الإسلاميون الإصلاحيون في المغرب والحاجة إلى ولادة جديدة.. قراءة نقدية في الخطاب السياسي

عبد الإله بنكيران يخاطب الحاضرين في اجتماع المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية المغربي
عبد الإله بنكيران يخاطب الحاضرين في اجتماع المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية المغربي (الجزيرة)

مرّت تجربة الإسلاميين الإصلاحيين بالمغرب بأطوار عدة منذ النشأة في سبعينيات القرن الماضي، إذ كان مدّ ما سمي بالصحوة الإسلامية يعبر كل الأقطار العربية والإسلامية، في سياق من الصراع الأيديولوجي المحموم، وقد كان الظهور الأول للتيار الإصلاحي مع "الشبيبة الإسلامية" التي كانت تنبني أطروحتها على نزعة شمولية للإسلام، مع الجنوح إلى المسالك العنيفة في التغيير الذي يتخذ العمل التنظيمي السرّي وسيلة لذلك.

انتهت التجربة بفك طيف من الشباب، من بينهم عبد الإله بنكيران، العلاقة مع زعيم الشبيبة "عبد الكريم مطيع"، وتحللهم من يوتوبيا التغيير الثوري العنيف والموقف الجذري من النظام السياسي والقوى السياسية الأيديولوجية الأخرى، ليدشنوا تجربة من النقد الذاتي والحوار  بشأن جملة من القضايا الدينية والسياسية والاجتماعية، الذي اكتمل في ما بعد في حركة دعوية هي حركة التوحيد والإصلاح، وحزب سياسي هو حزب العدالة والتنمية الذي تعرض لإخفاق في الانتخابات الأخيرة بعد أن ظل في سدّة التدبير عقدا كاملا؛ هذا الإخفاق الذي مني به الحزب الذي ينتمي للعائلة الإسلامية الإصلاحية في المغرب يأتي في لحظة مجد سياسي حققه الحزب بالتراكم الهادئ، وبالنظر إلى حجم المكانة التي كان يحتلها حزب العدالة والتنمية في المشهد السياسي وبين القوى الإصلاحية في المغرب، فإن ترميم الانهيار الذي حدث أو النظر في دواعيه يقتضي التتبع النقدي للجذور التي يتشكل منها الخطاب السياسي الإسلامي الإصلاحي بالمغرب، لتحصيل الوعي بأصل المشكلة في نظرنا، ومن ثم ممكنات الولادة الجديدة لهذا التيار.

معظم الشعوب التي أحرزت تقدما في هذا المجال عاشت تجارب خلفت من ورائها خبرة مدونة ومكتوبة؛ ذلك أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما يقال، والفكر السياسي الحديث يقدم نموذجا جديدا في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو السلطة بالمجتمع، قائمة على أساس التعاقد والمساءلة بما يحقق المواطنة، وليس كما تقدمه الآداب السلطانية أو السياسة الشرعية المسكونة بهاجس الطاعة أو الفتنة.

أولًا: ضرورة الحداثة السياسية بديلا عن الثقافة السلطانية:

لن نكون مغامرين إذا قلنا إن الأدبيات التي أُسّست عليها ما سميت بالصحوة الدينية لا ترقى إلى أن تشكل نظرية في التغيير السياسي والمجتمعي، ذلك أن الخطاب الإسلامي في مرحلة معينة كان رهين السجال القيمي والأخلاقي، من دون أن يسنده وعي كامل بالتحديات المطروحة في الزمن الحالي، وتلك مشكلة عامة لدى الخطاب الإسلامي المعاصر الذي كان يمتلك قدرة على التعبئة والحشد، من دون أن يمتلك القدرة على حل المشكلات المجتمعية المتعلقة بإقرار العدالة والكرامة الإنسانية، أو المشكلات السياسية المزمنة ذات الصلة ببناء دولة المواطنة التي تشكل الديمقراطية جوهرها وأساسها الذي تقوم عليه.

حالة الاحتقان الاجتماعي وواقع السلطوية والاستبداد جعلا هذا التيار السياسي الإسلامي في الصدارة أمام رهانات معقدة ومتداخلة، مع نقص حاد في الثقافة السياسية التي يتشكل منها الوعي المعاصر، وبصيغة أخرى عدم امتلاك نظرية في التغيير السياسي والمجتمعي تستلهم باقتدار من النظم الفكرية الحديثة والتراث معا، من دون أن تذوب كلية في الاتجاهين معا، في الدولة وتحديات السياسة بمتطلباتها الحالية، أو الانكفاء على خطاب أخلاقي وعظي مستلهم من التراث في شقه االسلبي، وفي أرقى الحالات تطويع نظرية المقاصد من أجل التبرير.

