مأساة أفغانستان والمجمع الصناعي العسكري الأميركي

7215 يوما من الوجود الأميركي العسكري في أفغانستان، منذ إعلان بدء القتال في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2001 وصولا لموعد استكمال الانسحاب رسميا في 31 من أغسطس/آب الجاري، جعل منها الحرب الأطول في التاريخ الأميركي.
وتشير التقديرات المتحفظة بشأن قيمة التكلفة المادية التي تحملتها الخزانة الأميركية خلال الـ20 عاما الماضية إلى مبلغ تريليون دولار، في حين تؤكد "نيويورك تايمز" أن المبلغ لا يقل عن 2 تريليون دولار، بيد أن مشروع "تكاليف الحرب" (Cost of War) في جامعة براون قدر التكلفة بما لا يقل 2.27 تريليون دولار، أو ما يقرب من 241 مليون دولار يوميا. نعم! أنفقت الإدارات الأميركية الجمهورية والديمقراطية المتتالية 241 مليون دولار يوميا على حرب خاسرة لا تخدم مصالح أميركية إستراتيجية، باستثناء تحييد تنظيم القاعدة المسؤول عن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وهو ما تم في أول 3 أشهر من القتال.
ولا يمكن تشكيل صورة متكاملة لفهم ما جرى ويجري في أفغانستان من دون التطرق لطبيعة "المجمع الصناعي العسكري". فبعد فترتي حكم امتدتا من عام 1953 إلى 1961، حذر الرئيس دوايت أيزنهاور في خطابه الوداعي من "النفوذ الذي لا مبرر له، سواء كان بطلب أو بغير طلب من المجمع الصناعي العسكري"، وقصد بذلك التحالف بين المؤسسة العسكرية الضخمة ممثلة في وزارة الدفاع (البنتاغون) وكبريات شركات الصناعات العسكرية.
ويتمتع هذا التحالف بنفوذ واسع على الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ويمرر الكونغرس سنويا وبصورة روتينية وبدون تأثر بالحزب صاحب الأغلبية في مجلسيه -النواب والشيوخ- ميزانيات الدفاع من دون نقاشات أو تحفظات ذات قيمة، وتعد الميزانية العسكرية إحدى القضايا النادرة التي يتنافس فيها الحزبان على إرضاء البنتاغون.
يُذكر أن الميزانية العسكرية الأميركية، التي تقترب قيمتها من 800 مليار دولار سنويا، تتخطى إجمالي ميزانيات الدفاع لأكبر 10 دول من حيث الإنفاق العسكري، وهي الصين والسعودية وروسيا والهند وبريطانيا وفرنسا واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية والبرازيل.
وتحكم الحسابات الانتخابية لأعضاء الكونغرس مواقفهم من المخصصات العسكرية، أو الإبقاء على قواعد عسكرية وعتاد لا حاجة لهما، ويضغط أعضاء الكونغرس للإبقاء على خطوط إنتاج المدرعات والدبابات والطائرات التي لم تعد هناك حاجة عملية لدى القوات الأميركية لاقتناء المزيد منها.
من ناحية أخرى، تقوم ماكينة معقدة من شركات "اللوبي" بالضغط على أعضاء الكونغرس للحفاظ على حجم ميزانية الدفاع أو زيادتها. وإضافة إلى شركات السلاح الكبرى -التي تسعى لمضاعفة تعاقداتها مع الحكومة الأميركية- تضم واشنطن مراكز بحثية مختلفة تدعم تضخم الميزانية العسكرية وتدافع عن ذلك. فبدل الحديث عن انخفاض معدل التهديد للولايات المتحدة مع احتفاظها بأقوى جيوش العالم وأكبر ميزانية عسكرية، يتم التركيز على زيادة التهديدات، وارتفاع حجم المنافسة الإستراتيجية من الصين وروسيا، ومخاطر إيران وكوريا الشمالية، إضافة إلى التهديدات الإرهابية.
