نظرات وعبرات | هل يقطع سيف الأقصى رأس حارس الأسوار؟

Israeli-Palestinian violence flares up
صواريخ أطلقتها المقاومة من غزة باتجاه إسرائيل (رويترز)

كما توقعنا في المقال السابق فقد خرجت التطورات التي شهدتها ساحة المسجد الأقصى عن السيطرة، لتتحول إلى حرب رابعة بين حكومة الكيان الصهيوني وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ورغم التشابه الكبير بين هذه الحرب والحروب الثلاث السابقة 2008 و2012 و2014 فإنها اختلفت عنها في جوانب حيوية لم تحدث من قبل، وكان لها من النتائج والآثار ما لم يكن في الحسبان، وكان لها من الدلالات ما لا يمكن إنكاره، ومع ذلك يبقى السؤال الأكبر الذي ينتظره الفلسطينيون قبل غيرهم: وماذا بعد؟

 

على الشعب اليهودي أن يفهم أنه لن ينعم بالسلام دون تسوية عادلة للقضية الفلسطينية تحقق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلى الدول التي تدعم الكيان الصهيوني أن تعي ذلك أيضا إذا كانت صادقة في دعم الشعب اليهودي وفي مزاعم الحل العادل للقضية الفلسطينية.

نتائج لم تكن في الحسبان

أشرت في مقدمة المقال السابق والأخير من سلسلة "صناعة العدو والصديق" إلى أنه على القيادة الصهيونية الخروج من مأزق حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى بالسرعة الممكنة، "حيث من المتوقع إذا تأخرت عملية احتواء هذه الأزمة أن تنفجر الانتفاضة الثالثة في عموم فلسطين المحتلة، محدثة خلطا كبيرا للأوراق السياسية على كل المستويات، فلسطينيا وصهيونيا وعربيا ودوليا، وراسمة فصلا جديدا في القضية الفلسطينية تتغير فيه الوجوه والاتفاقيات"، وقد تأخر رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في احتواء الأزمة، مما أدى إلى حدوث نتائج كبيرة بالغة الأهمية، بعضها وقع لأول مرة منذ احتلال فلسطين عام 1948، وفي مقدمة هذه النتائج:

1. تحكم المقاومة في قواعد الاشتباك، فقد فرضت المقاومة قرارها وخيارها على حكومة الكيان الصهيوني، بالانتقال بالأحداث من مرحلة الاشتباك بالحجارة والصدور العارية والإصرار العنيد في ساحة الحرم المقدسي إلى رشقات صاروخية مكثفة تنطلق من قطاع غزة باتجاه المدن الإسرائيلية القريبة والبعيدة، فجرّت بذلك حكومة الكيان الصهيوني إلى حرب لم تكن ترغب بها على هذا النحو.

2. صحوة الهوية الفلسطينية لدى الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948، والذين فرض عليهم الاحتلال الجنسية الإسرائيلية، وصاروا يُعرفون بـ"عرب إسرائيل" أو عرب 48، وكانوا يعتبرون منذ ذلك التاريخ بمثابة مواطنين إسرائيليين يخضعون لقوانين وأحكام الكيان الصهيوني في التعليم والثقافة والصحة والعمل والدفاع والأمن، مع الكثير من التمييز العنصري بينهم وبين المواطنين اليهود.

ولأول مرة منذ ذلك التاريخ تستيقظ الهوية الوطنية الفلسطينية في صدورهم بهذه الصورة الجماعية الواسعة، ويشعرون بواجب التضامن العلني مع إخوانهم في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة بغض النظر عن الثمن الذي سيدفعونه مقابل ذلك، هذه الروح الفلسطينية الشاملة التي حاول الكيان الصهيوني طمسها على مدى العقود السبعة الماضية استيقظت من جديد ولن تهدأ مرة ثانية.

3. عودة التضامن العربي والإسلامي والدولي الشعبي من جديد مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة بعد أن أحبطه الانقسام الفلسطيني، وغيبته الحروب الأهلية التي انفجرت في اليمن وسوريا وليبيا والعراق، والأزمات السياسية المزمنة في مصر وتونس والسودان ولبنان ومجلس التعاون الخليجي.

وتعتبر هذه العودة مؤشرا كبيرا على رفض الشعوب العربية والإسلامية مشروع "اتفاقيات إبراهيم" وعملية التطبيع الكامل التي تقوم بها بعض الدول العربية تبعا لهذه الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني.

