حرب العلمانية تعصف بتركيا من جديد

افتتاح المحكمة العليا في إسطنبول (مواقع التواصل)

منذ فترة طويلة، أصبح الجدل حول العلمانية في تركيا بعيدا عن اهتمام وسائل الإعلام، ولم يكن السبب سياسات حزب العدالة والتنمية الإسلامي أو النصر الذي حققه الحزب في حربه على العلمانية، بل على العكس، لقد كانت سياسة العدالة والتنمية مفاجئة للغاية وغير متوقعة فيما يتعلق بالعلمانية.

لقد تم إغلاق هذا النقاش عبر تغيير معنى العلمانية -إذ كان يُنظر إليها في تركيا على أنها مناهضة للدين- وذلك عبر تسليط الضوء على معنى الحرية الدينية. أدت تلك الخطوات إلى التأثير على الشريحة الأكثر تعصبا للعلمانية من دون شن حرب علنية عليها. فتم التركيز على العلمانية البريطانية والأميركية وحتى الألمانية، بدلا من العلمانية الفرنسية، وإثبات أنها لا تتناقض مع معتقدات الإنسان المسلم، وبدا الأمر كأنه اتفاق ضمني على تناولها من هذا المنطلق.

في الآونة الأخيرة، أثير جدل كبير جدا في تركيا بعد افتتاح مبنى المحكمة العليا في إسطنبول. ففي ذلك الافتتاح دعا رئيس الشؤون الدينية الدكتور علي أرباش دعاء يسيرا افتتاحا للمبنى قال فيه: "اللهم يا مفتح الأبواب، افتح لنا خير الباب. اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك. اللهم يا محوّل الحال والأحوال، حوّل حالنا لأحسن الأحوال"، ثم دعا أن يكون افتتاح هذا المبنى خيرا وبركة على الأمة التركية، ثم أشاد بالنواب والقضاة الذين حكموا في المحكمة العليا على مدى عقد ونصف من الزمان، وأنهم بذلوا الكثير والكثير من الجهد لأداء العدالة التي أمر بها الله، ثم قرأ بعض آيات القرآن والأحاديث النبوية التي تتحدث عن العدل وإقامته بين الناس. فانتفضت المعارضة بسبب هذا الدعاء، ووصفه بعض المعارضين بأنه من طقوس القرون الوسطى. ووصفته المعارضة بالخطأ الفادح، وأن هذا لا ينتمي إلى العالم الطبيعي ولا إلى تركيا. هاجمت المعارضة الرئيس رجب طيب أردوغان أيضا باعتباره المسئول عن وجود مثل هذه المظاهر في تركيا.

الجدل الذي ثار والهجوم الحادث بسبب هذا الدعاء يعيدنا إلى مفهوم العلمانية الذي تركناه وراءنا منذ زمن بعيد -المفهوم المليء بالعنف والتعصب والذي أصبح جزءا من الماضي- لكن يمكننا ملاحظة أن الموقف العلماني البدائي لم يتغير ولا يزال يسيطر على عقول البعض؛ أولئك الذين لا يحترمون الآخرين ويرفضون أي رؤية مختلفة، ينتظرون أي فرصة لينتعشوا ويعودوا إلى الواجهة من جديد.

وهذا يجعلنا نطرح بعض الأسئلة: هل تكمن المشكلة في دعاء رئيس الشؤون الدينية؟ أم في دعائه وهو يرتدي العباءة؟ أم في أنه قام بذلك عند افتتاح المحكمة العليا؟ هل يتعارض أي من هذه الأمور مع مفهوم العلمانية؟

في الحقيقة، لا علاقة للعلمانية بالاعتراض على دعاء الدكتور أرباش، فالأمر يتعلق بالإسلاموفوبيا. لقد أصبحت العلمانية أشبه بعبارة مقدسة يتم استدعاؤها لإظهار عداء شخص ما للإسلام.

تطورت العلمانية في التاريخ الأوروبي باعتبارها مشروع سلام اجتماعي لضمان تعايش الأديان المتصارعة فيما بينها من دون تدمير أو قمع أو ظلم، وكانت تعمل وفقا لهذه الآلية التاريخية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا، باستثناء فرنسا. لذلك، تتطلب العلمانية -التي تقوم على ضمان التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع- تعاون الدول فيما بينها.

في هذه المرحلة بالذات، يمكننا رؤية أن العلمانية اختلفت عما كانت عليه في الماضي، فقد تحولت إلى رهاب أو كراهية ضد الدين، ولا سيما الإسلام. هذه العلمانية لا علاقة لها بالعلمانية كما ينبغي أن تكون عليه.

لفترة طويلة، ظل الجدل حول العلمانية بعيدا عن الصحافة؛ إذ تحقق النجاح في الحفاظ على تركيا بعيدا عن هذا الجدل السخيف ليس عن طريق تدمير العلمانية، بل عن طريق وضعها في مكانها الصحيح، وجعلها ذات فاعلية أكبر؛ فاعلية تضمن حرية الدين والضمير، أي عدم الإكراه في الدين، وعدم ممارسة أي اضطهاد ديني على أي شخص. إذ يجب على الدولة أن تخدم مواطنيها على قدم المساواة من دون أي تمييز ديني أو فلسفي، كما لا يجوز منع أي شخص من العيش والتعبير عن عقيدته ونقلها إلى الأجيال القادمة عبر التعليم، مهما كانت تلك العقيدة.

