الحل المستحيل والحل الممكن للقضية الفلسطينية بعد "سيف القدس"
توقفت معركة "سيف القدس" بهدنة مفتوحة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، ليست مقيدة بأي شروط أو التزامات، وتركت الباب وراءها مفتوحاً لتشتعل من جديد في أي لحظة ودون سابق إنذار، وهو أمر في غاية الخطورة، والأخطر منه أنها انتهت دون برنامج سياسي واضح ومحدد للمقاومة الفلسطينية يستفيد من مكاسب الانتصار (النسبي) الذي حققته، وكان من المتوقع أن تفاجئ العالم بمشروع جديد يوضح محطات المسار السياسي القادم للقضية الفلسطينية، وصولاً إلى الحل الذي ينتظره الشعب الفلسطيني منذ نكبته قبل 73 سنة، ليخرج من نفق الجحيم المظلم الذي يعيش، حتى لا تذهب الرشقات الصاروخية ودماء الشهداء هدراً، ونضع الكفّين على الخدين في انتظار المعركة القادمة. فما المشروع السياسي القادم للمقاومة الفلسطينية، وما مراحله، ومرتكزاته التي تعينه على قطع رقبة "الحارس" واقتحام كافة الأسوار؟
إن حركتي "فتح" و"حماس" -على وجه الخصوص- تتحملان مسؤولية تاريخية بالغة الأهمية في الإطاحة باتفاق أوسلو المشؤوم وما أقيم حوله من عروش، وإحداث هذا التغيير المطلوب في مسار القضية الفلسطينية، والقضاء على جذور الفتنة وأسباب الانقسام، في أسرع وقت.
المشروع السياسي القادم
قبل الحديث عن المشروع السياسي القادم، لا بد من الإشارة إلى أن أي مشروع سياسي قادم لحل القضية الفلسطينية لن يتم قبوله والتعاطي معه إلا إذا توفرت فيه الشروط التالية:
- أن يضع حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية.
- أن يكون حلاً جذرياً وشاملاً، لا يكرر مأساة اتفاق أوسلو.
- أن يكون حلاً نهائياً، يتم في مدى زمني قصير بمراحل واضحة، محددة، لا يتجاوز 10 سنوات من الآن على أبعد تقدير.
- أن يحقق آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني في العودة والأمن والاستقرار والتنمية والرفاه.
- أن توضع له آليات عمل واضحة ومجدولة، تحت إشراف لجان متخصصة ومحايدة.
- أن تكون القيادة الفلسطينية المسؤولة في المشروع ممثلة لجميع مكونات الشعب الفلسطيني.
- أن تبقي المقاومة الفلسطينية السند الأول للقيادة الفلسطينية في هذا المشروع.
- أن يحظى بضمانات عربية ودولية جماعية جادة وحازمة، قادرة على إلزام جميع الأطراف على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.
- ألا تنفرد به دولة من الدول، وتكون هي الوسيط والضامن.
وأن يخلو من أي إجراءات رخوة أو مراوِغة أو إسعافية أو غير واقعية، فإن ذلك سيجعل المشروع مجرد وسيلة لإطالة أمد الصراع وزيادة جولات الحرب، وزيادة معاناة الشعب الفلسطيني.
فما المشروع الذي يمكن أن تتحقق فيه هذه الشروط؟
إن هذا السؤال يعيدنا من جديد إلى ما سبق أن تناولناه في مقالاتنا حول الحل المستحيل والحل الممكن للقضية الفلسطينية قبل أقل من عام، وهو ذات السؤال الذي يُظهِر لنا بشكل حاد حجم المأزق الذي تمر به القضية الفلسطينية، في غياب مشروع سياسي حقيقي يتم تنفيذه على الأرض وفقاً لمراحل وجداول زمنية محددة، ويظهر لنا حجم الخلل الذي تتسبب به السلطة الفلسطينية نتيجة لذلك، وهي تقود الشعب الفلسطيني إلى المجهول منذ حوالي 30 عاماً.
منذ مشروع الوطن القومي لليهود في فلسطين، عرفت القضية الفلسطينية المشروعات السياسية التالية للحل:
1. مشروع الحل القائم على أساس دولة واحدة للشعبين الفلسطيني واليهودي.
2. مشروع الحل القائم على أساس دولتين متجاورتين، واحدة للفلسطينيين وأخرى لليهود.
