نهاية الاستثنائية الإسلامية.. هل الإجابة كانت تونس؟

الرئيس التونسي قيس سعيد (وكالات)

في المرات القليلة التي كان يتاح فيها الحوار في السجن (2015-2019) بين بعض قيادات الإسلاميين كانت تجربة النهضة حاضرة باعتبارها مثال نجاح كان يجب على إخوان مصر أن يحذوا حذوه من جهة:

  • القدرة على بناء التحالفات السياسية المتسعة العابرة للأيديولوجيا
  • فصل الدعوي عن السياسي
  • المرونة السياسية أو البراغماتية
  • الحسم الفكري في العلاقة مع مسائل الديمقراطية والحداثة والعلاقة بالدولة الوطنية، بعبارة أخرى فإن مثال النهضة في تونس تم تقديمه لعموم الإسلاميين في المشرق باعتباره هو الحل لمعضلتهم مع السياسة، وعند بعض الباحثين من أمثال آصف بيات نموذجا لما بعد الإسلام السياسي، وعند باحثين آخرين اعتبرت تجارب الإسلاميين في المغرب العربي استثناء عن الحالة الإسلامية في المشرق.

من هنا تأتي أهمية التوقف طويلا أمام الدلالات التي تطرحها الأزمة التونسية الحالية على الإسلاميين في المنطقة، فهي وإن كشفت عمق الأزمة التي يمرون بها في حقبة الربيع العربي إلا أن القراءة المعمقة من قبلهم لهذه الأزمة من شأنها أن تساعد على إعادة تموضع الإسلامية في المجال السياسي.

الإسلاميون في السلطة -كما في المعارضة- يتصرفون مثل الفواعل السياسية الأخرى حين تحركهم إدراكاتهم لمصالحهم الذاتية التي يبغون تحقيقها، ويبنون تحالفاتهم ليس وفق أسس أيديولوجية، بل كان التنافس بينهم أشد من تنافسهم مع الآخرين

منهج النظر إلى الأزمة

4 محددات يجب -من وجهة نظري -أن نتعامل بها مع ما يجري في تونس:

أولا: نهاية الاستثنائية الإسلامية

الانطباع الرئيسي الذي تخرج به بعد الانتهاء من  متابعة أداء الإسلاميين السياسي في الربيع العربي -خاصة في موجته الثانية 2019، وقد بات بعض أطرافهم في الحكم أو مساندين له- هو تطبيع هذه الحركات مع الواقع العربي بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية وإيجابية، مما يمكن معه القول بانتهاء "الاستثنائية الإسلامية" التي حاول أن يصمها بها تابعوها ومعارضوها على حد سواء وإن اختلفت الدوافع بينهما، فالاتباع يريدون أن يضفوا عليها نوعا من القداسة، في خلط واضح بين النص المنزل والتعبير عنه خطابا وممارسة، أما المعارضون فقد أرادوا التشكيك في قدرتهم على الاندماج في النظام السياسي سبيلا لحرمانهم من الوجود، أما المحللون والباحثون فقد رأوا في علاقتهم بالديمقراطية ضرورة توفر عدد من الاشتراطات لضمان نجاح اندماجهم في النظام السياسي القائم وكأن هذا مما لا تطلبه القوى السياسية الأخرى.

الإسلاميون في السلطة -كما في المعارضة- يتصرفون مثل الفواعل السياسية الأخرى حين تحركهم إدراكاتهم لمصالحهم الذاتية التي يبغون تحقيقها، ويبنون تحالفاتهم ليس وفق أسس أيديولوجية، بل كان التنافس بينهم أشد من تنافسهم مع الآخرين، والأهم أن الربيع العربي بموجتيه أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنهم لا يملكون مشروعا فارقا للسلطة بل يتصرفون كأي حاكم عربي: الانتهازية السياسية التي طبعت تجربة وممارسة كثير منهم في الحكم وخارجه، وتقلبات مواقفهم وتحالفاتهم، وتعدد انتقالاتهم من خندق إلى آخر، وتفشي مظاهر الفساد في بعض أوساطهم، مما أسقط عنهم لبوس "التقوى" وأزاح من فوق رؤوس قادتها "هالة القداسة".

وقد أثبتت السنوات العشر الأخيرة أن المشروع في بنيته السياسية متهافت لدرجة لا تؤهله ليكون مشروعا للحكم يقدم البديل للدولة العربية المأزومة، على العكس أظهرت تجربة الإسلاميين في السياسة أن المشروع الذي حملته حركاتهم يزيد الواقع تأزما، إذ هو منفصل بقدر كبير عن متطلبات الواقع وما يمليه، ويميل في معظمه إلى الشعاراتية التي لا تدعمها برامج ومشاريع واضحة للحكم، والأهم أن سردية هذه الحركات التي أسست عليها شرعيتها قد انتهت كما أقدر، أو على أقل تقدير باتت محل تساؤل من أتباعها ومناصريها قبل منافسيها ومنتقديها.

