حرائق تركيا.. بين جهود إطفاء النيران والمآرب المشبوهة

(AFP)

تواجه تركيا حاليا كارثة فريدة من نوعها، لم تشهدها طوال تاريخها، إذ اندلعت الحرائق في مئات المناطق عبر أنحاء البلاد على نحو متزامن، ولم تتمكن فرق الإطفاء من القضاء على النيران منذ أيام عدة.

هذا النوع من الكوارث ليس غريبا في دول أخرى مثل اليونان والولايات المتحدة وأستراليا، إذ تواجه هذه الدول منذ أكثر من شهر مشكلة الحرائق الكبيرة التي يصعب السيطرة عليها، وهي لديها خبرة وباع طويل في مواجهة هذا النوع من الحرائق.

أما في تركيا، فالأمر مختلف تمامًا؛ تركيا تتعرض لهذا الكم الهائل من الحرائق لأول مرة في تاريخها، فالحرائق اندلعت في 190 منطقة ضمن 35 محافظة مختلفة، أخمدت النيران في 180 موقعًا، ولا تزال ألسنة اللهب تتصاعد في 12 منطقة مختلفة.

للوهلة الأولى، قد يتبادر إلى الأذهان أن هذه الحرائق ناتجة عن أعمال تخريبية، لأن من المستبعد اندلاع النيران في كل هذه المناطق بشكل طبيعي، وهذا يدفع الجميع إلى البحث عن مضرمي النيران. وفي مثل هذه الأوضاع، يُفترض أن تتجه أصابع الاتهام بشكل مباشر لمنظمة "بي كا كا"، بخاصة أن الحرائق التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي كانت بفعل فاعل، وتبنّتها مجموعة تابعة لمنظمة "بي كا كا" تطلق على نفسها اسم "أبناء النار".

ولكن هذه الشكوك لم تدم طويلا هذه المرة، والسبب هو أن الظاهرة ذاتها تحدث في مناطق متعددة من العالم، وهذا ما يجعلنا نستبعد فرضية وجود عمل تخريبي تقف وراءه منظمة إرهابية. ومثلما حدث في تركيا، اندلعت الحرائق في اليونان وإيطاليا وإسبانيا ورومانيا وروسيا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة، بشكل متزامن، وتواجه فرق الدفاع المدني صعوبة كبيرة في السيطرة عليها، ومن ثم فنحن إزاء كارثة كبيرة جدًّا، كارثة طبيعية عالمية، لا تشمل تركيا وحدها.

في هذا الوقت الذي نواجه فيه هذه الكارثة، اكتشفنا أن هناك كارثة أكبر يمكن أن تحدث، وهي المخططات الشريرة التي تسعى لتحقيق مكاسب سياسية عبر استثمار معاناة الناس.

وفي ما يخص جهود مكافحة النيران، تسعى كل دولة للتعامل مع هذه المشكلة بالوسائل المتاحة. ومن الطبيعي في مثل هذه الأزمات أن تظهر روح التضامن والتعاون بين الدول التي ترى في هذه الأوضاع فرصة لإعلان تضامنها بإرسال معدات وفرق ميدانية لمدّ يد المساعدة.

ويبقى قبول البلد المتضرر بهذه المساعدة رهين طبيعة الحسابات السياسية والدبلوماسية، ومن ثم فإن هذه المواقف تعدّ علامة حسن نية ونوعًا من الإيتيكيت الدولي الذي يعكس حالة العلاقات الدولية.

وإذا بات مستحيلا مجابهة هذه الكارثة، لا ضير في طلب المساعدة من الخارج؛ فحين تعرضت تركيا لزلزال قوي في 17 أغسطس/آب 1999 كانت في حاجة ماسة إلى كل أشكال المساعدة الطارئة، ولم يكن ضحايا هذه الكارثة في وضع يسمح بوضع شروط لقبول المساعدات أو رفضها.

شهدت تلك الفترة انهيار مؤسسات الدولة، وأسهمت المنظمات الإغاثية غير الحكومية بدور كبير في مد يد العون للمتضررين. ولكن منذ ذلك التاريخ، لم يحدث أن أظهرت تركيا ضعفا أو عجزا في مجابهة الكوارث الطبيعية، وقد شهدت البلاد العديد من الفيضانات، ومرّت بأزمة فيروس كورونا، وكانت دائما تدير المعركة ضد هذه الأزمات إدارة جيدة.

وفي الوقت الحالي، تواصل فرق الإطفاء التركية معركتها ضد النيران المندلعة في قرابة 200 موقع، وكما هو معلوم لا توجد دولة في العالم يمكنها التعامل مع حرائق مندلعة في أكثر من 100 موقع في الوقت ذاته، بما في ذلك الولايات المتحدة، ومن ثم فإن مقارنة بسيطة تؤكد أن فرق الإطفاء التركية هي الأفضل على الإطلاق.

وفي هذا الوقت الذي نواجه فيه هذه الكارثة، اكتشفنا أن هناك كارثة أكبر يمكن أن تحدث، وهي المخططات الشريرة التي تسعى لتحقيق مكاسب سياسية عبر استثمار معاناة الناس.

ففي وقت تتجند فيه كل القوى من أجل مكافحة النيران، ظهرت على منصة تويتر حملة تحت شعار "ساعدوا تركيا"؛ هذه الحملة وصلت إلى ملايين المستخدمين في وقت قياسي، وكان واضحا أنه يتم توجيهها من أطراف محددة بهدف خلق انطباع بأن تركيا عاجزة عن إدارة الأزمة بمفردها، وأن مؤسسات الدولة انهارت.

ويُلاحظ أنه بعد أول استخدام لوسم #ساعدوا_تركيا، تمت إعادة التغريد بهذا الوسم 11 ألف مرة في الدقيقة خلال الساعات الثلاث التالية، وهذا بكل تأكيد لا يمكن أن يكون سلوكا طبيعيا على شبكات التواصل الاجتماعي. وفي ظل ذلك الانتشار السريع وغير الطبيعي لوسم "ساعدوا تركيا"، فطنت إدارة تويتر بعد مرور 11 ساعة إلى أن هذا لا يعدو كونه منشورا إلكترونيا خبيثا، ومن ثم تمت إزالته.

هذه الحملة كانت تدار من مركز واحد وبجهود مكثفة، وقد شهدت نشر أكثر من مليونين و538 ألف تغريدة، كلها ترمي إلى تشويه صورة تركيا أمام العالم، وهذه التغريدات كان مصدرها مجموعة محددة من الحسابات، أغلبها حديثة العهد وتحمل بيانات مزيفة.

وبعد الاطلاع على الأعداد الهائلة من المنشورات المشبوهة التي ظهرت على تويتر في زمن قياسي، انطلاقا من هذه الحسابات الوهمية، بات واضحا أن هناك حملة ممنهجة ضد تركيا حاولت توظيف هذه الكارثة الطبيعية لتحقيق مآرب سياسية.

والواقع أن أنصار الانقلاب في تركيا مستعدون لحرق البلاد بأكملها من أجل الإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان. ولكن على أي حال، فإن الدول التي سعت هذه الحملة المشبوهة إلى جذب انتباهها، تشهد بدورها حرائق كبيرة في غاباتها، وليس لديها الوقت للتركيز على ما يحدث داخل تركيا.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.