".
يدرك هذه الحقيقة المتتبع لتقارير حقوق الإنسان عن مصر، فتجاوزات مؤسسات إنفاذ القانون لا يمكن لها أن تستمر في عنفها المنظم تجاه المسجونين كل هذه السنين وبهذه الدرجة من الاتساع والقوة، ولا يمكن لتابعيها أن يحافظوا على درجة هذه التجاوزات واستمرارها دون نزع الإنسانية عن الطرف المقابل؛ الذي يتحول إلى عدو في حروب غير واضحة المعالم والأهداف.
المشكل وراء هذا المنطق هو ما يمكن أن نطلق عليه "فائض القمع" الذي يمكن أن يمتد إلى قطاعات أخرى من المصريين، خاصة إذا تم تحييد أو نزع المحددات التي يفرضها المجالان السياسي والإعلامي على هذه الإجراءات بمصادرتهما ومنعهما، والتي يمكن أن تفرض قيودا على استخدام هذا القمع، والمثال الأبرز في ذلك هو التلويح باستخدام القوة المفرطة تجاه تجاوزات البناء، وتوظيفها والتلويح باستخدامها عند نزع الملكيات الخاصة لبناء الطرق والمحاور والجسور.
ثانيا: التجريم
فالمجرم مخلوق وفق الخيال القانوني باستخدام أدوات الدولة، ويأتي احتكارها للعنف من خلال مؤسسات إنفاذ القانون ليضمن تنفيذ وتطبيق التجريم على فئات محددة، وتتطور من خلال استخدام التقنيات التشريعية والإجراءات البيروقراطية لتصنيع الجماعات المجرمة، وتكون الدعايات والأيديولوجيات والأفكار لإضفاء الشرعية المعنوية على التجريم القانوني.
ثنائية المجرم وغير المجرم تخلق المعيارية المعنوية والتشغيلية -أي الصواب والخطأ، والحسن والقبيح- للمجالين العام والخاص معا. وتستخدم الدولة مفاهيم الحرب والأمن القومي والسيادة لتعزيز نطاق هذه المشروعية، وتحديد الفئات والأفراد المشمولين بها والخارجين عنها، والملاحظ أن كثيرا من الإجراءات القانونية في الحروب المتعددة التي تشنها الدولة تستند إلى الإجراءات الاستثنائية من عدم افتراض للبراءة (الإرهابي)، أو الحق في محاكمة عادلة (غوانتانامو)، أو عدم إدانة أفراد الشرطة في الأحداث التي يحدث فيها تجاوز منهم لأنهم في حالة دفاع مشروع عن النفس، بل استخدام التعذيب (قانون باتريوت أميركا).
من الملاحظات الهامة التي التقطها البعض من خبرة السجن أن من يمتلك القوة في الدولة المعاصرة ينتج اللاشرعية القانونية، وهي تتضمن تهميشا اجتماعيا وفكريا وسياسيا وعرقيا، ورغم قدرة من يملك القوة على تحديد اللاشرعية، فإن ذلك ينتهي عادة إلى نزع المشروعية عن الفئات التي تحاربها، فالنظام المصري بعد 2013 اتخذ التدابير القانونية كافة التي تضمن تصحير وتجريف المجال العام، إلا أن التزامه بالشرعية التي أنتجها يظل محدودا في مجال حقوق الإنسان، في حالات كثيرة استمر الحبس الاحتياطي لمدد طويلة رغم أن أقصى مدة للحبس الاحتياطي -وفق القانون الذي تم تعديله من قبل النظام نفسه- سنتان فقط، وهذا ما التقطته الإستراتيجية وسعت لحله.
هنا نقطة يجدر الوقوف أمامها طويلا وهي توسعة مفهوم الإرهاب في منظور السلطة المصرية، ليشمل جميع المعارضين أو المنتقدين لها أو من يحمل رأيا مستقلا عنها وبالطبع الإسلاميين، في تبن واضح لمنطق الفسطاطين كما طرحه أسامة بن لادن، أو من ليس معنا فهو ضدنا كما قدمه بوش الابن عام 2001.
