دار الإفتاء المصرية بين الدين والسياسة

صور من التاريخ الإسلامي - الأزهر وشيوخه
(الجزيرة)

تعد دار الإفتاء التي أنشئت عام 1895 واحدة من أهم المؤسسات الدينية في مصر، وتم إنشاؤها كجزء من إستراتيجية الدولة الحديثة للسيطرة على المجال العام وضبطه في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الشأن الديني.

وكانت لدى السلطة رغبة في ضبط الإفتاء ومنع غير المختصين وغير المؤهلين من الإفتاء، وكذلك منع غير المرخص لهم بشكل رسمي، وهو ما لم تنجح فيه الدولة حتى الآن. ومنذ تأسيسها، أُلحِقت دار الإفتاء بوزارة العدل، وأُنيط بمفتي الديار اختصاصُ إبداء الرأي غير الملزم في أحكام الإعدام الصادرة من المحاكم، وظل هذا الاختصاص محل جدل إلى اليوم. كما أنيط به اختصاص استطلاع أهلة شهور السنة القمرية وإعلان بدايتها، ومنها على الأخص هلال شهر رمضان وبداية فريضة الصيام ونهايتها، وقد استقلت دار الإفتاء عن وزارة العدل عام 2007.

منذ تولى الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر تحولت دار الإفتاء إلى "بوق للسلطة"، وتم استخدامها أداة سياسية لشرعنة سياسات النظام، وقدّم عدد من شيوخ وأئمة دار الإفتاء أصواتهم لدعم النظام الحالي بطريقة غير مسبوقة في تاريخ المؤسسة

وكما هي الحال مع الأزهر، شهدت العلاقة بين الدولة ودار الإفتاء شدّ وجذب، وحاول بعض المفتين الاستقلال عن الدولة، خاصة خلال النصف الأول من القرن العشرين. ولكن رغم ذلك نجحت الدولة في فرض السيطرة على مؤسسة دار الإفتاء والتحكم في شؤونها، وهو ما أضعف استقلالها خلال النصف الثاني من القرن الأخير. وفي كثير من الأحيان كانت الدولة تحاول استخدام دار الإفتاء في صراعها مع الأزهر، خاصة خلال مرحلة ما بعد انقلاب يوليو/تموز 2013. فعلى سبيل المثال، حاول نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي طرح مشروع قانون لتنظيم دار الإفتاء المصرية، الذي يهدف إلى إنشاء كيان مواز للأزهر، وتهميش دوره لصالح دار الإفتاء. وهو ما رفضه شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، واعتبره محاولة لتقليص صلاحيات مؤسسة الأزهر، وهو ما يعد أمرا غير دستوري.

إعلان

وحقيقة الأمر، فإنه منذ تولي الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر تحولت دار الإفتاء إلى "بوق للسلطة"، وتم استخدامها أداة سياسية لشرعنة سياسات النظام، كما قدّم عدد من شيوخ وأئمة "دار الإفتاء" أصواتهم لدعم النظام الحالي بطريقة غير مسبوقة في تاريخ المؤسسة، ولعل أبرزهم المفتي العام السابق لمصر الشيخ علي جمعة، وكذلك المفتي الحالي الشيخ شوقي علام، اللذان يعدان من أهم المؤيدين الصريحين للرئيس السيسي، لا سيما في حملته القمعية ضد جماعة الإخوان المسلمين، ولكل منهما تصريحات معروفة في هذا الصدد.

ورغم أن النظام الحالي في مصر يدّعي أنه جاء للسلطة من أجل وقف استخدام وتوظيف الحركات الإسلامية للدين في المجال السياسي، فإنه يعد من أكثر الأنظمة في مصر التي تستخدم الدين من أجل تحقيق غايات سياسية. فعلى سبيل المثال، أصدرت دار الإفتاء عشرات الآراء والفتاوى الدينية التي تسعى لشرعنة سياسات النظام الحالي سياسيا وداخليا. فمثلًا، تم إصدار فتاوى لدعم موقف السيسي من الأوضاع في ليبيا، وكذلك الهجوم على الإسلاميين، وتوجيه انتقادات لاذعة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فضلًا عن تبرير سياسات الحكومة المصرية في مكافحة فيروس كوفيد-19. فخلال الفترة من الأول من يناير/كانون الثاني 2020 وحتى يونيو/حزيران2020، فإن ما يقرب من ثلث البيانات التي أصدرها المركز الإعلامي لدار الإفتاء تتناول قضايا ومسائل سياسية، وهو أمر عجيب وغريب؛ فالوظيفة الأساسية لدار الإفتاء أن تفتي الناس في شؤون دينهم ودنياهم، وليس إصدار مواقف وبيانات سياسية، خاصة إذا كانت تقع في مغبة الانقسام والاستقطاب السياسي كما هي الحال الآن في مصر والمنطقة العربية.

ومن المعروف أن الدولة المصرية تتحكم في كافة المؤسسات الدينية، بما فيها الأزهر، من حيث الموارد المالية وإدارة شؤونها. فعلى سبيل المثال، تعيّن الحكومة كافة الأئمة والشيوخ، وتراقب عملهم بما في ذلك إقامة الصلوات في المساجد المرخصة، وتدفع رواتبهم. ووفقًا للقانون، فإن العقوبات المنصوص عليها للوعظ أو إعطاء دروس دينية من دون ترخيص من وزارة الأوقاف أو الأزهر تشمل السجن لمدة تصل إلى سنة واحدة أو دفع غرامة تصل إلى 50 ألف جنيه (3100 دولار)، وتُضاعف العقوبة لمن تتكرر مخالفاتهم، ولدى مفتشي وزارة الأوقاف أيضا السلطة القضائية لاعتقال الأئمة الذين يخالفون هذا القانون.

إعلان

ورغم ذلك يجب الإشارة إلى أنه ليست كل المؤسسات الدينية تقدّم الدعم السياسي للنظام الحالي؛ فهناك 4 كيانات مصرح لها حاليا بإصدار فتاوى (أحكام دينية ملزمة للمسلمين)، وهي: هيئة كبار علماء الأزهر، والمركز الأزهري للدراسات الإسلامية، ودار الإفتاء، وإدارة الإفتاء العام في وزارة الأوقاف. وكما أشرنا في مقال سابق، فإن الأزهر يخالف بعض سياسات النظام، وهو ما أدى إلى توترات بين السيسي وشيخ الأزهر. كذلك فإن الدعم الذي تقدمه بعض هذه المؤسسات للنظام الحالي لا ينطلق من اتفاقها معه في سياساته، ولكن أحيانًا بسبب خوفها من وصول الإسلاميين للسلطة، خاصة جماعة الإخوان المسلمين. وثمة عداء تاريخي بين هذه المؤسسات وجماعة الإخوان والسلفيين، وهو ما بدا بوضوح أثناء الفترة التي حكم فيها الإخوان مصر بين عامي 2012 و2013، حيث حاولت الجماعة السيطرة على هذه المؤسسات، ولكنها فشلت، ولعل هذا سبب العداء الشديد بين مؤسسات كدار الإفتاء ووزارة الأوقاف للإخوان المسلمين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان