معركة بين الحكومة والمعارضة في مجلس الشعب من أجل مياه النيل

أولى جلسات مجلس الشعب المصري الجديد
(الجزيرة)

كنت أعمل محررا برلمانيا لجريدة الشعب، وقمت بتغطية الجلسة التي شهدت معركة بين الحكومة والمعارضة عام 1980 دفاعا عن مياه النيل.

قبل الجلسة منعني الضابط المسؤول من الدخول وحاول سحب بطاقتي التي تثبت أنني مندوب الجريدة في المجلس، فوقفت بالباب حائرا، فالجلسة بالنسبة لجريدتي كان لها أهمية خاصة.

زعيم المعارضة إبراهيم شكري اعترض بأن السادات لم يوضح للمجلس الحقائق، لكنه تحدث لأعضاء الهيئة البرلمانية للحزب الوطني، وهذه الهيئة ليست المجلس، وهو لم يتحدث أمامنا كمجلس شعب، ونحن من حقنا أن نعرف الحقائق

فجأة وجدت أمامي المستشار ممتاز نصار، فأخبرته بما حدث، فسأل الضابط هل مَنعُ مندوب جريدة الشعب قرارُك الشخصي أم أنه قرار رئيس المجلس؟ فارتبك الضابط ولم يرد، فأمسك ممتاز نصار بيدي ودخلت المجلس بصحبته.

وكان من حسن حظي أن الصحف القومية (الأهرام- الأخبار- الجمهورية) ركزت على رد الحكومة، وتجاهلت كلام النواب المعارضين، فانفردت بتغطية متميزة للجلسة.

وكان من المقرر أن يتم مناقشة طلب إحاطة و3 أسئلة مقدمة من نواب المعارضة حول عرض السادات لبيغن (مناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل سابقا) بتوصيل مياه النيل لإسرائيل.

الحكومة تتهرب

حاول كمال حسن علي -نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في ذلك الوقت- التهربَ من الإجابة عن الأسئلة بأن السادات قد أوضح أمام النواب كل الحقائق عن الموضوع، ولم تعد هناك أية معلومة جديدة يمكن إضافتها.

لكن زعيم المعارضة إبراهيم شكري اعترض بأن السادات لم يوضح للمجلس الحقائق، لكنه تحدث لأعضاء الهيئة البرلمانية للحزب الوطني، وهذه الهيئة ليست المجلس، وهو لم يتحدث أمامنا كمجلس شعب، ونحن من حقنا أن نعرف الحقائق.

اعترض رئيس المجلس صوفي أبو طالب على مقاطعة إبراهيم شكري الذي كانت حجته واضحة وقاطعة؛ مما اضطر نائب رئيس الوزراء للموافقة على الرد على الأسئلة وطلب الإحاطة.

الحكومة تكذب

كان من الواضح أن الحكومة أدركت خطورة تصريحات السادات، وغضب الشعب المصري عليها، وأن شعبية المعارضة تتزايد.

لذلك حاول كمال حسن علي التقليل من أهمية الموضوع، ونفى أن تكون هناك مفاوضات حوله، وأنه لم يتم فيه اتخاذ أية إجراءات تنفيذية، ولم يطرح في أي إطار للتفاوض مع إسرائيل سواء في مفاوضات الحكم الذاتي أو تطبيع العلاقات، ولو حدث ذلك لتطلب الأمر عرض الموضوع على المجلس، وإجراء مفاوضات مع الدول المستفيدة من مياه النيل.

رد إبراهيم شكري بأن هذا الموضوع شغل الشعب لأهميته وخطورته، لذلك سبق أن وجهت سؤالا لرئيس الوزراء مصطفى خليل الذي نفى أي تفكير في إمداد إسرائيل بمياه النيل، وأكد أنه لن تذهب نقطة من مياه النيل خارج الحدود المصرية، ولقد صدّقنا هذا الكلام واقتنعنا به.