المهاجرون تهديد للوظائف ولمستوى معيشتنا، والمسلمون تهديد للحضارة الغربية بقيمها، والسود تهديد لهيمنة الرجل الأبيض، والفيروس تهديد للاقتصاد والعولمة قبل البشر وصحتهم، والإرهاب تهديد للدولة الوطنية والاستقرار، والفقراء تهديد للنمو الاقتصادي
ثالثا: تطور التمييز ليكون ثقافيا
فأوضاع الفقراء والفئات الضعيفة والإرهابيون هو نتاج لطباعهم أو ثقافتهم، وليس نتاجا لتخلي الدولة النيوليبرالية عن سياسات الدعم الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، والمسلمون جميعا -في سياسات الحرب على الإرهاب- تهديد للحضارة بحكم ثقافتهم ودينهم، والفقراء باتوا كذلك لأنهم لا يريدون أن يعملوا، وليس بسبب سياسات إعادة التكيف الهيكلي التي جعلتهم أكثر ضعفا، والإرهابي صار كذلك ليس بسبب سياقات يمكن معالجتها ولكن لطبيعة تدينه وأفكاره التي يعتنقها.
منطق التفسير الثقافي الذي يتسم بالحتمية والاختزال يخلق نقاطا عمياء عديدة في النظر إلى الواقع، ورغم ذلك فقد تأسست عليه كثير من تدخلات الإستراتيجية، فإحجام المصريين عن المشاركة العامة مرده ضعف ثقافتهم، هكذا، وليس غياب هياكل وبنى وسياقات تدفع إلى هذه المشاركة، كما أن نشر ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع ومؤسسات الدولة سيسمح بمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان، وهكذا بات العامل الثقافي سبيلا لمصادرة الحديث عن إعادة هيكلة وإصلاح مؤسسات إنفاذ القانون، خاصة وقد علمتنا خبرة عقدين من الحرب الأميركية على الإرهاب أنها تخلق أوضاعا مؤسسية وممارسات يصعب النكوص والتراجع عنها إذا استمرت لسنوات عديدة وحكمها منطق الحرب الأبدية.
رابعا: صناعة التهديد
المهاجرون تهديد للوظائف ولمستوى معيشتنا، والمسلمون تهديد للحضارة الغربية بقيمها، والسود تهديد لهيمنة الرجل الأبيض، والفيروس تهديد للاقتصاد والعولمة قبل البشر وصحتهم، والإرهاب تهديد للدولة الوطنية والاستقرار، والفقراء تهديد للنمو الاقتصادي.. إلخ، وهكذا يعيش الإنسان في الدولة المعاصرة في تفزيع وتخويف مستمر لتبقي الحال كما هي عليه، حين يتم إلقاء اللوم على الأقليات والفقراء والجماعات الإرهابية والعمال المهاجرين، رغم أنهم جاؤوا لملء فجوة توفر عمالة رخيصة في ظل تحولات اقتصادية.
في سياسات التفزيع دائما يتم استبدال شيء بآخر عبر ثنائيات متعددة يتم إبراز التناقض والتعارض بينها، مثل الحماية من الفيروس في مقابل انتهاك الخصوصية والتنازل عن بعض حقوق الإنسان، وفي الحرب على الإرهاب الحفاظ على الدولة في مقابل القمع وإغلاق المجال العام، وفي الهجرة الرفاهية الاقتصادية في مقابل منع الهجرة.. إلخ.
المشكل أن الحروب لا تنتهي ولا يتم تحقيق الهدف الذي تم التنازل من أجله، حفظ الدولة أو القضاء على الفيروس أو الاستقرار أو زيادة الوظائف أو الرفاهية الاقتصادية. هل يمكن أن تشرح لي استمرار التخويف من تداعيات تكرار ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصر كل هذه السنين رغم سرعة النجاح في القضاء عليها مع الفشل في إنهاء الإرهاب في سيناء حتى الآن؟
خامسا: نزع المواطنة عبر التصنيف والإزالة
فالدولة تستثمر قوتها في تحديد المشمولين بمواطنتها، وتخلق الاستبعاد وتحوله إلى قواعد مؤسسية، وهذا ربما يفسر إصرار السلطات المصرية على ضرورة تخلي مزدوجي الجنسية من المصريين عن جنسيتهم المصرية لإطلاق سراحهم.
