كورونا.. أصل الحكاية | هل نقول وداعا يا إنفلونزا؟

(رويترز)

كنت أقرأ في الإستراتيجية العالمية للتأهب لمواجهة جائحة الإنفلونزا المرتقبة والتي أعدتها منظمة الصحة العالمية، وشعرت أنني كمن يقرأ في الإستراتيجية العالمية لمواجهة جائحة كورونا، فها هو العام الثاني على ظهور هذه الجائحة يوشك أن ينتهي، وقد اعتاد الناس على أرقام الإصابات والوفيات التي تعلنها الدول أولا بأول، وصاروا أكثر تأقلما مع كورونا وما أفرزه من متغيرات صحية واجتماعية واقتصادية من ذي قبل رغم أن هاجس الموت الذي اقترن به عنوة ظل مسيطرا على الأذهان حتى أننا لم نعد نسمع أحدا يصاب بمرض إلا بمرض كورونا ولا يموت إلا بسببه، وكأن أمراض العالم اختفت جميعها ولم يبق سوى كورونا.

فيروس الإنفلونزا الذي تسبب في وفاة 50 مليون إنسان في الـ100 سنة الماضية وكان الشغل الشاغل للناس في جميع أنحاء العالم صيفا وشتاء لم نعد نسمع أحدا يشكو منه، بل تطالعنا التقارير أنه انخفض إلى ما دون 1% في الموسم الأخير، فهل نقول وداعا للإنفلونزا؟

تشير التقارير إلى هبوط عدد الوفيات في الولايات المتحدة الأميركية بسبب الإنفلونزا في الموسم الأخير 2020-2021 إلى 600 حالة مقارنة بـ22 ألف حالة في الموسم السابق 2019-2020، و34 ألف حالة في موسم 2018-2019، وهذا يعني انخفاضا بنسبة 97% عما كان قبل كورونا، وعالميا هبطت نسبة الإصابات والوفيات بسبب كورونا إلى ما دون 1% عن المواسم السابقة

بينما أنا أتابع القراءة في صفحات الإستراتيجية العالمية للتأهب لمواجهة جائحة الإنفلونزا انهالت على رأسي الأسئلة كالمطارق الحديدية، أين ذهب فيروس الإنفلونزا؟ وأين ذهبت مليارات الإصابات التي أرقت العالم على مدى العقود السابقة؟ كيف اختفى من حياة الناس ولم يعد هناك سوى كورونا؟ هل نقول وداعا للإنفلونزا؟ أم أن الأمر أكبر من ذلك؟ وما مصير الجهود والخطط الإستراتيجية التي أنفقت عليها مئات الملايين من الدولارات لمواجهة جائحة الإنفلونزا القادمة؟ أسئلة كثيرة معلقة تحتاج إلى من يتصدى لها بحثا عن إجابات شافية.

مصير الإستراتيجية العالمية لمواجهة جائحة الإنفلونزا

منذ جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1917 وعلى مدى أكثر من 100 عام انشغلت المنظمات والهيئات والمؤسسات الصحية والمراكز البحثية المتخصصة في الأمراض الوبائية في وضع الخطط وإعداد الدراسات وإجراء البحوث التي تساعد العالم على تجنب وقوع جائحة إنفلونزا جديدة على غرار الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة ما يقارب 50 مليون إنسان.

وفي أعقاب موجات إنفلونزا الطيور التي اجتاحت عددا من دول العالم بين عامي 2003 و2005 وأودت بحياة 35 شخصا وأتت على حوالي 120 مليون طائر، منذ ذلك الوقت وبالتحديد عام 2005 وموضوع جائحة الإنفلونزا القادمة أحد البنود الرئيسية في الاجتماعات السنوية لجمعية الصحة العالمية (أعلى جهاز لاتخاذ القرارات في منظمة الصحة العالمية).