من الواضح أن ممارسات الماضي لا علاقة لها بالعلمانية بهذا المفهوم. فلقد كانت العلمانية في تركيا بعيدة عن الحياد تجاه جميع الأديان، ولم تكن تضمن الحرية الدينية. على العكس، كان الأمر أشبه بفلسفة وأيديولوجية متكاملة، وكان يُنظر إلى الدين عموما على أنه خرافة، وهو تصور خاطئ، حتى من منظور العلمانية الفرنسية.

كان فهم العلمانية القائم على رؤية الأديان -وخاصة الإسلام- على أنها خرافة منطلقا للسعي نحو محو الإسلام من الحياة الاجتماعية والسياسية. كما كانت العلمانية أيضًا بعيدة كل البعد عن كونها مبدأ منظمًا يمنع الأديان المختلفة من ممارسة الضغوط على بعضها بعضا، بما يحقق حرية الدين على المستوى الاجتماعي.

في الواقع، تطورت العلمانية في التاريخ الأوروبي باعتبارها مشروع سلام اجتماعي لضمان تعايش الأديان المتصارعة فيما بينها من دون تدمير أو قمع أو ظلم، وكانت تعمل وفقا لهذه الآلية التاريخية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا، باستثناء فرنسا. لذلك، تتطلب العلمانية -التي تقوم على ضمان التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع- تعاون الدول فيما بينها.

اليوم، من المستحيل أن نشاهد مثل هذا الجدل الواسع الذي أثير في تركيا بسبب قيام رجل دين بالدعاء في افتتاح مؤسسة قضائية، في أي من الدول الأوربية، بل سيكون من المثير للسخرية في أوروبا طرح مثل هذا النقاش باسم العلمانية. وبما أن هدف الدولة والأديان هو خلق مجتمع يتمتع بالعدل والرفاه والسلم، فإن تعاون الدولة مع المؤسسات الدينية شرط أساسي لنجاح العلمانية.

يظهر هذا التعاون بشكل جلي بين الدولة والكنيسة في إنجلترا، حين كانت الدولة تابعة للكنيسة الأنجليكانية، وفي ألمانيا التي تبنت العلمانية بشكل مؤسساتي في المجتمع الذي كان ينقسم بالتساوي تقريبًا بين الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية. وفي الولايات المتحدة، هناك نص دستوري يمنع الدولة من سن أي قوانين تقيد الحريات الدينية.

في الواقع، لم نكن نسمع عن العلمانية في تركيا لفترة طويلة، ولكن المفهوم الذي أثير مؤخرا غيّر مجرى الأمور. ولم تكن العلمانية في تركيا مبدأ تنظيميا يعمل على ضمان السلم الاجتماعي، بل كانت تهدد السلم شكلا ومضمونا؛ إذ كانت أشبه بوصاية على معتقدات الناس وقيمهم، لأنها تعاملت مع تلك المعتقدات -أي الإسلام وكافة مظاهره- على أنه رجعية وأيديولوجية استعمارية.

ورغم أن دورها الحقيقي هو أن تقف على الحياد بين الأديان، فقد كانت في تركيا أشبه بدين مستقل بذاته وله مقدساته.

عندما تلقي نظرة على تصور بعض العلمانيين لمفهوم العلمانية، فإنك لا تلاحظ اختلافا عن أي خطاب ديني، فما الفرق بين شخص يقول عن نفسه "أنا علماني" أو "أنا مسلم" أو "أنا مسيحي" أو "أنا يهودي"؛ يكاد لا يوجد أي فرق في المعنى.

كان يُنظر إلى العلمانية على أنها منظومة تساعد على تجنب الصراع بين أتباع الأديان المختلفة، ولكن في ظل حكم أصحاب التصور الراديكالي، نشأت حاجة حقيقية إلى حماية العلمانية من العلمانيين أنفسهم. وفي السنوات الأخيرة، تمت تلبية هذه الحاجة والقضاء على التبعات والآثار الخطيرة للعلمانية.

أعيدت العلمانية إلى مكانها الصحيح لتلعب دورها بفعالية، لذلك لم نكن نسمع عنها شيئا في وسائل الإعلام. ولكن يبدو أن عمامة رئيس الشؤون الدينية علي أرباش أحيت الحنين العلماني إلى الماضي، وأنعشت النقاشات المنسية حول طبيعة العلمانية. ومع ذلك، لا بد للعاصفة أن تهدأ، وأن تعود الأمور إلى مجاريها، لأنه لا يمكن في تركيا اليوم فرض أي معتقد على أي شخص، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال إرجاع العلمانية إلى صيغتها القديمة المعادية للإسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.