الدولة تخلق عملية إزالة موحدة من خلال توسعة الجرائم التي تؤدي إلى ذلك، فهي تستخدم -على سبيل المثال- آليات إثبات قانونية أقل للفئات التي تشن عليها الحرب، وتوفر حماية إجرائية أقل من القانون العادي لهذه الفئات. ففي مكافحة الإرهاب ومناهضة الهجرة غير النظامية ومواجهة عنف الأقليات، هناك اتساع دائم للسلطة التقديرية لمؤسسات إنفاذ القانون أو مبالغة في استخدام العقاب.
الطريف أنه في الولايات المتحدة يتحدثون عن 6 يناير/كانون الثاني 2021 بديلا عن 11 سبتمبر/أيلول 2001، ففي التاريخ الأول تم اقتحام مبنى الكابيتول ليتم التنبه إلى خطر اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، إذ أدى عقدان من التركيز على الإرهاب ذي الإسناد الإسلامي إلى الغفلة عن خطره، أما في مصر فيجري الحديث عن 30 يونيو/حزيران 2013 باعتباره قد أنقذ الدولة المصرية من حتفها الذي أودى بها إليه 25 يناير/كانون الثاني 2011.
ماذا تعلمنا هذه الآليات؟
إذا تم محو المختلف سياسيا ودينيا ولغويا وعرقيا واجتماعيا، فلن يبقى أي شخص أكثر أمانا، وسيكون هو الهدف التالي.
- هذا ما تدلنا عليه الخبرة المصرية، فقد بدأت بالإخوان والإسلاميين لتنتهي بفئات اجتماعية أخرى، مرورا ببعض رجال الأعمال والصحفيين وجميع المعارضين.
- يجب التنبه إلى أنه في كل مرحلة من مراحل صراع الدولة المعاصرة مع قضية ما، يترك لهذه القضية أن تقود المجالات الأخرى وتعيد تشكيلها؛ ففي الولايات المتحدة لم تتم صياغة سياسات جديدة للهجرة بعيدا عن الحرب على الإرهاب بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، كما جرى تصحير وتجريف المجال العام في مصر منذ 2013 في إطار الحرب على الإرهاب وما أسميه عقيدة/أيديولوجية الأمن القومي التي تقوم على التفزيع والتخويف من مصير سوريا وليبيا واليمن، ويلاحظ في هذا الصدد أن زيادة التركيز وتخصيص الموارد لقضية ما معناه الغفلة أو تقليل الاهتمام بالقضايا الأخرى التي تنازع هذا الاهتمام، وهنا يمكن أن يكون سد النهضة مثالا جيدا؛ فقد ألهى الإرهاب الدولة المصرية عن الاهتمام بتهديدات الأمن القومي الأخرى.
- انتقاص حقوق الفئات التي يتم شن الحرب عليها بتحويلهم إلى حالة اللامواطنة؛ هذه المقدمة الضرورية لانتهاك حقوق المواطنين أنفسهم، فقد أثبتت الدراسات أن الحقوق التي يتم انتقاصها في هذه الأوقات -أوقات الحروب والأزمات- لا يتم استردادها لأننا ننتقل من حرب لأخرى.
- خصوصيتنا في حقوق الإنسان، ففي مواجهة الانتقادات المتصاعدة لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، لجأ الخطاب الرسمي لعدد من الآليات؛ ومع إنكار هذه الانتهاكات يتم التأكيد على الخصوصية الثقافية واختلاف التطور التاريخي بين مصر والبلدان الغربية المتقدمة، كما يجري الاستناد إلى أولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية سبيلا لمصادرة الحقوق السياسية والفردية.
مشكل هذا الخطاب أنه لا يسعف أصحابه لأنه يعاني من تناقضات ثلاثة:
الأول أنه يضع مصر في خندق الصين (How China Exports Authoritarianism | Foreign Affairs) في هذه القضية، ولا يخفى على أحد الآن أن أحد مرتكزات حقبة ما بعد سبتمبر هي التنافس الأميركي الصيني، ولا أظن أن مصر لديها رغبة ولا قدرة على الانفكاك من العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الآن.