لكننا فوجئنا بعد ذلك بنشر الخطابات المتبادلة بين السادات وبيغن، والتي قال فيها بيغن إن السادات اقترح عليه نقل المياه إلى القدس والنقب، وإنه رد على هذا الاقتراح بأن نقل مياه النيل إلى النقب فكرة عظيمة، ولكننا يجب أن نفرق بين النواحي المادية والمسائل الروحية فلنا حقوق في القدس لا يمكن المساس بها.

واستنادا إلى ذلك النص في الرسائل المتبادلة؛ اتهم إبراهيم شكري مصطفى خليل بأن كلامه في هذه القاعة لم يكن صحيحا، ولا يمكن الادعاء بأنه لم يكن يعرف.

كما برهن إبراهيم شكري على اتهامه لمصطفى خليل بما جاء في رسالة السادات للملك الحسن ملك المغرب التي قال فيها إن إمداد إسرائيل بمياه النيل لم يكن قرارا انفردت به، ولكني قلبته من جميع جوانبه مع نائب رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء ووفد المفاوضات.

وأشار إبراهيم شكري إلى أن القرار في يد رئيس الجمهورية؛ لأن نظامنا رئاسي، لذلك لا يستطيع أي عضو في وفد المفاوضات أن يعترض على قرار الرئيس، واستشهد على ذلك بأن وزير الخارجية اضطر للاستقالة عندما اختلف مع السادات.

لم يتم إغلاق الموضوع

أضاف إبراهيم شكري أن الموضوع لم يتم إغلاقه كما ادعى كمال حسن علي، فبيغن لم ولن يرفض مثل هذا العرض السخي ولكن ما رفضه هو ربط العرض بقضية القدس.

بذلك يكون الادعاء بأن الموضوع قد أغلق غير صحيح لأن بيغن فرق في خطابه للسادات بين النقب وإمدادها بالمياه وبين موضوع القدس.

ومع تزايد حدة المناقشة قال كمال حسن علي "عندما نبحث الموضوع سوف نأخذ رأيكم"، فأثار هذا الرد استياء النواب وغضبهم وانفعل إبراهيم شكري متسائلا؛ في ماذا تأخذ رأينا؟ هل تريد أن تأخذ رأينا في أن نركع تحت أقدام إسرائيل ونعطيها حياتنا وثروتنا تزرع بها المستوطنات على حدودنا في النقب لتكون مصدر تهديد لنا خاصة بعد أن أصبحت سيناء منزوعة السلاح بالكامل؟

معلومات الرئيس غير صحيحة

أضاف إبراهيم شكري أن هناك من زود الرئيس بمعلومات غير صحيحة، فالسادات يقول إننا نقذف 6 مليارات متر مكعب في البحر، وهذا غير صحيح، وها هم نواب فارسكور يمكن أن يجيبوا عن هذا السؤال؛ هل يفتح سد فارسكور ليقذف في البحر بأية كمية من المياه؟

أضاف إبراهيم شكري -الذي كان قد شغل منصب وزير الزراعة والري قبل ذلك- "إننا لا نقذف أية كمية من المياه في البحر، وإلا لاعترضت السودان على ذلك وقالت إن هذه المياه من حقها.. إن معظم أراضينا صحاري ونحتاج في استصلاحها إلى كل قطرة من مياه النيل".

ووجه إبراهيم شكري كلامه للنواب؛ لعلكم تذكرون كيف وقفنا جميعا في وجه محاولات إسرائيل للاستيلاء على أية كمية من مياه نهر الأردن.. ونحن نرفض من حيث المبدأ إعطاء إسرائيل قطرة واحدة من مياه النيل حتى وإن كانت زائدة على حاجتنا.. إن المهم ليس الكمية لأننا لو وافقنا على إعطائهم قطرة مياه من نيلنا فسيأتي يوم نوافق فيه على إعطائهم المزيد.

ونحن نصر على إلغاء الفكرة تماما، فهذا الموضوع خطير، وأنا أقول للسادات بكل الاحترام؛ لا ولن نسمح لليد التي حررت سيناء أن تكون هي ذات اليد التي تعطي إسرائيل مياه نيلنا.

رد الحكومة يشعل المعركة

كان رد كمال حسن علي يوضح أن الحكومة أصبحت تواجه أزمة وأنها لا تستطيع مواجهة المعارضة؛ حيث قال إن ما جاء في كلام السادات هو ما حدث بالضبط، ووصف كلام إبراهيم شكري عن المستوطنات بأنه غريب، فلقد اعترفنا بإسرائيل من خلال معاهدة كامب ديفيد، واعترفنا بحدودنا معها، ولها أن تقيم ما تشاء من مستوطنات داخل حدودها، ومن الغريب أن يعترض أحد على ذلك.

هنا أدرك وزير الدولة لشؤون مجلس الشعب حلمي عبد الآخر خطورة المأزق التي تواجهه الحكومة؛ فوقف ليهاجم إبراهيم شكري، لكن النواب طالبوه بالسكوت وشارك في ذلك نواب الأغلبية الذين شعروا أن الوزير سيزيد حدة الأزمة التي تواجهها الحكومة بعد أن ثبت أنها تكذب على المجلس.

ورد إبراهيم شكري على حلمي عبد الآخر "قف مكانك.. إنك تتعرض لي بالباطل، فهل تتصور أن هذا الأسلوب يوصلك إلى رئاسة الوزارة؟

وصفق النواب لإبراهيم شكري، بينما وقف ممتاز نصار يقول إن إبراهيم شكري عبَّر عن كل وطني مخلص لمصر ولنيلها، وأن بيانات الحكومة لا تمثل الحقيقة والواقع.

سأحوّله إلى استجواب

اعترض رئيس المجلس صوفي أبو طالب ووجه حديثه لممتاز نصار؛ إذا كنت تتهم الحكومة فسبيل ذلك هو الاستجواب، فرد ممتاز نصار وقال إنني أعرض هنا وقائع في إطار السؤال المطروح وبعد أن أنهي بياني فربما أحوّل ذلك إلى استجواب.

لقد نفى مصطفى خليل في هذه القاعة أن يكون قد تم عرض توصيل مياه النيل لإسرائيل على بيغن خلال زيارة السادات لحيفا، لكن ثبت الآن من خلال وثائق رسمية أن السادات قدم هذا العرض لبيغن، أما كلام كمال حسن علي فإنه أيضا تنقصه الدقة. وتساءل ممتاز نصار كيف نعطي شريان حياتنا ومصدر رزقنا لأحد ؟! إن هذا خطأ جسيم لا يمكن أن يقوله مسؤول مصري وهو يعلم أن القانون والدستور يحرم ذلك، لأنه حتى المجلس لا يملك التصرف في مياه النيل لأنها ملك الأجيال القادمة، ولذلك فأنا أعتبر مجرد العرض خطأ جسيما.

وطالب سيد جلال الحكومة بأن تعلن بصورة قاطعة أن هذا العرض كأنه لم يكن، وأنه لن تصل نقطة مياه من نيل مصر إلى إسرائيل؛ لأن شعب مصر يرفض ذلك.

انتهت الجلسة وكان من الواضح أن المعارضة انتصرت؛ وهذا يوضح أهمية المعارضة في النظم الديمقراطية، وكيف أنها يمكن أن تحمي مصالح الدولة وتحذر المجتمع من الأخطار التي تهدد وجوده.

ولقد كانت تغطيتي لتلك الجلسة جزءا من حملة صحفية قامت بها جريدة الشعب ضد عرض السادات بنقل مياه النيل لإسرائيل. وكان لجريدة الشعب دور مهم في إغلاق هذا الموضوع حتى اليوم؛ لذلك يحتاج شعب مصر لصحافة حرة تدافع عن حق مصر في مياه النيل وفي الحياة والحرية والديمقراطية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.