لماذا لم تعترف تركيا بطالبان حتى الآن؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (الأناضول)

منذ سيطرة حركة طالبان على معظم الأراضي الأفغانية إثر بدء الانسحاب الأميركي، تتعامل تركيا مع الحركة على أنها أمر واقع أو "حقيقة" كما قال الرئيس التركي، بما في ذلك الثناء على بعض تصريحاتها وإبداء الرغبة في الحوار معها، إلا أن ذلك لم يشمل اعترافاً صريحاً ومباشراً بها على ألسنة المسؤولين الأتراك حتى اللحظة.

سحب القوات

في 25 أغسطس/آب الجاري، أعلنت وزارة الدفاع التركية -في بيان لها- عن بدء سحب وإجلاء الجنود الأتراك من الأراضي الأفغانية، وتحديداً من مطار حامد كرزاي الدولي في كابل.

تتعامل تركيا مع الواقع الجديد، وحركة طالبان جزء مهم بل ربما هي الأهم منه، لكنها لم تعمد إلى الاعتراف المباشر والصريح بها وبسيطرتها على البلاد. فلدى سؤاله عما إذا كانت بلاده ستعترف بطالبان، أجاب وزير الخارجية التركي "علينا أولاً أن نرى كيف ستشكَّل الحكومة"

وقال بيان الوزارة إن "تركيا ستبقى إلى جانب الإخوة الأفغان طالما أراد الشعب الأفغاني ذلك". وبعد الإشارة لعمل القوات على إجلاء 1129 مواطناً تركياً من أفغانستان خلال الأيام الماضية، أشار البيان إلى أن إجلاء القوات بدأ "بعد عدة تواصلات وبنتيجة تقييم الوضع والظروف" القائمة في أفغانستان، مسجلاً أنها "تعود إلى أراضي الوطن مجللة بالفخر لأنها أدت المهمة الموكلة إليها بنجاح".

من جانبه، قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن إن عملية سحب الجنود قد بدأت، ويتوقع أن تنتهي خلال 24-36 ساعة، بما يعني أنها ستنتهي قبل نهاية الشهر، وهو الموعد النهائي لخروج القوات الأجنبية جميعها، والحد الزمني الذي تهدد طالبان بعده باستهداف من يبقى منها.

وبذلك تكون تركيا قد تجنّبت أي توتر مع طالبان بخصوص قواتها هناك، ولا سيما أن عدداً من تصريحات قادة الأخيرة أكد على أن موقفها عام ومبدئي تجاه الوجود الأجنبي في البلاد، وليس موجهاً حصراً لتركيا التي يريدون علاقات جيدة معها.

اللافت أن قرار الانسحاب أتى في ظل تصريحات من الجانبين حول الرغبة في حوار مثمر وإدامة العلاقات مستقبلاً بما يفيد الجانبين والبلدين، بل لعل الهدف كان عدم تقويض أسس الحوار بتجنيبه هذه العقبة.

لا اعتراف صريحا

سبق لأنقرة أن عبّرت على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو عن إدراكها للمتغيرات الجذرية في المشهد الأفغاني، وبما يمسُّ بشكل مباشر إمكانية بقاء قواتها هناك. كما أشادت ببعض تصريحات طالبان بعد سيطرتها على البلاد، ولا سيما تلك المتعلقة بالحقوق والحريات، وتأكيد تغير نهجها عن السابق، على ألسنة عدة مسؤولين. لكنها أيضا طالما قرنت هذه الإشادة برغبتها في "رؤية تجسُّد هذه التصريحات في السياسات وعلى الأرض"، وهو ما يحيل على "التفاؤل الحذر" الذي تقارب به أنقرة طالبان وفق كلام أردوغان.

تتعامل تركيا إذن مع الواقع الجديد، وحركة طالبان جزء مهم بل ربما هي الأهم منه، لكنها لم تعمد إلى الاعتراف المباشر والصريح بها وبسيطرتها على البلاد. فلدى سؤاله عما إذا كانت بلاده ستعترف بطالبان، أجاب وزير الخارجية التركي "علينا أولاً أن نرى كيف ستشكَّل الحكومة".

في تحليل خلفية هذا التأخر أو "التفاؤل الحذر"، يمكن رصد الأسباب الرئيسة التالية:

الأول، رغبة أنقرة في التناغم مع موقف المجتمع الدولي وخصوصاً حلف شمال الأطلسي من طالبان، وعدم الانفراد بالاعتراف بها، ولا سيما أنها كانت جزءاً رئيساً من قوات الناتو وساهمت ضمن مهمته في أفغانستان، واليوم تخرج قواتها مع باقي القوات.