3. مشروع الحل الذي تبنته حركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وكانت الثورة الفلسطينية تتبناه في بداياتها الأولى، في ستينيات القرن الماضي. وقد نصت حماس على هذا الحل في ميثاقها لعام 1988 والقاضي بالجهاد حتى تحرير كامل فلسطين التاريخية، إلا أنها عادت وتبنت في ميثاقها المعدّل لعام 2017 حل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية على حدود 1967، دون أن تعترف بحق الكيان الصهيوني في دولته التي يقيمها على أرض فلسطين.
إن الفرصة سانحة الآن، أكثر من أي وقت مضى، لتبني حلّ الدولة الواحدة، وتوجيه طاقة الشعب الفلسطيني لتفكيك الدولة الصهيونية، وإقامة دولة واحدة ثنائية القومية للشعبين الفلسطيني واليهودي، وإنّ تبنّي المقاومة الفلسطينية لهذا الحل سيحدث تحوّلاً جذرياً حقيقياً في تصحيح مسار القضية الفلسطينية نحو الحل.
أما المشروع الأول فقد تم الالتفاف عليه منذ طرحه لأول مرة عام 1947، وتم محاربته بعد ذلك صهيونياً وأميركياً حتى الآن.
أما المشروع الثاني، فيعترف به العالم أجمع منذ تم طرحه في الأمم المتحدة عام 1947، واعترفت به لاحقاً منظمة التحرير وجامعة الدول العربية، وقام على أساسه اتفاق أوسلو 1994، وإلى الآن لم تقم الدولة الفلسطينية كاملة السيادة والتمثيل، حتى أصبح من المستحيلات.
أما المشروع الثالث، فهو المستحيل بعينه في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة.
وقد شرحت باستفاضة في مقالاتي السابقة: لماذا على الفلسطينيين التخلي المطلق عن حل الدولتين، وتبني حل الدولة الواحدة؟ وذكرت العديد من الأسباب الموجبة لذلك، وجميعها لا تتعارض مع مواثيق كافة الفصائل الفلسطينية، ونذكر من هذه الأسباب على وجه الخصوص ما يأتي:
1. مشروع حل الدولتين هلامي مخادع، ثبتت باليقين عبثيته وعدم قدرته على تحقيق السلام والاستقرار الدائمين، ولا يقدم حلاً شاملاً وعادلاً للقضية الفلسطينية، ولا يلبي تطلعات وآمال الشعب الفلسطيني.
2. حل الدولتين لا يعالج جذور الأزمة بين الشعبين، ولا يعيد للفلسطينيين وطنهم، ولا أرضهم، ولا حقوقهم، ويترك الباب على مصراعيه لتفجّر الصراعات واندلاع الحروب من حين لآخر.
3. حل الدولتين لا ينهي التفوق العسكري النوعي للكيان الصهيوني، وتهديده للدول العربية.
4. معركة سيف القدس كشفت بما لا يدع مجال للشك أن التداخل السكاني بين الشعبين الفلسطيني واليهودي لا يمكن ترسيمه جغرافياً، وأن الهوية الوطنية لا يمكن طمسها بالتجنيس.
5. الشعب اليهودي، ولأول مرة على هذا النحو، بدأ يدرك حجم الخداع الذي تقوم به القيادة الصهيونية التي تحاول إقناعه بأنه سيكون في أكثر بقاع الأرض أماناً.
6. العالم بدأ يعترف أكثر فأكثر بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، والتزوير الهائل الذي تقوم به الحركة الصهيونية لفصول المأساة التي يعانيها ليل نهار، وأصبح العالم أكثر تقبلاً لفكرة حل الدولة الواحدة.
وأعتقد أن الفرصة سانحة الآن، أكثر من أي وقت مضى، للمضي لتبني حل الدولة الواحدة، وتوجيه طاقة الشعب الفلسطيني لتفكيك الدولة الصهيونية، وإقامة دولة واحدة ثنائية القومية للشعبين الفلسطيني واليهودي، وإنّ تبنّي المقاومة الفلسطينية لهذا الحل سيكون تحوّلاً جذرياً في تصحيح مسار القضية الفلسطينية نحو الحل.