دلالات قاطعة ساطعة

هذه النتائج وغيرها دلت بصورة قاطعة على جملة من الحقائق التي يجب على جميع الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية أن تعيها جيدا، وعلى رأسها ما يأتي:

1. الشعب الفلسطيني لا ينكسر

فالشعب الفلسطيني -كسائر شعوب الأرض- لن يتخلى عن قضيته، ولن يتنازل عن حقوقه، ولن يتأخر عن بذل الغالي والنفيس من أجل استعادتها مهما طال الزمن ومهما بلغت التضحيات وتوالت المؤامرات، وقد أثبتت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة -ومن ورائها الشعب الفلسطيني- أنها تخرج بعد كل حرب مع الكيان الصهيوني أقوى مما كانت عليه قبلها رغم الفاتورة الباهظة التي تتحملها في هذه الحرب.

2. مركزية القضية الفلسطينية عربيا وإسلاميا:

فرغم قسوة السياق الراهن الذي تمر به الدول العربية والإسلامية، والأزمات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية الداخلية والخارجية التي تواجهها فإن هذا السياق لم يلغِ مركزية القضية الفلسطينية لدى هذه الدول، وهذا سيفتح المجال من جديد للتضامن والدعم والتأييد للقضية الفلسطينية في المرحلة القادمة على نحو ما كانت عليه قبل اتفاقية أوسلو.

3. بؤرة التوتر والاستقرار:

ستظل القضية الفلسطينية بؤرة التوتر والاستقرار في دول المنطقة على المستويين الرسمي والشعبي، ولن تنعم المنطقة باستقرار حقيقي دون حل عادل وشامل للقضية، وأي محاولات التفافية سيكون مصيرها الفشل، وستتحطم على صخرة الصمود والتحدي التي يلتصق بها الشعب الفلسطيني منذ حوالي 100 سنة.

4. السلام المفقود:

السلام الذي يبحث عنه الكيان الصهيوني والشعب اليهودي في فلسطين لم ولن ولا يتحقق بالترسانة العسكرية والترهيب والظلم، والهيمنة الأمنية والاقتصادية، وتزوير التاريخ، والحماية الغربية، والتمرد على القانون الدولي والشرعية الدولية، ولن يكون هذا السلام على حساب الشعب الفلسطيني صاحب الأرض.

وعلى الشعب اليهودي أن يفهم أنه لن ينعم بالسلام دون تسوية عادلة للقضية الفلسطينية تحقق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلى الدول التي تدعم الكيان الصهيوني أن تعي ذلك أيضا إذا كانت صادقة في دعم الشعب اليهودي وفي مزاعم الحل العادل للقضية الفلسطينية.

5. هشاشة الكيان الصهيوني:

التفوق العسكري النوعي الذي يتمتع به الكيان الصهيوني لا يعني تفوقا في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ولا تماسكا وصلابة في الجبهة الداخلية، فهناك العديد من المجالات التي يمكن تحويلها إلى ساحات حرب تُلحق بالكيان الصهيوني هزيمة محققة دون أن تلحق بالشعب الفلسطيني هذا الحجم من التضحيات والمعاناة، وقد رأينا حجم الرعب والفزع والإرباك والاضطراب الذي سببته صواريخ المقاومة الفلسطينية التي لا تساوي شيئا في ميزان قوة الكيان الصهيوني.

6. زمام القضية بيد الفلسطينيين:

الفلسطينيون وحدهم هم من يملكون زمام القضية الفلسطينية وليس غيرهم من الدول العربية أو الغربية، الكبرى أو الصغرى، وحل القضية ليس بيد الولايات المتحدة ولا بيد المجتمع الدولي ولا بيد المطبعين القدامى أو الجدد ولا بيد المشروعات الصهيونية وإنما بيد الفلسطينيين وحدهم، وأي تراخٍ أو تراجع أو فشل يصيب القضية الفلسطينية يتحمله الفلسطينيون قبل غيرهم.

المحاذير الكبرى

أود التنبيه هنا إلى جملة من المحاذير التي قد يغفل عنها أصحاب الشأن أو المتابعون له مع سخونة الأحداث ومفاجآتها النوعية، ومن أهمها:

1. الاستعداد للسيناريو الأسوأ:

على المقاومة الفلسطينية الاستعداد لمواجهة السيناريو الأسوأ الذي يمكن أن تنتهي إليه هذه الحرب، وهو سيناريو الاجتياح الشامل الذي ينتهي بالقضاء الكامل على المقاومة الفلسطينية، وإخراج حركتي حماس والجهاد الإسلامي من قطاع غزة على غرار ما حدث في الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 الذي انتهى بإخراج القوات الفلسطينية من لبنان، إن هذا السيناريو هو كارثة الكوارث، ولا ينبغي السماح بتكراره مهما كان الثمن.