منذ عام 2005 أعدت منظمة الصحة العالمية تقريرا مفصلا يتم تحديثه تباعا حول جائحة الإنفلونزا القادمة وكيفية الاستعداد لها ومواجهتها، وفي كل عام تتم مناقشة إعلان جائحة الإنفلونزا التي يذهب ضحيتها سنويا ما يصل إلى نصف مليون إنسان من مختلف الأعمار، وتصيب ما يقارب مليار إنسان، من بينهم ما يصل إلى 5 ملايين من الحالات الحرجة حسب تقارير منظمة الصحة العالمية، وعلى مدى 65 عاما استحوذ هذا الأمر على نسبة كبيرة من جهود وخطط وموارد المنظمة.

قبل إعلان جائحة كورونا بشهور معدودة وبالتحديد في مارس/آذار 2019 أطلقت منظمة الصحة العالمية الإستراتيجية العالمية للتأهب لجائحة الإنفلونزا والاستعداد لمواجهتها في الفترة من 2019-2030، مشيرة إلى أن خطر هذه الإنفلونزا موجود دائما وأن فيروساتها لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن التيقن من توقيت اندلاع الجائحة القادمة أو مكان اندلاعها، وأنه لا مفر من اندلاع جائحة إنفلونزا أخرى.

ووصفت المنظمة هذه الإستراتيجية بأنها أكثر الإستراتيجيات التي وضعتها شمولا وأوسعها نطاقا، وهي ترسم الخطوط العريضة لعمل المنظمة والبلدان والشركاء معا للتأهب لمواجهة جائحة الإنفلونزا المرتقبة والوقاية منها ومكافحتها، وحرصت الإستراتيجية على تنبيه العالم إلى أن هناك 8 أشياء يجب أن يعرفها عن جائحة الإنفلونزا، هي:

1. اندلاع جائحة إنفلونزا أخرى أمر حتمي، وإن ذلك مسألة وقت.
2. إن الإنفلونزا تشكل بالفعل تحديا صحيا كبيرا، وعلى الناس المساعدة في الوقاية من الإنفلونزا بالحصول على الجرعة السنوية من اللقاح.
3. إن المنظمة والدول الآن متأهبة أكثر من أي وقت مضى، ولكن ليس بالقدر الكافي.
4. لا بد للعالم أن يكون على اتصال ببعضه البعض من أجل التعاون والتأهب لجوائح الإنفلونزا القادمة.
5. إن العالم بحاجة إلى أدوات أفضل لمكافحة الإنفلونزا، والوقاية منها، والكشف عنها، وعلاج مرضاها، وتشمل هذه الأدوات لقاحات ومضادات فيروسات وعلاجات أكثر فعالية، وإن هذه الأدوات يجب أن تكون في متناول جميع البلدان.
6. التأكيد على أنه لن ينجو بلد واحد من ضرر الإنفلونزا، ولا بد أن يكون لدى كل بلد برنامج قوي في مجال التأهب والاستعداد لها.
7. إن تكلفة التأهب أقل من تكلفة الاستجابة، فالتكلفة التي يتكبدها العالم جراء جائحات الإنفلونزا الضخمة تفوق بكثير تكلفة الوقاية منها، ويمكن أن تودي أي جائحة وخيمة بحياة ملايين من البشر في العالم.
8. ستجني جميع البلدان من خلال الاستثمار في جهود الوقاية من الإنفلونزا ومكافحتها والتأهب لها فوائد تتجاوز الفوائد المحققة في مجال الإنفلونزا من خلال التعزيز الشامل لنظمها في مجال الرعاية الصحية محليا وعالميا.

في اجتماع جمعية الصحة العالمية العام الماضي -أثناء جائحة كورونا- تم عرض تقرير التأهب لجائحة الإنفلونزا دون التوقف طويلا عنده، وطالب المجتمعون بعرض نتائج التنفيذ على الاجتماع مرة كل عامين، وفي اجتماعها الأخير في مايو/أيار الماضي غاب التقرير عن اجتماع الجمعية لأول مرة منذ 2005، وتوارت الإستراتيجية التي استفادت المنظمة في إعدادها من مدخلات كثيرة من الدول الأعضاء والأوساط الأكادیمیة وفئات المجتمع المدني ودوائر الصناعة والخبراء الداخلیین والخارجیین من أجل تعزيز قدرات البلدان على مكافحة الإنفلونزا، وعلى تحدید سائر الأمراض المعدیة على نحو أفضل، مثل الإیبولا أو فیروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسیة، على حد قول المنظمة التي أكدت أن العالم سيقترب من خلال تنفیذه هذه الإستراتیجیة العالمیة الجدیدة من بلوغ مرحلة الحد من تأثير الإنفلونزا على الناس سنویا، وزیادة معدلات التأهب لمواجهة جوائحها، ومواجهة غيرها من طوارئ الصحة العمومية.