التناقض الثاني أن جميع الدراسات باتت تؤكد العلاقة الشرطية بين الحقوق السياسية والفردية وبين التنمية، بمعنى أن التقدم في الأول له تداعيات واضحة على تحقيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وأخيرا فإن إحدى المشكلات الأساسية في الإستراتيجية، رغم تخصيص أحد أجزائها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، هي العجز عن تقديم مؤشرات واضحة قابلة للقياس والتحقق بعد 5 سنوات هي عمر الإستراتيجية، وبات خطابها في هذه النقطة مما يستدعي عمل الدولة المصرية أزمانا مديدة حتى تحققه، ولا أظنها تفعل.
من 11 يناير إلى 30 يونيو
الطريف أنه في الولايات المتحدة يتحدثون عن 6 يناير/كانون الثاني 2021 بديلا عن 11 سبتمبر/أيلول 2001، ففي التاريخ الأول تم اقتحام مبنى الكابيتول ليجري التنبه إلى خطر اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، إذ أدى عقدان من التركيز على الإرهاب ذي الإسناد الإسلامي إلى الغفلة عن خطره، أما في مصر فيجري الحديث عن 30 يونيو/حزيران 2013 باعتباره قد أنقذ الدولة المصرية من حتفها الذي أودى بها إليه 25 يناير/كانون الثاني 2011.
معنى هذا التصور ببساطة أنه في سبيل الحفاظ على الدولة المصرية فإنه يجب القضاء على المقدمات التي أدت إلى 25 يناير من فتح للمجال العام، وحراك جماهيري في الشارع، وحرية رأي وتعبير في الصحافة والإعلام، كذا السماح بتقوية المجتمع المدني والنقابات المهنية والعمالية، أو حتى القبول بقطاع خاص يتمتع ببعض عناصر الاستقلالية عن الدولة. ولتحقيق هذا التصور يجب أن تكون هذه المكونات جميعا تحت ضغط دائم ومستمر، وبعضها لا بد أن يصل إلى حالة الإنهاك، والآخر لا بد أن يتم القضاء عليه تماما.
مناورات مع إدارة بايدن
يدرك النظام المصري أن حديث حقوق الإنسان مما تهتم به فئات محدودة من المصريين، ولم يتحول الطلب عليها -كما يقدمه قطاع من النخب السياسية والثقافية- إلى مطلب جماهيري متسع، ورغم استقرار الوجدان المصري في مطلب العدل الذي يقوّم به أي انتهاكات يتعرض لها، فإن ما لم يدركه النظام حتى الآن أن اتساع دائرة المظالم في المجتمع -ليس من المدخل الحقوقي فقط- من شأنه أن يؤدي إلى تناسق الغضب (synergy) مما قد يدفع إلى حراك جديد كما جرى في يناير.
قد تتأثر علاقات النظام بالغرب فيما يخص حقوق الإنسان خاصة مع مجيء إدارة بايدن، لكن يخفف من ذلك اعتبارات ثلاثة:
الاعتبار الأول أن فترة بايدن انتقالية ومن ثم يمكن المناورة معها حتى تمضي سنين حكمه الأربع، فهل الإستراتيجية جزء من هذه المناورة؟
الثاني أن أجندة الحرية كما طرحها بوش في أعقاب هجمات 11 سبتمبر قد انتهت مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان، بمعنى أنه لم يعد مطروحا الآن التدخل وخاصة العسكري في البلدان المختلفة لفرض الديمقراطية وبناء الأمة، كما جرى في العراق وأفغانستان من قبل.
الثالث أن بايدن وإن سعى لبناء تحالف الديمقراطيات في مواجهة البلدان التسلطية وفي مقدمتها روسيا والصين، فإن عقيدته في السياسة الخارجية تقوم على الواقعية البراغماتية التي تركز على المصالح الحيوية الأميركية المباشرة بشكل أساسي.
وأخيرا وليس آخرا، فإن حقوق الإنسان تمثل حدودا على السياسة الخارجية المصرية، ليس من جهة العلاقة مع الغرب -كما قدمت- ولكن أيضا من "قوة مثالنا"، على حد تعبير بايدن.
بعبارة أخرى؛ فإن القوة الناعمة المصرية، وهي أحد مرتكزات سياسة مصر الخارجية، تصاب بالعطب الشديد من تصاعد هذه الانتهاكات وبروزها بقوة، ناهيك عن أن صناعة هذه القوة الناعمة تتم في إطار مجال عام تعددي حر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.