مما سبق؛ تكمن مشكلة الإسلاميين الإصلاحيين بالمغرب في الأصول النظرية التي انبنت عليها تجربتهم، خصوصا في التنظير للمشاركة السياسية أو ما يسمى بالإصلاح من الداخل، أي العمل المتدرج من خلال المؤسسات بدل الارتهان إلى التغيير الجذري، بحيث كان نزوعهم في التأصيل النظري إلى الاعتماد على ما تقدمه كتب السياسة الشرعية والآداب السلطانية بما يسمح لهم بتشكيل البطانة الصالحة للسلطان، وفق المتاح في النسق السياسي المغربي، ولم يكن في مكنة هذا الانزواء في سجن الآداب السلطانية أو نحت دواعي المشاركة وأهميتها أو علاقة الديني بالسياسي من التراث الإسلامي من ناحية، أو الارتماء في واقع السياسة من خلال جوانبها الشكلية المتعلقة بالحزب السياسي من دون الرهان على تحديث النسق السياسي بمضمون حديث تتحدد فيه طبيعة علاقة السلطة بالمجتمع من خلال خطاب ومؤسسات وآليات ضغط تتيحها الثقافة السياسية الحديثة؛ لم يكن ذلك النهج البراغماتي الذي أفرغ مضمون خطابه السياسي من الديمقراطية والحرية والمواطنة والعقلانية التي شكلت معالم نظرية في الفكر السياسي المغربي الحديث مع محمد عابد الجابري وغيره، ليخدم معركة التحديث السياسي في نسق سلطوي يراوح قدميه بين السلطاني العتيق "بنية المخزن" والأدوات الحديثة التي ورثها المغرب من زمن الاستعمار، وظلت مطية للقهر والتنخيب على أساس الريع وخدمة السلطوية.

يتبين لنا إذن أن النزوع إلى الآداب السلطانية وما تقدمه من نصائح حول طبيعة العلاقة مع الملوك يشكل أحد العوائق التي حالت دون تأصيل ثقافة وفكر سياسي من معين الفلسفة السياسية والفكر الدستوري الحديث، كما يشكل في سياق نشأة الدولة الحديثة، وبالتوالي مع أدبيات الديمقراطية والانتقال الديمقراطي في سياقات متنوعة، حيث عاشت معظم الشعوب التي أحرزت تقدما في هذا المجال، تجارب خلّفت من ورائها خبرة مدونة ومكتوبة. ذلك أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما يقال، والفكر السياسي الحديث يقدم نموذجا جديدا في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو السلطة بالمجتمع، قائمة على أساس التعاقد والمساءلة بما يحقق المواطنة، وليس كما تقدمه الآداب السلطانية أو السياسة الشرعية المسكونة بهاجس الطاعة أو الفتنة.

فالبقاء في دائرة الوعظ السلطاني، وعدم تجديد التفكير في العلاقة بالملكية ومجال التأثير الذي ينبغي أن تناله القوى السياسية والوطنية، يبقي السلطة وأدوات ممارستها وثقافتها مع الفاعلين في الحقل السياسي والمدني مشبعة بالتقليد، في حين الحاجة ماسّة إلى تحرير الحقل السياسي والمدني من قبضة التقليد ثقافة ومؤسسات، وهذا يحتاج إلى عقلنة الخطاب السياسي والديني معا، وإذا عمل التيار الإصلاحي الإسلامي على هذا المنحى في المستقبل، سيكون قد بث روحا جديدة ليس في ذاته وحسب، وإنما في المجالين السياسي والديني معا، ونقصد بالديني هنا الحركة الدعوية المرتبطة بالحزب السياسي، واشتباكها رهين بما يمكن أن تقدمه باعتبار مجالها المدني الذي يهتم أساسا بالفضاء العمومي، ومن دون تجديد خطابها الفكري الذي يجب أن يتحرر من جملة من الرواسب، فإنها بذلك تنتج نمطا من الخطاب يضاد مفهوم الإصلاح ذاته في القرآن الكريم والسنة والتجارب التاريخية للأمة، إذ يتطلب الإصلاح في أحيان كثيرة حدّة في الموقف وابتكارا في آليات الضغط المدني.

