مستقبل طالبان السياسي

مقاتلي حركة طالبان
مقاتلون من حركة طالبان (الجزيرة)

متابعة خطوات الانسحاب الأميركي من أفغانستان واستيلاء طالبان على ولايات أفغانية مختلفة؛ حدثان يتصدران عناوين الأخبار هذه الأيام. وفي كثير من الأحيان، يكون هذا مصحوبا بالكثير من الإعجاب بقدرة حركة مسلحة صغيرة بإمكانيات عسكرية محدودة في بلد فقير على تحقيق هذا الإنجاز السياسي والعسكري. إن صورة المفاوضات بين الولايات المتحدة الأميركية وحركة طالبان تُظهر رجالا بملابس حديثة وعصرية؛ في مقابل رجال بملابس تقليدية وبسيطة على الجهة الأخرى؛ لذلك، فإن علامات التعجب والإعجاب مما قامت به الحركة حتى الآن هي رد فعل طبيعي ومتوقع، لكن ما يظهر الآن على أنه علامات نجاح للحركة يحمل في طياته علامات أخرى تنذر بالإخفاق.

وقبل أن نعرض لماذا تحمل التطورات الحالية لحركة طالبات بذور الإخفاق في داخلها؛ فإنه ينبغي القول إن انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان كان قرارا متوقعا منذ فترة؛ فالجميع يعلم أنه قادم لكن التحليلات تختلف فقط في الموعد. وبشكل عام، فإن التجارب التاريخية العملية خلال العقود القليلة الماضية أظهرت بشكل واضح أن مصير الاحتلال الأجنبي هو الانسحاب في النهاية، لكن الاختلافات بين البلدان والسياقات تكون في التوقيت ومدة الاحتلال؛ ولذلك لم يكن إنهاء التواجد العسكري الأميركي في أفغانستان مفاجئا للمراقبين، كما لن يكون مستقبلا إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين مفاجئا لهم أيضا.

إذا كان الانسحاب الأميركي على يد حركة طالبان من أفغانستان نتيجة متوقعه؛ فإن هناك نتيجة أخرى متوقعة في المستقبل القريب في حال استمرت حركة طالبان في سياساتها الحالية، وهي الإخفاق في إدارة البلاد بشكل جيد، مع احتمالية استمرار حرب أهلية طويلة بلا خاسر ولا فائز

فالتجارب السابقة تخبرنا أن المعارك التي تخوضها حركات المقاومة ضد الاحتلال العسكري هي معارك تربح فيها المقاومة، ولو بعد حين. ولو أضفنا إلى ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية لديها تاريخ لا بأس به من الانكسارات العسكرية على يد قوات غير نظامية فإن ما يحدث في أفغانستان الآن لن يكون مفاجأة؛ ففي فيتنام والصومال والعراق دخلت القوات الأميركية في معارك حربية لم تستطع حسمها عسكريا، وكان الانسحاب هو النتيجة النهائية. وما حدث للقوات الأميركية في العراق على يد المقاومة العراقية لا تزال صوره وفيديوهاته متاحة للجميع.

وإذا كان الانسحاب الأميركي على يد حركة طالبان من أفغانستان نتيجة متوقعه؛ فإن هناك نتيجة أخرى متوقعة في المستقبل القريب في حال استمرت حركة طالبان في سياساتها الحالية، وهي الإخفاق في إدارة البلاد بشكل جيد، مع احتمالية استمرار حرب أهلية طويلة بلا خاسر ولا فائز، وهي أمور تؤدي في النهاية إلى طمع الدول الإقليمية والدولية في التأثير في الشأن الداخلي الأفغاني بشكل أكبر؛ أي أن تكون البلد عرضة مرة أخرى لمزيد من التدخل الأجنبي، والذي يمكن أن يكون عسكريا. وبعبارة أخرى، لو حدث ذلك، فإن أفغانستان تعيد بذلك تجربتها التاريخية السابقة قبل قدوم الولايات المتحدة مرة أخرى.

والذي يحدث الآن أن حركة طالبان تستولي على الولايات الأفغانية ولاية تلو أخرى من خلال المعارك العسكرية أحيانا أو من خلال التفاوض مع الولاة المحليين أحيانا أخرى، لكن النتيجة في الحالتين أن طالبان تحكم سيطرتها على أجزاء واسعة من أفغانستان؛ وأغلب هذه الأجزاء هي مناطق لا توجد بها أعدد كبيرة من السكان، كما أن الحركة لم تستول على العاصمة الأفغانية كابل بعد؛ لكن كل هذه تفاصيل سوف تتم مع مرور الوقت. والتقديرات الأميركية هي أن دخول طالبان إلى العاصمة كابل أصبح أمرا وشيكا، والحركة تتعامل مع الحكومة الأفغانية الموجودة في كابل على أنها حكومة عميلة موالية للمحتل الأجنبي، وتتعامل مع السلطات المحلية باعتبارها سلطات غير شرعية وتسعى لاستبدالها بسلطة أخرى بديلة هي سلطة الحركة. وهي تعمل على تحقيق ذلك مدفوعة بزهو الانتصارات العسكرية والسياسية خلال الشهور القليلة الماضية. إن علامات النجاح والانتصار تبدو أمامها في كل مكان؛ لكن هذه هي اللحظة المثالية التي تتجمع فيها الخيوط التي تؤدي إلى الهزائم لاحقا.