الثاني، ثمة حذر واضح في التعامل مع التصريحات الإيجابية الكثيرة التي صدرت عن طالبان في الأسابيع الأخيرة والتي تخدم معنى أنها تغيرت كثيراً عما كانت عليه قبل عقدين، وخشية من أن تكون مجرد أداة لتحصيل القبول المحلي والدولي وتمرير الفترة الانتقالية بالسلاسة المطلوبة. ولذا فإن أنقرة لا تريد أن تتعجل في الاعتراف بحركة قد ترتكب انتهاكات أو مظالم أو تتنكر لتصريحاتها في المستقبل القريب.

الثالث، ترغب أنقرة في أن ترى سياسات طالبان لا تصريحاتها فقط، ولا تريد أن تعطيها "شيكاً على بياض" قبل اتضاح مسارها وسياساتها وخياراتها.

الرابع، تود أنقرة ألا تنفرد طالبان بالحكم بل أن يكون هناك حكومة وطنية موسعة تضم مختلف الفرقاء، ولا سيما التيارات السياسية التي تعبر عن شرائح "تركية" مثل الطاجيك والأوزبك والتركمان. وكان الرئيس التركي أكد على انفتاح بلاده على كافة الأطراف في أفغانستان مع اهتمام خاص بهذه الشرائح، كما رأى الناطق باسم الرئاسة أنَّ تشكيل حكومة تشمل وتحتوي وتحتضن الجميع "امتحان اللحظة والخطوة الأهم" بالنسبة لطالبان. وأضاف قالن أن تشكيل حكومة تدخل بها وتقرها وتدعمها "المجموعات العرقية والسياسية" في البلاد، سيسهّل الأمور على صعيد علاقات أفغانستان مع العالم وكذلك على صعيد علاقات تركيا نفسها بها.

الخامس، تدرك تركيا أن الحوار الذي ستجريه مع طالبان، والذي قد بدأ فعلاً، سيكون بمثابة عملية تفاوضية بين الجانبين للوصول إلى تفاهم ما بخصوص الملامح المستقبلية للعلاقة بين الجانبين على قاعدة الربح للجميع. وبالتالي قد تكون مسارعة تركيا للاعتراف بطالبان تفريطاً بورقة يمكن أن تفيدها في "التفاوض" المنتظر.

خاتمة

في الخلاصة، شأنها شأن دول أخرى كثيرة، ستتعامل تركيا مع المستجدات في أفغانستان من زاوية الواقعية السياسية، وليس لديها "فيتو" على التواصل مع طالبان، لكنها تفضل أن يكون اعترافها ثم تعاملها مع "النظام الجديد" أو "الحكومة" التي ستشكل وليس طالبان بشكل منفرد.

ومن المفهوم ضمناً أن تأخير هذا الاعتراف لحين تشكيل الحكومة، التي تريدها أنقرة تشاركية وتضم الجميع، يعدُّ ضغطاً منها على طالبان لتذهب لهذا الخيار ولا تنفرد وحدها بالسلطة.

ورغم سحب تركيا قواتها، وعدم اعترافها حتى اللحظة بطالبان، فإن ذلك لا يعني انقطاع التواصل أو انسداد القنوات بينهما، بل ثمة تواتر في التقارير التي تحدثت عن بدء الحوار بينهما عبر عدة طرق.

كما أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تركيا خسرت تماماً ونهائياً أي دور لها في مستقبل أفغانستان، بل لعل العكس هو الصحيح، في ظل رغبة طالبان في التعاون معها وإدراكها أن تركيا منبر مناسب -ويبدو موثوقاً لها- للانفتاح على الخارج. ولذا، فالدور التركي في مستقبل أفغانستان ليس مقصوراً فقط على تعاون اقتصادي وتجاري، ولكن حتى المشاركة في إدارة المطار قد تكون ممكنة مستقبلاً، فضلاً عن المجالات السياسية والعسكرية والأمنية المحتملة.

لقد أصرّت طالبان على انسحاب القوات التركية بعدِّها جزءا من قوات الناتو، لكنها أعلنت مراراً رغبتها في التعاون مع تركيا بشكل خاص كونها "دولة مسلمة شقيقة". مما يعني أن دوراً تركياً في إدارة المطار قد يُطرح على الطاولة مستقبلاً، لافتقاد طالبان الخبرة المطلوبة لذلك مقابل خبرة تركيا الطويلة وثقة طالبان بها أكثر من غيرها. وقد تكون إدارة المطار مدنية لا عسكرية هذه المرة، لكنه أمر سَيُبَتُّ به لاحقاً "وفق الظروف والأوضاع" وسيكون مناط حوار تركي مع طالبان، وفق تصريحات قالن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.