2. القدس ليست القضية الفلسطينية:

تعتبر مدينة القدس وفي القلب منها المسجد الأقصى على وجه الخصوص محركا لمشاعر مليارات البشر من أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية، وليس مجرد حفنة من البشر تعيش على أساطير خرافية ومزاعم ملفقة، ومع ذلك، تبقى مدينة القدس ملفا رئيسيا من ملفات القضية الفلسطينية، ويجب عدم اختزال القضية الفلسطينية فيها وبالتالي توجيه العالم لإيجاد حل لمشكلة القدس على حساب القضية الفلسطينية بكافة ملفاتها.

3. الحرب ليست غاية:

الثمن الذي يدفعه قطاع غزة في حروبه مع الكيان الصهيوني باهظ جدا، خاصة على مستوى السكان وظروفهم المعيشية وبنيتهم التحتية، ولذا فإن مثل هذه الحروب لا ينبغي الدخول فيها دون برنامج سياسي للمقاومة يستحق الثمن الذي يدفعه قطاع غزة في هذه الحروب.

4. عدم العودة إلى الوراء

إذا لم تسفر هذه الحرب عن وضع بداية جديدة للتعامل مع القضية الفلسطينية داخليا وخارجيا -فلسطينيا وعربيا ودوليا- فهو ذروة الجنون، يجب أن تكون هذه الحرب بداية لصفحة جديدة في تاريخ القضية الفلسطينية على كافة المستويات، بداية لا تعترف بأي اتفاقيات سابقة، بداية تعيد رسم مسار القضية الفلسطينية في السنوات القليلة القادمة بعيدا عن المرجعيات والتنبؤات والتوازنات المعطلة والرهانات المدمرة، فلا عودة لاتفاقيات أوسلو، ولا عودة لحل الدولتين، ولا عودة لاتفاقيات الإذعان القديمة منها والحديثة.

الانتفاضة الثالثة

إذا لم تلجأ حكومة الكيان الصهيوني إلى السيناريو الأسوأ وهو الاجتياح الشامل فمن المتوقع أن يكون السيناريو الثاني استمراره في الحرب لحين تحقيق أهدافه المرصودة، ثم قبول الوساطة الإقليمية والدولية للاتفاق على بنود الهدنة القادمة، والتي قد تتضمن بعض المشروعات المطروحة سابقا والتي لم يتم تنفيذها، والتي تخفف الاحتقان والضغط الاقتصادي والاجتماعي الذي يعاني منه قطاع غزة، كالمطار والميناء والمشروعات الاقتصادية.

وأظن أن الفرصة مواتية جدا أمام الفلسطينيين لتحقيق مكاسب أكبر من ذلك بكثير على صعيد قضيتهم الكلية، وذلك عن طريق إطلاق الانتفاضة الثالثة، والاستمرار في الاحتجاجات والمواجهات الشعبية مع الكيان الصهيوني ومستوطنيه، ولكنها لن تكون انتفاضة كسابقاتها، أو انتفاضة ثالثة تتبعها رابعة وخامسة، وإنما انتفاضة ثالثة فقط، انتفاضة مستمرة لا تتوقف، تهدأ لتبدأ من جديد، تشارك فيها جميع المحاور الفلسطينية في الداخل والخارج، ومؤيدوها في جميع أنحاء العالم، وتغطي المجالات التالية:

1. انتفاضة على الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه.

2. انتفاضة على "أوسلو" وحل الدولتين.

3. انتفاضة على السلطة الفلسطينية التي أكلها الصدأ، وشلّها الفساد والمكتسبات الوهمية.

4. انتفاضة على الانقسام الفلسطيني الذي أصبح عارا لا ينبغي الاستمرار فيه أكثر من ذلك.

5. انتفاضة على التخاذل العربي والعجز الرسمي الإجرامي.

6. انتفاضة على المجتمع الدولي ومؤسساته وتخاذلها في حق القضية الفلسطينية وازدواجيتها في محاباة الكيان الصهيوني.

7. انتفاضة على مشروع "اتفاقيات إبراهيم"، ومن ورائه مشروع الشرق الأوسط الجديد.

ومثلما أبدعت المقاومة الفلسطينية في إيجاد حلول عسكرية تحقق شيئا من الردع للكيان الصهيوني فعلى القيادة السياسية أن تبدع حلولا فلسطينية تحقق الردع الشامل للكيان الصهيوني، وتحقق الردع الذي لم تستطع تحقيقه الرشقات الصاروخية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.