ثانيًا: الهوة مع الفكر السياسي المغربي الحديث وإشكالية الوعي ببنية السلطة/المخزن:

تتجلى ثاني المشكلات في الفكر والممارسة السياسية لدى الإصلاحيين الإسلاميين في عدم استثمارهم المبكر في المنجز الفكري والسياسي في السياق المغربي، إذ إن الفكر المغربي قدم تراثا غنيا في القضايا السياسية والاجتماعية والدينية، ونحيل على علال الفاسي الذي جمع في ثنايا تفكيره بين العالم المجدد في قضايا الدين والمفكر والمناضل السياسي الذي كان مهجوسا ببناء نظام ديمقراطي يتم فيه التخلي عن التقاليد الموروثة من زمن الفوضى والانتقال إلى ملكية برلمانية، إذ في نظره أن "الفكر الأساسي في السياسة -اعتبار المصلحة العامة- لا يمكن أن يتم عمليا إلا إذا أصبح خلق الاهتمام بسير الشؤون العامة والاستعلام عنها والتعليق عليها والتفكير فيها والنقد لها متيقظا حارسا في أغلب طبقات الأمة، لأن ذلك يحقق وجود رأي عام كقوة يحسب لها حسابها" ذلك أن "الأمة هي صاحبة السلطة والحفيظة عليها؛ لأن السلطة كامنة في الأمة، ومنها تصعد إلى أيدي الرؤساء وأولي الأمر، ومن حق الأمة وواجبها أن تظل حارسة على مواطن الاستعمال لما هو منها وإليها" (النقد الذاتي، ص: 146).

جليّ في هذا المضمار أن هناك جانبا نيّرا في التراث الإسلامي في علاقة الأمة بالحاكم أو السلطة في ما يخص المراقبة والتتبع، باعتبار الحكم  نيابة عن الأمة  في شؤون دنياها ودينها بما يحقق المصلحة العامة، مع منح صلاحية المراقبة للأمة/الشعب، بل إن التجربة المغربية في التطور الدستوري تحتفظ بأمثلة من ذلك مطلع القرن الـ20 مع واقعة عزل المولى عبد العزيز والدستور الذي تم تقديمه للسلطان عبد الحفيظ سنة 1908 (ينظر: كتاب الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها، علال الفاسي)، بالإضافة إلى الجدل السياسي الذي نشأ في محضن الحركة الوطنية وأعقب الاستقلال، إذ كانت تتجه جميعها إلى الحد من الصلاحيات المطلقة للحكم ومنع تركيز السلطات في يد واحدة، هذا المنحى كان يعوز الخطاب السياسي الإسلامي الإصلاحي بالمغرب والممارسة أيضا، الذي يظهر أنه يفتقر  إلى نظرية في السياسة، كما حرم نفسه من البناء على ما قدمه أسلافه في الحركة الوطنية، وأتينا بعلال الفاسي مثالا بحكم التقاطعات الكثيرة معه على مستوى المرجعية الإسلامية.

لقد كان وعي علال الفاسي -ولفيف من النخبة الوطنية- أعمق نظرا في تبيئة تفكير سياسي حديث يلائم البيئة المغربية، إذ همّ باستلهام أصول التعاقد مع الحاكم من مصادرها الفسلفية والدستورية الحديثة ومواءمتها مع ما ظل مغيّبا من التراث السياسي الإسلامي من بذور فكر سياسي من كون "الحكم يجب أن يكون مبنيا على أساس الاشتراك المقبول بين الأمة ورؤسائها" (النقد الذاتي، ص: 148)، مع إضفاء مسحة خاصة بالسياق المغربي وعلاقة الملكية بالمجتمع، نظرا إلى مجموعة من الظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية التي شكلت اللحمة الجماعية للكيان الاجتماعي والسياسي المغربي.

وبخصوص الكيان الاجتماعي والسياسي المغربي والصبغة الخاصة التي تميزه، نتحدث عن مدى تحقق الوعي لدى الإسلاميين الإصلاحيين بنسق ببنية المخزن وميكانيزماته، ابتداء من علاقة السلطة بالقبيلة كما درسها جون واتربوري باعتماد النظرية الانقسامية "ينظر كتابه: أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية المغربية"، أو علاقتها بالأحزاب والقوى الوطنية الحديثة، التي ولدت من رحم الحركة الوطنية، ثم التغيرات التي حدثت بشأن رهانات السلطة/الدولة من الأحزاب والمجتمع المدني، التي تعرضت لنوع من التأميم بعد إعمال أدوات الإضعاف والتفكيك في الصراع السياسي.

ختاما.. إن أي خروج من تحت الرماد وإعلان الولادة الجديدة للإسلاميين الإصلاحيين بالمغرب، أو للفكرة الإصلاحية برمتها يقتضي الاشتغال على منحيين اثنين؛ أحدهما الانخراط الفعلي في الحداثة السياسية ومقولاتها والتخلص من الثقافة السلطانية المهيمنة، لرفع رهان تحديث نسق السلطة في أفق ملكية برلمانية، والآخر التجديد الفكري في القضايا التي تهم الإشكالات الدينية والاجتماعية، ونخص هنا الفضاء العام الذي ينبغي أن تنشغل به الحركة الدعوية وملحقاتها، تجنبا للانزواء في دائرة الهوية والقيم بأدوات تقليدية وخطاب تقليدي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.