أحداث شرق السودان.. اختلاط الأوراق أم كشف المستور؟

اغلاق الطريق القومي بشرق السودان
إغلاق الطريق القومي بشرق السودان (الجزيرة)

(1)
لم يكن تسريب تفاصيل اجتماع أطراف الحكومة السودانية حول قضايا الشرق مجرد جهد صحفي مهني، بل للأمر أبعاد أخرى تكشف حقائق ووقائع خفية، وأولى الإشارات أن ملخص الاجتماع كان لدى الطرف الآخر بعد زمن يسير من الاجتماع، فقد أورد رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة سيد محمد الأمين ترك في مخاطبة جماهيرية أن "سلك وسنهوري طالبا البرهان بمواجهة حاسمة".

وخالد يوسف هو وزير رئاسة مجلس الوزراء وعلي الريح سنهوري عضو مجلس الشركاء، وهو من قيادات حزب البعث، فهذا الحدث ينبئ بفقدان الثقة بين أطراف الحكم وقلة الخبرة في إدارة الخلافات ويوضح حجم الهوة بينها، لدرجة تسريب تفاصيل اجتماع مهم وأمني مع حساسية القرارات وما يترتب عليها.

والإشارة الأخرى أن المحتوى المنشور تحت عنوان "التفاصيل الكاملة للمشادة الكلامية بين البرهان وسلك" -وكما أوردت صحيفة "السوداني"- كان رواية من طرف واحد، ومع أهمية هذه الرواية فقد جاء ردا أو توضيحا لحديث السيد ترك، ولكن الإشارة الأخطر أن الحكومة -بشقيها العسكري والمدني- وحاضنتها السياسية تفتقدان الرؤية الموحدة لحل القضية، وما زالت في مرحلة بلورة الرؤى.

ففي 18 يوليو/تموز 2021 استلم وفد وزاري برئاسة وزير رئاسة مجلس الوزراء خالد يوسف خلال زيارة إلى شرق السودان مذكرة شاملة بالمطالب، وهي تطوير للمذكرة التي رفعها المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة في 17 فبراير/شباط 2020، وأهم مطالبها إلغاء مسار الشرق، وفي 30 سبتمبر/أيلول 2020 تسلم الفريق محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي توصيات مؤتمر سنكات بمطالبه، وأهمها اعتماد مبدأ تقرير المصير، وكل ذلك امتداد لمطالب رافقت نشأة مؤتمر البجا عام 1958، وتطور لحمل السلاح في 1994.

ورغم وجود كل هذا الإرث والتراكم فإن الحكومة ما زالت تبحث عن مداخل وقتية بدلا عن طرح رؤية جامعة، وكان توقيع اتفاق السلام بجوبا (أكتوبر/تشرين الأول 2020) واعتماد مسار الشرق منعطفا في مسار الانحدار.

الصراع في منطقة القرن الأفريقي قديم، والدوائر الاستخباراتية نشطة، بل إن محاولة السيطرة على ميناء بورتسودان لها تأثير على الواقع الراهن، وسبب لضغوط على الحكومة لإبقاء مسار الشرق بشخوصه وتفاصيله

(2)
3 زوايا مهمة في قضية شرق السودان:

أولا: تأثير الإقليم وتعقيداته الاجتماعية

ومن ذلك مشروعية المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، وعماده قبائل الهدندوة والعبابدة والأمرار والحلنقى والبشاريين، ومن العموديات "الأرتيقا والحساب والشنيابات والكميلاب والنوراب والأشراف".

وقد تحفظت بعض المكونات الاجتماعية القبلية، ومنها البشاريون، فيما غابت عن الحراك الراهن قبائل البني عامر (الناظر دقلل على إبراهيم)، والحباب (الناظر كنتباي حامد)، وهناك البعد الإستراتيحي للموانئ البحرية التي تمثل رئة الاقتصاد من الصادرات والواردات وحصاد الجمارك والتجارة العابرة (جنوب السودان وإثيوبيا وتشاد)، ويشمل 3 ولايات (البحر الأحمر وكسلا والقضارف) وتحده 5 ولايات أخرى.

وقد سعت أطراف القضية إلى التحشيد المجتمعي والسياسي لتعزيز دورها وتعميق تأثيرها، وأفلح مجلس البجا خلال فترة الإغلاق الأول (3 أكتوبر/تشرين الأول 2020) في كسب تأييد مجموعات أهلية وتيارات مطالبية، من بينها منبر البطانة الحر الذي أغلق منطقة البطانة (سهل يربط بين 5 ولايات هي القضارف وكسلا والجزيرة والخرطوم ونهر النيل) وتيار الشمال وأطراف أخرى.