تدرك الدوائر الفكرية الأميركية منذ سنوات طويلة أنه لا يوجد حل عسكري في أفغانستان، ومع ذلك بقت القوات الأميركية هناك من دون وجود هدف محدد لإنجازه.
وزير الدفاع الحالي الجنرال لويد أوستن -بعد تقاعده من القوات المسلحة عام 2016- انضم إلى مجالس إدارات عدة شركات على رأسها شركة رايثيون أحد أكبر مصنعي السلاح الأميركي التي يعد البنتاغون عميلها رقم واحد.
وتتجنب النخبة الأميركية، حتى مع صور الانهيار والمعاناة والفوضى المرتبطة بعملية الإجلاء من كابل، طرح أسئلة جادة حول من المستفيد من إنفاق 241 مليون دولار يوميا لمدة 20 عاما! ولا يمكن فهم ما جرى ويجري سواء في أفغانستان أو العراق، إلا بعد تفكيك وفهم كيف وزعت هذه الأموال، وإلى أي حسابات بنكية انتهى بها المطاف، سواء تلك المرتبطة بالشركات الكبرى أو شركات المتعاقدين الحكوميين التي يمتلك أغلبها مسؤولون عسكريون سابقون.
ويشير تقرير صدر قبل أشهر من مكتب المفتش الخاص لشؤون أفغانستان بالبنتاغون، إلى وجود 22 ألفا و500 من المتعاقدين الممولين من ميزانية البنتاغون في أفغانستان بتكلفة تبلغ مئات الملايين من الدولارات سنويا.
وتعكس هذه النتيجة الفشل "الواشنطونى" في أوضح صوره. فواشنطن العاصمة الفدرالية ومقر صنع القرار السياسي تعج بمظاهر فساد قانوني تراكم بصورة غير مسبوقة خلال العقود الأخيرة، وذلك على العكس والنقيض من نجاحات كبيرة تشهدها بقية مراكز القوة الأميركية.
وتسمح ظاهرة "الباب الدوار" بخروج مسؤولي إدارة سابقة للعمل في شركات ومؤسسات خاصة، ثم يعودون مرة أخرى بعد سنوات للعمل الحكومي وتولي مناصب حكومية رفيعة مرة أخرى.
ويتكرر هذا السيناريو ليخلق شبكة معقدة من العلاقات الشخصية والخاصة التي لا تتردد في توريط الولايات المتحدة في حروب لا طائل منها. فوزير الدفاع الحالي الجنرال لويد أوستن -بعد تقاعده من القوات المسلحة عام 2016- انضم إلى مجالس إدارات عدة شركات على رأسها شركة رايثيون، أحد أكبر مصنعي السلاح الأميركي التي يعد البنتاغون عميلها رقم واحد. ولا يقتصر الأمر على وزير الدفاع الحالي، فكل المسؤولين السابقين ينضمون لمجالس شركات تصنيع السلاح الكبرى، أو كبريات صناديق الشركات الاستثمارية أو يعملون في شركات اللوبي. وعلى سبيل المثال، يعمل حاليا وزير الدفاع السابق الجنرال جيمس ماتيس مستشارا لشركة "جنرال ديناميكيس" أحد أكبر مصنعي السلاح الأميركي، التي يعد البنتاغون عميلها رقم واحد، مقابل راتب سنوي يبلغ 900 ألف دولار.
وعلى الرغم من افتخار الأميركيين بديمقراطية بلادهم، فإنها تتمتع أيضا بنظام سياسي قد يكون الأكثر فسادا في العالم؛ والسبب وراء عدم إدراك معظم الأميركيين لهذه الحقيقة هو أن الفساد عندهم يكتسب الصفة القانونية. فرغم أن أغلب الأميركيين يؤمنون بأن حكومتهم "حكومة الشعب ومن الشعب ولأجل الشعب"، فإن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، فهي تبدو "حكومة الشعب من جماعات المصالح ولأجل مصالح هذه الجماعات"، وعلى رأس هذه الجماعات يأتي المجمع العسكري الصناعي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.