عن تجارب السرد الأولى!

(Getty)

من بوابة علم النفس دلفتْ عائشة مختار صوب عوالم السرد في تجربتها الأولى "الريح لا تستثني أحدًا". لكنّ ذلك العبور لم يأت خافتًا غير منتبه له، فقد حازت المجموعة القصصية جائزة الشارقة للإبداع العربي لهذا العام في دورتها الـ24، وهو تتويج بدا لي مفهومًا حين قرأتُ القصص الواقعة في نحو 180 صفحة، التي وإن انتظمت في وحدة موضوع، فقد جاءت على درجة من التنوع في الآن نفسه.

بدا لي لافتًا نضج التجربة الأولى للقاصّة السعودية، وهو أمر لا يحدث لكثيرين، فعادة ما تحمل التجارب الأولى ما يدلّ عليها في مستوى اللغة والأسلوب وتقنيات السرد، ثم تنحو باتجاه التطور والنمو حتى تنتهي المسافة شاسعة بين العمل الأول والتجارب اللاحقة، وهذا ما يجعل البعض يودّ لو ينسى الناس عمله الأول، أو يحدث ما يمحوه عن الوجود. على خلاف كل ذلك، كانت مجموعة "الريح لا تستثني أحدًا" عملًا فارقًا بلغته المنضبطة وهي تؤدي دورها الوظيفي في خدمة السرد فلا تعلو عليه أو تتجاوزه لتعرض نفسها بمعزل عنه، أو تتباهى بإمكاناتها في غير الوجهة المقصودة. هذا الأمر بالذات يصعب الوصول إليه في العمل الأول حيث يكون الإمساك بقشور اللغة وصوتها العالي عادة هو وهم التفوق والبروز، قبل أن يخفت ذلك كلما تقدمت التجربة وازدادتْ نضجًا.

ثم إنّ غالب تجارب السرد الأولى تغرف من حياة كاتبها، وهو أمر لا أظنّ أنّ هذه المجموعة قد شذّت عنه، لكنّ الكاتبة فعلتْ ذلك بقدر كبير من الحصافة وهي تُغبّش الحكايات وتُموّه ملامحها، وتمزج بين الواقعي والسريالي، والمكان واللامكان، وتذيب الزمن حتى يسيل في كل اتجاه ليصنع زمنا سرديًّا خاصا بهذه الحكايات. كل ذلك منح هذه المجموعة القصصية فرصة أن تكون قصة فرد واحد ولكنها تعني الجميع في الآن نفسه، إذ الاشتغال كان على مستوى المشترك الإنساني حيث الأمومة مثلا وما يصاحبها من مشاعر فقد وحب لامشروط وأنانية مخبأة، أو حيث الأقدار التي تسوق المرء سوقًا ليشكّل مع البقية المختلفين عنه لوحة شديدة التجانس.

ويبرز ملمح الوعي بتقنيات السرد حيث خيوط الحكي المتشابكة بقصدية واضحة وتتابع الحكايات وانتظامها داخل ما يشبه المتتالية القصصية، لكنها تحافظ في الوقت عينه على استقلالية كل قصة على حدة ونموّها المفترض لدى كل قارئ وفق الطريقة التي تلقّاها بها. وهنا تجدر الإشارة إلى ميل الكاتبة العام إلى المجاز، تلك اللعبة الخطرة الزلقة، فكل الحكايات حمّالة أوجه، وكلها قابلة لإثبات الأمر أو نسفه رغم أن عناوينها جاءت على خلاف كل ذلك توكيدية تامة من قبيل "أزمنة الرجل الذي سيحبّ التجوال"، "الرجل الذي تكلم ثم صمت"، "أزمنة الفتاة التي لا يعرف أحد اسمها". ولعلّ ذلك التقابل هو إحدى الحيل التي تعمّق من قدرة القصص على ولوج أبواب متعددة.

هذا الوعي بالتقنيات السردية لم يأت على حساب الصدق، فجاءت الحوارات كأنها قُطفتْ من الحياة الآن، فبدت طازجة ممتلئة الشعور من قبيل الحوار مع صاحب "الحكايات القديمة"، وهو الرجل الذي تكلم ثم صمت:

"شعوري نحوكَ أزليّ، لنحاول".

لكنه قاطعها:

" كل المحبين يقعون في فخّ اليقين.. كل الكلمات الواثقة ستلعننا ما إن ننطقها.. أنا متعب وأنت غضّة، ولا أريد أن أفسدك أو تفسديني".

وهناك أيضًا تلك الجمل المخاتلة وقد منحتْ النص حيوية أكبر "لم يتردد في إهدائها قبلة جافة، استرقاها استراقًا فكانت النعيم. أكانت حقيقة أم خيالا؟ لا يذكر هو ولا تذكر هي. أكانت فكرة لم يجرؤ أحد منهما على أن يقدم عليها، وبقيت محبوسة في ذهنيهما؟ ولذلك دامت وأسكرتهما!".

بقي القول إنّ التجارب السردية الأولى عادة ما تكون أشبه بمنصة انطلاق إلى تجارب أرحب، وكلما علتْ حملتْ صاحبها أبعد، ولهذا فظني أنّ هذه المجموعة القصصية تُنبئ عن مولد صوت سردي ناضج سيبلغ مداه بعيدًا.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.