الإستراتيجية الأميركية للقاح الإنفلونزا الشامل

لم تكن منظمة الصحة العالمية وحدها هي المشغولة بالتأهب لجائحة الإنفلونزا، فكانت أوروبا والولايات المتحدة في انشغال دائم نظرا للإصابات والوفيات المرتفعة سنويا بسبب تأثير الإنفلونزا على قطاع واسع من المرضى.

وقبل عام من إطلاق منظمة الصحة العالمية خطتها الإستراتيجية للتأهب لمواجهة جائحة الإنفلونزا أطلق المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية "إن آي إيه آي دي" (NIAID) إستراتيجية الولايات المتحدة 2018-2030 لمواجهة جائحة الإنفلونزا، وتطوير لقاح عالمي شامل من جرعة واحدة يمكن أن يحمي المرضى طوال حياتهم من سلالات متعددة من فيروس الإنفلونزا الموجودة حاليا أو التي قد توجد في المستقبل.

ووضع المعهد 4 شروط يجب أن تتوفر في هذا اللقاح: ألا تقل فعاليته عن 75%، وأن يحمي من جميع أنواع الإنفلونزا، وأن يقدم حماية شاملة لمدة سنة على الأقل، وأن يكون مناسبا لجميع الأعمار.

وقد حددت الإستراتيجية 3 أهداف رئيسية ذكر المعهد أنها تتطلب جهدا تعاونيا عالميا بين الوكالات الحكومية وقطاع الصناعة والمنظمات الخيرية والأوساط الأكاديمية التي تتضمن مناهج متعددة التخصصات وأدوات تكنولوجية جديدة.

ورغم السنوات الطويلة من الخبرة والدراسات والمعلومات والجهود المضنية لم يتوصل معهد "إن آي إيه آي دي" حتى الآن إلى إنتاج اللقاح العالمي الشامل ضد الإنفلونزا، ومع ذلك فإنه مستمر في مواصلة أبحاثه لإنتاج لقاح الإنفلونزا العالمي الشامل مستعينا في ذلك بالعديد من المراكز البحثية داخل الولايات المتحدة وخارجها.

الغريب في الأمر أن الولايات المتحدة شهدت انخفاضا غير مسبوق في إصابات الإنفلونزا في الموسم الأخير من سبتمبر/أيلول 2020 إلى مايو/أيار 2021 منذ بدء تسجيل هذا النوع من البيانات عام 2005، حيث بلغت 0.2% مقارنة بمتوسط 28% في المواسم الثلاثة السابقة لجائحة كورونا.

ويعزو المركز الأميركي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها "سي دي سي" (CDC) هذا الانخفاض إلى تدابير الوقاية من الإصابة بفيروس كورونا، مثل ارتداء أقنعة الوجه، والبقاء في المنزل، وغسل اليدين، وإغلاق المدارس، وتقليل السفر، وزيادة تهوية الأماكن الداخلية، والتباعد الاجتماعي.

لكن هذا التبرير لا يؤيده ارتفاع الإصابات بفيروس كورونا في الفترة نفسها، مما قد يشير إلى أن أرقام الإصابات والوفيات الناجمة عن الإنفلونزا كانت تسجل لصالح فيروس كورونا، خصوصا عندما نعرف أن عدد الوفيات بسبب الإنفلونزا في الولايات المتحدة هبط في الموسم الأخير إلى 600 حالة مقارنة بـ٢٢ ألف حالة في الموسم السابق، و34 ألف حالة في الموسم الذي قبله 2018-2019، وهذا يعني انخفاضا بنسبة 97% عما كان قبل كورونا، والأمر ذاته ينطبق على بقية العالم، حيث هبطت نسبة الإصابات والوفيات بسبب الإنفلونزا إلى ما دون 1% عن المواسم السابقة، فهل يُعقل ذلك؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.