كيف استطاعت تركيا أن تبني قوتها الناعمة؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (الأناضول)

بناء القوة الناعمة من أهم التحديات التي تواجهها الدول خلال القرن الحادي والعشرين، ولذلك عملت كثير من الدول للاستفادة من نتائج الدراسات العلمية للتخطيط الإستراتيجي، لزيادة قوتها الناعمة ولتلعب دورا في محيطها الإقليمي، وتزيد تأثيرها على المستوى العالمي.

والتخطيط لبناء القوة الناعمة يشمل توظيف التاريخ والثقافة والإعلام وكثير من الأنشطة في مجالات مختلفة، مثل الرياضة والفنون والإغاثة الإنسانية والتبادل العلمي والطلابي وتبادل المعرفة والمشاركة في المؤتمرات وبناء الصورة الذهنية.

أسهمت هذه الصورة الجديدة لتركيا في زيادة قوتها الناعمة في العالم الإسلامي، ولقد عملت حكومة حزب العدالة والتنمية على تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي، ونجحت في زيادة تعاطف المجتمعات الإسلامية مع تركيا، وتطلعت الشعوب الإسلامية إلى نموذج حزب العدالة والتنمية

النموذج التركي.. لماذا؟

دراسة النموذج التركي في بناء القوة الناعمة تفتح مجالا جديدا للتخطيط الإستراتيجي لتطوير قوة الدولة الناعمة والسياسات المرتبطة بها، بالإضافة إلى كثير من العلوم، من أهمها علم الدبلوماسية العامة.

أوضحت دراسة قدمها الباحثان محرم أكشل ومحمت سيف الدين أيرول أن تركيا بدأت سياستها لبناء القوة الناعمة بعد أن تولى الحكم حزب العدالة والتنمية، وحاول الباحثان الإجابة عن سؤال: لماذا تحولت تركيا نحو بناء القوة الناعمة واستخدام الدبلوماسية العامة في عهد حزب العدالة والتنمية؟

رؤية جديدة

فسر الباحثان هذا الاتجاه بأنه نتيجة لرؤية الحزب لهويته، وإدراك قادته لأهمية القوة الناعمة والدبلوماسية العامة؛ حيث انطلقت كوادر الحزب من جذورهم وثقافتهم الإسلامية لبناء رؤية تقوم على أن تركيا يمكن أن تقوم بدور قيادي في العالم الإسلامي.

وللقيام بهذا الدور، انطلق قادة الحزب لبناء القوة الناعمة التركية، واستخدام الدبلوماسية العامة لبناء صورة تركيا الجديدة التي تقوم على أنها دولة ديمقراطية مسلمة محافظة.

وأسهمت هذه الصورة الجديدة لتركيا في زيادة قوتها الناعمة في العالم الإسلامي، ولقد عملت حكومة حزب العدالة والتنمية على تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي، ونجحت في زيادة تعاطف المجتمعات الإسلامية مع تركيا. وتطلعت الشعوب الإسلامية إلى نموذج حزب العدالة والتنمية، وإمكانية تطبيق تجربته في الحكم. لذلك، ترتبط قوة تركيا الناعمة واستخدامها للدبلوماسية العامة في كسب قلوب المسلمين وتعاطفهم بتجربة حزب العدالة والتنمية.

المحيط الإقليمي

يرى الباحثان أكشل وأيرول أن نفوذ تركيا ودورها تزايد في منطقة الشرق الأوسط حيث نظر قادة حزب العدالة والتنمية لهذه المنطقة باعتبارها المحيط الإقليمي، وهذه المنطقة تشهد تحولا تاريخيا. ولا يمكن أن تظل تركيا بعيدة عن التطورات التي تشهدها المنطقة، ولذلك عملت تركيا على تطوير علاقاتها بشعوب المنطقة باستخدام الدبلوماسية العامة، ولقد اعتمد هذا الاستخدام على الوعي بالهوية والروابط الثقافية والإسلامية للحصول على تعاطف الشعوب الإسلامية مع تركيا.

الدولة النموذج

تمكنت سياسات تركيا في مجال الدبلوماسية العامة من بناء صورة تركيا في أذهان الشعوب الإسلامية باعتبارها "الدولة النموذج". وتشكلت أهم سمات الصورة الجديدة من أنها دولة مسلمة وديمقراطية ومتقدمة اقتصاديا. كما لعب الربيع العربي دورا مهما في زيادة إدراك الشعوب لتركيا باعتبارها الدولة النموذج التي يمكن أن تشكل تجربتها إلهاما للشعوب في تحقيق التقدم والديمقراطية.

نموذج في استخدام الدبلوماسية العامة

يرى الباحثان أن حكومة حزب العدالة والتنمية نجحت في تقديم تركيا بوصفها نموذجا لاستخدام الدبلوماسية العامة في بناء العلاقات مع الشعوب؛ إذ بنت سياستها الخارجية على مفاهيم جديدة من أهمها أنها دولة مركزية وقائدة في منطقة الشرق الأوسط، وأدى ذلك إلى زيادة تأثير تركيا على المستوى العالمي، وفي النظام الدولي الذي أصبحت تحتل فيه مكانة مهمة باعتبارها دولة مركزية بحكم موقعها الجغرافي، ومكانتها الثقافية والتاريخية.