استندت سردية الحركات الإسلامية في القرن الـ20 إلى مرتكزات أربعة: شمولية الإسلام، أي تعلق المرجعية الإسلامية بشؤون الحياة جميعا، محورية السلطة كأداة أساسية لتطبيق الشريعة، ورفض الدولة الوطنية والسمو فوقها، بل محاولة إعادة بناء الأمة نفسها على أساس هوية وشرعية جديدتين باستخدام التنظيم الشامل المقدس الذي تتأتى قدسيته من مهمته.

لن نناقش مكونات هذه السردية وإلى ماذا انتهت وما هي عناصر فشلها ونجاحها، لكن الأهم أن استجابة النهضة على مدار العقد الماضي (عقد الربيع العربي) كانت محاولة للخروج عن هذه السردية، لكن المشكل في هذا أن الاستجابة لم تستطع أن تقدم سردية جديدة مختلفة عن سردية القرن الـ20 وقادرة على أن تدرك طبيعة النموذج الانتفاضي العربي.

ذلك النموذج الذي جسدته حركة الجماهير في الشوارع، ومن ثم فقد وقعت في حبائل الإشكالات التي تفرضها سردية القرن الـ20، ولنضرب مثالا على ذلك وهو الشكل التنظيمي الذي اتخذته الحركة حين انتقلت بالكلية من التنظيم الشامل إلى الحزب السياسي، ولم تقرأ بعمق كاف ما تطرحه تطورات قرننا الحالي من إشكالات أكثر اتساعا من هذا التشكل التنظيمي الوحيد، وهنا تقدم لنا التجارب المعاصرة شكل الحركة الاجتماعية التي تجمعها رؤية وأهداف مشتركة مع صيغ تنظيمية متعددة، كما تقدم لنا خبرة الربيع العربي شكل الحركات الاجتماعية والتنظيمات الشبكية نموذجا.

خلاصة هذا المحدد أن الجماهير -سواء في مصر 6/30 (2013)، أو 25 يوليو/تموز (2021)- قد نظرت إلى الأحزاب الإسلامية باعتبارها طرفا سياسيا كبقية الأطراف الأخرى، واستطاعت أن تفصل بين المكون الديني في خطاب هذه الحركات وبين ممارساتها السياسية.

ثانيا: سردية الربيع العربي

جادلت في كتابي عن الربيع العربي وما زلت بأن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن الـ20، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد، فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقرت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها.

سردية الانتفاضات العربية بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/ التوزيع العادل للثروة والفرص، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية، وفي القلب منه قضية فلسطين كما أكدتها انتفاضة القدس 2021

القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة، فالقديم قاد إلى الانفجار ولم يعد قادرا على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة، ولكن الجديد لم يتبلور بعد، وهذه هي مهمتنا التاريخية كما أعتقد، واللحظة ليست خواء كما يظن البعض، بل تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة الإسلاميين أو غيرهم على التقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سيستردون حضورهم وزخمهم الذي تراجع إلى حد كبير.

أنا أدرك أن مشاريع الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعنى الذي يقدمه فوكو، إنها شكل أو مقترح للحياة، ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته، وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي وتصور معرفي للحياة والدولة تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده، تصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.

سردية الانتفاضات العربية بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/ التوزيع العادل للثروة والفرص، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية، وفي القلب منه قضية فلسطين كما أكدتها انتفاضة القدس 2021.

هذا الحلم يكاد يكون عليه توافق من الطبقتين الوسطى والدنيا وبعض شرائح من الطبقة الوسطى العليا، لكن قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغ.

وهنا يصبح السؤال هو: ما مدى قدرة الإسلاميين على تجسيد هذه السردية في واقع الناس من خلال برامج سياسية للحكم، خاصة أن هذه الجماهير قد منحت عبر صناديق الانتخابات تفويضا لهم للتعبير عن تطلعاتها المشروعة في حياة كريمة إلا أنهم خذلوها؟.

ثالثا: تونس وأزمات التحول الديمقراطي

هناك دائما في النظر الغربي الذي تسرب إلى قطاعات من باحثينا ونخبتنا أن لهذه المنطقة استثنائية، خاصة في علاقتها بالحداثة والديمقراطية، وقد اتخذ ذلك تغليب العناصر الثقافية/ القيمية في مقابل العوامل البنيوية والهيكلية في التحليل، وقد اعتبر نموذج تونس مهما لأنه ساعد في تبديد الأسطورة القائلة إن الديمقراطية لم تكن ممكنة في العالم العربي عندما انزلقت البلدان المحيطة بها إلى حرب أهلية أو انحدرت إلى الحكم الاستبدادي.

أجرت تونس انتخابات وطنية ومحلية حرة ونزيهة، واعتمدت دستورا ديمقراطيا ليبراليا، وشهدت انتقالا سلميا للسلطة، وتم التوافق على بناء الدستور والمؤسسات السياسية عبر الحوار الممتد الذي استخدم في معالجة أزمات الفترات الانتقالية.