وإذا تعاملنا مع حركة طالبان باعتبارها حركة مقاومة ضد الاحتلال الأجنبي فإن تجربة حركات الاستقلال الوطنية التي تمت في الخمسينيات والستينيات يجب أن تكون حاضرة أمام أعينها. وإن إنهاء الوجود العسكري ليس نهاية الوجود الأجنبي؛ بل ربما يكون هو أسهل خطوة في إنهاء هذا الوجود، ونهاية الوجود الأجنبي يحتاج إلى إنهاء الوجود الاقتصادي والسياسي والفكري. وهذه أمور لا تنفع فيها المدافع، كما أن وفرة الشجعان والمقاتلين لا تفيد فيها كثيرا. وكثير من الدول الأفريقية والآسيوية أنهت الوجود العسكري الأجنبي بعد معارك طويلة، لكنها ظلت في النهاية أسيرة دولة الاحتلال اقتصاديا، وتسير إلى أنماطها في الإدارة وتسير شؤون الدولة. فإذا كانت الحركة تظن أنها من خلال هذه المعارك سوف تقضي على الوجود الأجنبي، فإن هذا جزء صغير من الصورة، في حين أنها تتجاهل أجزاء أخرى.

أما لو تعاملنا مع حركة طالبان على أنها حركة إسلامية تسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية وتوسيع إمارة طالبان الإسلامية؛ فإن تجربة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) يجب أن تكون حاضرة أمام أعينها. لقد كانت تجربة صعود داعش قوية وحماسية، حيث استطاعت في وقت قليل الاستيلاء على مساحة شاسعة من الأراضي في دولتين مختلفتين، كما أنها حكمت أعدادا كبيرة من السكان، وضمت لها آلاف المقاتلين من بلدان مختلفة، لكن كما كان الصعود قويا، كانت الهزائم مدوية. ولم تستطع داعش الصمود لسنوات قليلة، لتنكمش بشكل كبير. لذلك، فإن الانتصارات السريعة والمتتالية ليست دليلا في ذاتها على أن الطريق سوف يكون مفروشا بالورود، بل ربما يكون فخا نصبه لك الآخرون من أجل الإسراع في القضاء عليك مستقبلا.

أما لو تعاملنا مع حركة طالبان باعتبارها فاعلا سياسيا أفغانيا يسعى للوصول إلى السلطة والاستمرار فيها، فإن تجارب الحكم والإدارة يجب أن تكون حاضرة أيضا أمام أعين الحركة. وإن القوة شرط أساسي للوصول إلى السلطة والمحافظة عليها، لكنها لوحدها ليست كافية. وإن نجاح أي نظام في الاستمرار مرتبط من الناحية السياسية بقدرته على استخدام وسائل غير عنيفة تساعده في البقاء في الحكم؛ فإذا كان النظام ديمقراطيا فإنه يعتمد على المشاركة الشعبية والمحاسبة وتحقيق رغبات المواطنين، وهذه الآليات غير العنيفة تساعده على الاستمرار، حتى لو تعرض إلى مصاعب وتحديات. أما في الأنظمة غير الديمقراطية، فإن المستبدين بحاجة إلى بناء شبكات دعم للنظام، والحصول على تأييد شرائح مجتمعية معينة تساعده على قهر واستعباد الشرائح الأخرى، أو ضمان إسكاتهم. ويمكن لتجربة طالبان أن تكون تجربة حكم سلطوي جديدة، تعتمد فيها الحركة على دعم جماعات إثنية وأيديولوجية معينة من أجل استمرارها في الحكم، لكنها بهذا الشكل ستكون نظاما سلطويا جديدا يتشكل باسم الدين لخدمة قطاعات إثنية وعرقية. ويمكن للحركة أن تعمل على بناء نظام سياسي فيه مشاركة أعلى ومحاسبة أفضل وقدرة على تحقيق رغبات المواطنين بشكل أكبر، لكن هذا لا يتم من خلال الخطط العسكرية، بل من خلال البرامج والتحالفات السياسية. والخلاصة أن طالبان تحتاج للتفكير في السياسة باعتبارها شيئا أكبر من الانتصارات العسكرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.