هذا يعني أن بناء القوة الناعمة على المستوى الإقليمي يفتح المجال لزيادة مكانة الدولة وتأثيرها على المستوى العالمي. وهذا يزيد من أهمية دراسة التجربة التركية باعتبارها مدخلا لتطوير علم الدبلوماسية العامة. فعندما يصبح للدولة دور قيادي في المنطقة المحيطة بها، فإن مكانتها العالمية وقوتها الناعمة تتزايد على المستوى الدولي؛ ويوضح ذلك أن حزب العدالة والتنمية ينطلق في التخطيط لبناء القوة الناعمة من دراسة علمية للواقع الإقليمي والعالمي حيث تضطر دول العالم للتعامل مع أهمية الدور الإقليمي الذي تقوم به، فالعلاقة معها تفتح إمكانيات لبناء علاقات مع دول أخرى في المنطقة.

سياسة خارجية متعددة الأبعاد

دراسة التجربة التركية تفتح أيضا المجال لتطوير التخطيط الإستراتيجي لبناء السياسة الخارجية المتعددة الأبعاد، التي لا تركز على بناء العلاقات الثنائية مع دولة معينة؛ فتركيا تمكنت من أن تصبح فاعلا دوليا تفتح العلاقة معها المجالات لتطوير العلاقات مع دول أخرى، وهذا ما أدركه كثير من دول العالم.

أسهم ذلك في زيادة قدرة تركيا على استضافة مؤتمرات دولية، وزيادة قدرتها على أن يكون صوتها مسموعا في منصات صنع السياسة العالمية.

وبذلك، تمكن حزب العدالة والتنمية من زيادة المكانة العالمية لتركيا، وتطوير دورها في السياسة الدولية، وأسهم ذلك في زيادة علاقاتها التجارية مع دول العالم.

وهذا يوضح أهمية الربط بين العلاقات على المستوى الإقليمي والدولي، وأنه كلما زادت مكانة الدولة وقوتها الناعمة في محيطها الإقليمي، أدى ذلك إلى زيادة قوتها العالمية، وتحولها إلى فاعل في السياسات الدولية.

يقول الباحثان إن حزب العدالة والتنمية نجح في بناء مؤسسات حديثة تعمل لبناء القوة الناعمة لتركيا، وتقوم بأنشطة الدبلوماسية العامة بطريقة مؤسسية حديثة.

الانسجام بين الإسلام والديمقراطية

نجح حزب العدالة والتنمية أيضا في تحقيق الانسجام بين الإسلام والديمقراطية، وتقديم تجربة للعالم الإسلامي يمكن أن تصبح نموذجا صالحا للتطبيق في الدول الإسلامية، وكان من الواضح أن دول الربيع العربي -مثل مصر وتونس- تطلعت إلى هذا النموذج، وتعاملت معه بتقدير واحترام. كما أن حزب العدالة والتنمية قدم نفسه للعالم باعتباره نموذجا لحزب له هوية إسلامية استطاع أن يبني تجربة ديمقراطية، ويحقق التقدم الاقتصادي لها. وهذا يوضح ماذا يمكن أن يفعل حزب إسلامي في ظل تجربة ديمقراطية، ولقد أدى ذلك إلى بناء صورة إيجابية لتركيا في العالم الإسلامي، وفي كثير من دول العالم.

كسب العقول والقلوب

دراسة التجربة التركية -كما أوضح الباحثان أكشل وأيرول بعض ملامحها- تبرهن على أن حزب العدالة والتنمية تمكن من كسب العقول والقلوب في العالم الإسلامي، وهذا يعني زيادة القوة الناعمة التركية باستخدام الدبلوماسية العامة.

وهكذا كان إدراك قادة حزب العدالة والتنمية لأهمية الدبلوماسية العامة في القرن الحادي والعشرين من أهم العوامل التي أسهمت في بناء قوة تركيا الناعمة على المستوى الإقليمي والعالمي. ولذلك، أنشأت الحكومة التركية مكتبا للدبلوماسية العامة يتبع رئاسة الجمهورية، كما أنشأت عددا من المؤسسات تتبع وزارة الخارجية، وأسهمت هذه المؤسسات في التخطيط الإستراتيجي لسياسات تركيا والقيام بالأنشطة التي تستهدف بناء القوة الناعمة لتركيا، كما أسهمت وزارة الثقافة والمؤسسات التعليمية في القيام بأنشطة اتصالية وإعلامية بهدف التأثير على الرأي العام على المستوى العالمي، ورواية قصة تركيا الجديدة لشعوب العالم، وتعريفها بالثقافة والفنون واللغة التركية.

تلك تجربة مهمة تستحق الدراسة لأنها يمكن أن تسهم في تطوير قدرتنا على بناء القوة الناعمة في القرن الحادي والعشرين، وتطوير الدبلوماسية العامة باعتبارها أساسا لبناء علاقات طويلة المدى بين الشعوب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.