لكن المشكل أن التجربة التونسية قدمت دائما باعتبارها استثناء متعدد الأبعاد، فهي استثناء من الربيع العربي، والإسلاميون فيها استثناء، وشعبها ونخبتها استثناء من المنطقة، وطبقتها الوسطى المتعلمة والمنفتحة على الغرب استثناء، وهكذا حكمت الاستثنائية التجربة، ومن هنا كانت الصدمة أكبر، لكن المؤكد أن التجارب المقارنة للتحول الديمقراطي تدلنا على أن مساره لا يسير في خط مستقيم تصاعدي لكنه يتخذ منعرجات ومنحنيات، وتونس ليست استثناء من ذلك وإن مثلت مختبرا مهما لعديد المسائل والقضايا التي يثيرها هذا التحول وطبيعة الانتقال في المنطقة العربية.

رابعا: الاستقطاب الإسلامي العلماني

الأطروحة الأساسية التي أقدمها هي أن الصراع الإسلامي العلماني في الربيع العربي كان ولا يزال ذا طبيعة سياسية تختبر فيها أطرافه المتعددة موازين القوى بينها في ظل هواجس ومخاوف متبادلة، وعدم يقين في نتائج العملية السياسية، وامتزاج شديد للمشاعر الدينية بالمصالح السياسية، وأن ما ظهر من صراع حول موقع الشريعة من الدستور لم يكن -من وجهة نظري- إلا صراعا على النفوذ وبحثا عن التأييد السياسي واستخداما للتعبئة والحشد للمؤيدين، فالشريعة كانت إحدى أدوات الصراع ولم تكن جوهره.

ولقد أبرزت الموجة الثانية هذه الحقيقة بجلاء، لأننا بتنا بإزاء فواعل تسيطر على سلوكها السياسة أكثر من الأيديولوجيا، ففي الموجة الأولى كانت حركات الإسلام السياسي في المعارضة التي تكافح ضد الحكام والأنظمة القائمة.

وفي الموجة الثانية، في 3 من الحالات الأربع التي جرت بها الاحتجاجات (لبنان والسودان والعراق) ويضاف لها تونس الآن نرى الإسلاميين إما حكاما أو داعمين للنظام القائم، وهذا يخلق ديناميكية مختلفة تماما للإسلام السياسي، ففي بعض البلدان حشدت فصائل الإسلاميين في المعارضة ضد أقسام أخرى من الإسلاميين في السلطة، ويمكن تفسير ذلك على أنه تعبير عن تعميق الانقسام داخل الحركات الإسلامية في العالم العربي أو كفرصة لعدد لا يحصى من الإسلاميين لتوضيح مواقفهم المتباينة بشأن القضايا السياسية الرئيسية، كما يتعلق الأمر بالتعددية التي باتت حقيقة واقعة في مجمل التيارات السياسية العربية.

تدلنا خبرة الربيع العربي أن الاستقطاب الإسلامي العلماني استخدم للتغطية على أنواع أخرى منه كانت أولى بالاهتمام، مثل الصراع بين سياسة الشارع وبناء المؤسسات، أو الصراع بين الجهوي/المحلي وبين المركزي، والصراع بين الثوري والإصلاحي، وآخرا وليس أخيرا بين المطالب الاجتماعية/الاقتصادية وبين السياسية.

لكن الحالة التونسية تقدم لنا درسين مهمين في هذا النطاق: الأول وبخلاف الحالة المصرية هو وجود قطاع معتبر من نخبتها ومؤسساتها المدنية لم يؤيد "انقلاب" قيس سعيد، وعنده مخاوف وهواجس حقيقية في ما يخص المسار الديمقراطي في تونس، ولا يعني هذا بالضرورة تأييد موقف النهضة، بل يحملها مسؤولية كبيرة عما آلت إليه الأوضاع.

في المقابل، فقد أبرزت خبرة الربيع العربي -ليس في تونس وحدها ولكن في مجمل المنطقة العربية- أن هناك نخبة علمانية تتعدد مكوناتها بين ليبرالية وقومية ويسارية عازمة على التضحية أو مقايضة القضاء على الإسلاميين جميعا بالديمقراطية، وترى في هذه الأزمات -التي يمكن أن تتعرض لها الفترات الانتقالية- فرصة لتحقيق ذلك.

هذا الموقف يجعل هذه النخب أمام مأزقها التاريخي، فهذه الصيغة أيضا أي التحالف مع أنظمة استبدادية للقضاء على الإسلامية في المجال السياسي قد ثبت فشلها، فلا الإسلاميون قد انتهوا من المشهد (بل تدل استطلاعات الرأي على نمو شعبيتهم من جديد حال محاربتهم)، ولا تم تحقيق ديمقراطية وعدالة اجتماعية وحداثة كما كانوا يستهدفون.

بعبارة أخرى، إن الدرس الذي يجب أن تتعلمه هذه النخب من عقد الربيع العربي أن الصيغة التي تطرحها الأنظمة العربية جميعا في مناقضة صريحة لسردية الربيع العربي لم تجن منها الشعوب العربية إلا القليل من تحسين حيواتها، وأدت إلى حروب أهلية ونزوح جماعي.. إلخ، وبات التساؤل حول مستقبل الاستقرار على المدى البعيد مطروحا بين الخبراء والمختصين في المنطقة الآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.