ثانيا: فاعلية الدوائر الأجنبية

فكما تدون كثير من الشواهد والدراسات فهو فاعلية الدوائر الأجنبية في المنطقة، وكما جاء في مذكرة مجلس البجا 2020 وتحذيره من "تدخلات الدوائر العالمية المختلفة ومصالحها حول البحر الأحمر وموانئ الإقليم وحدوده المفتوحة على 3 دول (مصر وإريتريا وإثيوبيا)".

والصراع في منطقة القرن الأفريقي قديم، والدوائر الاستخباراتية نشطة، بل إن محاولة السيطرة على ميناء بورتسودان لها تأثير على الواقع الراهن، وسبب لضغوط على الحكومة لإبقاء مسار الشرق بشخوصه وتفاصيله.

ثالثا: تعقيدات الانتقال لتفاقم الأوضاع

من خلال مكائد السياسة والتجاذب والاستقطاب فإن الكثير من القوى السياسية تدعم مطالب الشرق، ولكنها متوجسة من الخلفيات السياسية لقيادة مجلس البجا (مشاركة في النظام السابق).

ورغم تأكيد مجلس البجا ودعمه ثورة التغيير والشباب فإن بعض القوى السياسية -خاصة ذات الطابع اليساري- لها موقف من الإدارة الأهلية ومن رمزية القبائل بشكل عام، مع أن المكون العسكري سعى لتأسيس حزب من هذه القبائل في 2019 تحت مقترح الحزب الأهلي، وذلك ضمن حالة استقطاب ما بعد فض الاعتصام 2019.

وأضعف كل ذلك قدرة الحكومة الانتقالية على اتخاذ قرار حاسم لمعالجة القضايا، وأصبحت الأمور ما بين مجلس الأمن والدفاع والمكون العسكري، وقد شكل في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2020 (لجنة للإعداد للمؤتمر التشاوري الدستوري الجامع للشرق) برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالي الفريق إبراهيم جابر، وفي إطار المبادرات المحدودة عين رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك الناشطة المجتمعية عائشة حمد مستشارة له للنوع الاجتماعي وهي نشطاء الشرق، وكما ترى فإن المعالجة لم تعالج جذور المشكلة وإنما محاولة لمزيد من الاستقطاب، وكل هذه الملفات لم تحرز تقدما.

(3)
فوتت بعض القوى السياسية التقليدية (حزب الأمة القومي) والحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة مولانا محمد عثمان الميرغني فرصة لعب دور مهم، فهذه منطقة نفوذ تاريخي للحزبين ومهما تباعدت الأزمان، ولها احترام ديني واجتماعي، ولم تبادر بطرح رؤية للحل، واكتفت بأدوار محدودة للوساطة والتأييد المتحفظ.

أيضا، غياب الفاعلية السياسية للأحزاب التقليدية وذات الجماهيرية أدى إلى تنامي ظاهرة العودة للقبيلة والجهوية، وشهدنا ذلك في الشمال كما في الشرق ودارفور، وحتى في وسط السودان، بل في العاصمة الخرطوم، وهذا الواقع المعقد يتطلب حنكة وإرادة، وكما قال الشاعر المتنبي:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن         لما يشق على السادات فعال

فالقضايا الوطنية الكبرى والمصالح العليا ينبغي أن تعلو على مظان الكسب السياسي والمعارك الصغيرة والضغائن والتشفي، فهذه قضية مفصلية ومحورية، ويمكن النفاذ منها إلى وحدة جامعة وحشد الطاقات، وقد تشكل "كوة" للمزيد من التشظي والتفتت، وكلما تأخرت المعالجة اتسعت دائرة التعبئة وشحن النفوس وبذر الخلاف.

إن الحل الأقرب هو مبادرة عقلاء من خبراء وعلماء ورموز مجتمع، ليس لتحقيق المطالب فحسب، وإنما لتقريب وجهات النظر وتهدئة الخواطر وتجسير المواقف، والتحذير من مخاطر الأجندة الأجنبية، فقد أصبح السودان مسرحا لسيناريوهات عديدة وأكبر من قدرة احتمال وطن موحد، وتقسيم السودان حاضر دائما في دوائر كثيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.