حول البراعة الفائضة عن الحاجة

بينهن خطاطة أوروبية كتبت القرآن في القرن 18.. الخطاطات النساء وإبداع درر الفن الإسلامي
(الجزيرة)

انتهيتُ أخيرًا من قراءة رواية تملّكني شعور بعدها أن كاتبها أفرغ فيها من البراعة ما كان فائضًا عن الحاجة، فارتدّ كل شيء إلى نقيضه، وعوض أن أخرج بشعور جيد حيال النص، سيطر عليّ انطباع برداءة العمل!

تُعيدني هذه التجربة إلى فكرة لطالما شغلتني، وهي أن الكتابة الجيدة، على خلاف الشائع، تحدث بالقيود وليس بالانفلات، وأن القوانين الملزمة هي ضمانة النجاة من الغرق أو التوهان أو الاستغراق في الوجهة الخاطئة.

أميل إلى الدوائر غير المغلقة، تلك التي يمكن النفاذ عبر ثقوب فيها تبدو نقصًا للوهلة الأولى، لكنها في آخر المطاف سرّ تمامها. أميل إلى الحكايات غير المكتملة، تلك التي يجد القارئ نفسه مدفوعًا لإكمالها من عنده عبر ألف احتمال واحتمال.

يجدر بالكاتب، برأيي، أن يُحيط نفسه بالمحاذير الإبداعية، ثم يمضي باحثًا عن الدروب القليلة المتبقية والمفضية إلى التمام، عبر تلك الأسلاك الشائكة والمتشعبة من الممنوعات. الأمر يُشبه ما يقوم به المغامر الذي يسير بتؤدة على حبل نحيل مشدود بين ناطحتي سحاب، وبقدر ما يبدو الفضاء أمامه متسعًا، يكون خياره الالتزام والتقيّد بالسير المتمهّل صوب الوجهة السليمة حتى يبلغها آمنًا. والأمان هنا لا يُعارض الإبداع بقدر ما يُثبته ويؤكده. والسير على مهل لا يخدش مهمة صاحبه، إذ لم تكن السرعة يومًا دالّة على شيء في ما يخصّ الكتابة الإبداعية. المحاذير هنا كتلك الحارات الوهمية التي يتقيّد بها سائق المركبة طوال سيره على الطريق مع قدرته على التنقّل بينها دون ضابط.

وحين يُحسن الكاتب استخدام أداة ويتملّكها، عليه إلى جوار ذلك، أن يُتقن نثرها في نصه بالقدر الكافي -والكفاية هنا صنو الحضور المتقشّف وليست الوفرة- وإلا فقدتْ دهشتها واستحالت عبئًا وحشوًا يضيق به القارئ وينفر منه. الإتيان بحركة بهلوانية مفاجئة أمر قد يستدعي الدهشة في المرة الأولى، وربما التصفيق في الثانية، لكنّ وفرة الشقلبات بعد ذلك، وإن كانت متقنة، تُصيب المتابع بالدوار، وتدعوه ليشيح ببصره بعيدًا. أو على الأقل هي تنزع عن الفعل فرادته، والفرادة رهينة الندرة غالبا. وهنا يحضر الفيلسوف البريطاني آلان دوبوتون ومقولته البديعة "يكون كلّ شيء مدهشًا جدًا.. مرة في العمر"، فما بالنا بتلك الوفرة من الشيء نفسه في مساحة محدودة؟

البعض مفتون بالتشبيهات، وقد يكون بارعًا فيها بالفعل، لكن حشرها في كل موضع سردي يخصم من قيمة العمل عوض أن يُضيف إليه، ويجعل اللغة حادّة مؤذية وثقيلة، عوض أن تعبّر برهافة. آخر تستهويه الألعاب السردية، بحيث يملك أن يعبث بمصائر الشخصيات وكأنه يُقلّب بخفّة ورق اللعب بين كفيه، غير أنّ الإفراط في ذلك سيجعل اللعبة بأسرها مدعاة للضجر. ثالث لا تروقه الطرق المستقيمة، فيعمد إلى رمزية قاتمة في كل مشهد سردي حتى يتوه هو نفسه قبل الآخرين. رابع مهجوس بالتجريب والتخييل، فيذهب بعيدًا دون أن ينتبه إلى ضرورة وجود منطق حكائي حتى مع الحكايات الخيالية فيسقط العمل في خانة السذاجة أو الافتعال أو الاعتساف.

وبالعودة إلى قيود الكتابة، أجدني، كقارئ، أميل إلى تلك الأعمال التي ترنو إلى ضيق المساحات الممكنة، لا إلى شساعتها البادية، دون أن يفقد الواحد الرغبة والدأب في جعلها أرحب. التحرك المشروط يجعل الدروب ملك صاحبها، وذلك على خلاف ما إذا كانت الحركة متفلّتة في فضاء رغم اتساعه لا يملك من أمره فيه شيئًا.

أميل إلى تلك الخطوة الحذرة المتوجّسة لا يضعها صاحبها إلا بعد لأي، وكأنها آخر الخطوات. أميل إلى ذلك التمهّل الذي يُغدق على كل كلمة ما تحتاج إليه من ارتواء فتأتي الجملة عامرة بالمعنى، على نحول عودها، لأن لا فرصة أمامها، والحال هذه، أن تنحاز للغو والثرثرة والامتلاء.

أميل إلى الدوائر غير المغلقة، تلك التي يمكن النفاذ عبر ثقوب فيها تبدو نقصًا للوهلة الأولى، لكنها في آخر المطاف سرّ تمامها. أميل إلى الحكايات غير المكتملة، تلك التي يجد القارئ نفسه مدفوعًا لإكمالها من عنده عبر ألف احتمال واحتمال. أميل إلى اللغة غير المتخمة، تلك التي تُشعرنا رشاقتها أننا نعبر السطور بمتعة، محتفظين في الآن نفسه، بقدرتنا على التنفس الهادئ، لأنها تُراعي الصمت والفراغات. أميل إلى النهايات المنقوصة، تلك التي تُشرع نوافذ على بدايات جديدة للنص، فيشهد ولادات لا تنتهي مع كل قراءة. أميل إلى الفن الذي، رغم قدرته، يُقرّر ألاّ يصل إلى الخلاصات، ألاّ يُغلق الباب ما دامت ثمة فرصة لتمرّ الريح عبره. أميل إلى القيد الإبداعي ما دام يجعل الواحد يتوق على الدوام إلى تجاوزه بسلام!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.