مرتكزات المشروع السياسي القادم
في تقديري أن المشروع السياسي القادم يقوم على المرتكزات الرئيسية التالية:
1. استمرار الانتفاضة الشعبية
مواصلة الانتفاضة الفلسطينية الشعبية ضد الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه على كافة المستويات، وفي كافة خطوط التماس مع الكيان الصهيوني، في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس والأراضي المحتلة 1948، وفي الشتات والجاليات، في العواصم العربية والعالمية، انتفاضة سياسية فكرية ثقافية إعلامية منظّمة ومتواصلة بلا انقطاع، ووضع خطة وطنية مبدعة، للقيام بذلك، تضمن استمرارية الانتفاضة وقوة زخمها، وقدرتها على التعبئة والتجييش والتأثير.
2. إسقاط اتفاق أوسلو وقادته
أعتقد أنه حان الوقت للانتفاض، بادئ ذي بدء، على اتفاق أوسلو وسلطته، الذين يعبثون بالقضية الفلسطينية ودماء شعبها، ويتحالفون مع الكيان الصهيوني، ويقمعون المقاومة، ويعززون الانقسام بين أبناء الشعب الفلسطيني، حفاظاً على مناصبهم ومكتسباتهم الشخصية، ويعجزون عن صياغة مشروع تحرر وطني يصمد في وجه العدو المتغطرس الذي لا يلقى لهم بالاً، ولا يضع لهم اعتباراً. وإن حركتي "فتح" و"حماس" -على وجه الخصوص- تتحملان مسؤولية تاريخية بالغة الأهمية في القيام بهذه المهمة، لإحداث هذا التغيير، والقضاء على جذور الفتنة وأسباب الانقسام، في أسرع وقت، ولتكن الخطوة الأولى في الانتفاضة الشعبية هي الإطاحة بهذا الاتفاق المشؤوم، وما أقيم حوله من عروش.
3. بناء السلطة الوطنية الحقيقية
تشكيل قيادة وحدة وطنية تمثّل فلسطينيي الداخل والخارج الذين يصل تعدادهم إلى حوالي 15 مليون نسمة، تنهي انقسام العار الحزبي والفكري، وتضع مشروعاً مشتركاً للتحرر الوطني في مواجهة الاحتلال، وتقود الشعب الفلسطيني إلى بوابة الخلاص، وتعمل على تعزيز لُحمته الوطنية، وتكامله السياسي والعسكري والفكري والثقافي والاجتماعي.
4. إسقاط حل الدولتين
رفض حل الدولتين بصورة قطعية للأسباب التي سقناها، ولغيرها مما لا يتسع له المقام في هذا المقال، وصياغة المشروع المشترك الوطني المشترك الذي تلتقي عليه جميع القوى الوطنية لمواجهة الكيان الصهيوني.
5. تعزيز القدرة العسكرية
الاستمرار في تطوير القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية، وتطويرها نوعياً على المستويين الإستراتيجي والتكتيكي، لتزيد من ثقل كفتها في ميزان التسلح بينها وبين الكيان الصهيوني، استعداداً لأي مواجهات قادمة محتملة.
6. رفض كافة مشروعات السلام العربية السابقة واللاحقة مع الكيان الصهيوني
ويشمل ذلك مبادرة الملك فهد بن عبد العزيز، ومبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومشروع صفقة القرن، واتفاقات إبراهيم، وأية اتفاقيات أخرى بين الدول العربية والكيان الصهيوني، تضرّ بالقضية الفلسطينية والمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني والمكانة الخاصة لفلسطين عربياً وإسلامياً.
إن هذه المرتكزات ليست ضرباً من المستحيل، مثلما كانت الرشقات الصاروخية على مدن الكيان الصهيوني، ليست من المستحيل، ولن تكون بدون عقبات تمنع تقدمها وتحول بينها وبين إنجازها في الوقت المناسب، وإن الإرادة الوطنية فوق المستحيل، والشعب الفلسطيني الذي قدم ويقدم دائماً فاتورة الدم والدمار، ويعاني مرارة الشتات واللجوء وشظف العيش وذل السؤال بصبر واحتساب، مستعد لتقديم المزيد من التضحيات، ولن يتأخر عن مدّ قادته بما تحتاجه المعركة من الأبطال لتعزيز المواجهة، هذا الشعب مازال ينتظر منكم أن تفتحوا له باب الخلاص، فلا تخذلوه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.