جامعة هارفارد حين ترحب بالمشردين

فوج من خريجي جامعة هارفارد أثناء حفل تخرجهم عام 2015 في جامعة هارفارد (المصدر سمح بالنشر)
(الجزيرة)

أنهت "داون لوجنز" دراستها المدرسية، وتخرجت في مدرسة بيرنز الثانوية، ودخلت جامعة هارفارد العريقة.

لا يوجد أي شيء غريب في الجملة السابقة إلا إذا عرفت حكاية هذه الفتاة غير العادية.

فقد دفعت ظروف حياة الفتاة الأميركية للاستيقاظ يوميا قبل مطلع الفجر، لتغسل طرقات وسلالم وفصول مدرستها الحكومية في مدينة لوندال بولاية كارولينا الشمالية.

وكان أكثر ما يضايق الطفلة الصغيرة هو تضررها من جمع مخلفات طعام زملاء فصلها، وزجاجات المياه الغازية الفارغة من أركان الفصول المختلفة، إذ ترى أن هناك صناديق قمامة مخصصة لإلقاء المخلفات بها في كل مكان بالمدرسة، ولا يلتزم زملاؤها بذلك.

ترك القدر التلميذة داون في الشارع، وأصبحت طفلة "مشردة" (Homeless) مع بدء العام الدراسي الأخير من تعليمها الثانوي، وذلك بسبب إدمان والديها على المخدرات والكحوليات، وهو ما أدى إلى طردهم جميعا من مسكنهم قبل سنوات، ولم يجدوا سوى الشارع ملجأ.

كانت داون تعمل يوميا من الساعة الخامسة حتى الثامنة صباحا، وتحضر بعد ذلك حصصها حتى من الثامنة والنصف حتى الثانية عصرا، ثم تنظف حديقة المدرسة، قبل أن تبدأ مذاكرة دروسها في المساء.

 

ولدت داون لأسرة فقيرة بالمعايير الأميركية لدرجة قطع الماء والكهرباء عن منزلهم، بسبب عدم قدرتهم على دفع تكلفتهما الشهرية، وكانت داون تمكث لأسابيع دون استحمام، وكانت تسير مع أخوها الأصغر لمدة 20 دقيقة يوميا إلى حديقة عامة تقضى بها حاجاتها، وتشرب هناك ماء يكفيها طوال اليوم.

ثم انتقل الوالدان لولاية تينيسى المجاورة بعد طردهما من ملجأ المشردين، وانقطعت صلتهما بابنتهما. وخشيت التلميذة الصغيرة أن يتم تسليمها لمسؤولي إدارة رعاية المشردين بالمدينة، واضطرت لقضاء أيام وأسابيع في الشوارع، وكانت تنام في الحدائق ومواقف السيارات العامة، وغالبا في بيوت أصدقائها. وعلمت إدارة المدرسة ما جدَّ في حياة داون، إلا أن المسؤولين بالمدرسة الثانوية لم يرضوا أن تصبح إحدى تلميذاتهم مشردة لأسباب ليس لها يد فيها.

تناوب المدرسون والموظفون وسائقو حافلات المدرسة استضافة التلميذة الصغيرة في بيوتهم، ومنحوها عملا في مدرستها "عاملة نظافة" كسبت منه قليلا من المال. وكانت داون تعمل يوميا من الساعة الخامسة حتى الثامنة صباحا، وتحضر بعد ذلك حصصها حتى من الثامنة والنصف حتى الثانية عصرا، ثم تنظف حديقة المدرسة، قبل أن تبدأ مذاكرة دروسها في المساء.

لم تكن داون من أكثر التلاميذ اجتهادا، ولا من أفضلهم أكاديميا، وكانت تحصل على درجاتها فوق المتوسط بقليل، إلا أنها كانت تتفوق في مواد العلوم بصورة خاصة. وأصبحت كل أحلام الفتاة الصغيرة تتمثل فقط في رغبتها أن تنال فرصة الدخول للجامعة، حيث يبعدها ذلك عن المصير الذي انتهى إليه والديها. وتم دعوة داون لحضور برنامج يشرف عليه حاكم الولاية للطلاب المتفوقين في مواد العلوم بمدينة تبعد 300 كيلو عن مدينتها، وساعد المدرسون داون على المشاركة في هذا البرنامج، وكانوا يقومون بتوصيلها، وشراء ما تحتاجه من مستلزمات دراسة وملابس.

ومع قرب انتهاء السنة الأخيرة من تعليمها الثانوي، قدمت داون لـ5 جامعات من أجل الدراسة في إحداها، كما يفعل كل طلاب مدارس الثانوية، وكان 4 منها جامعات حكومية في ولايتها، حيث تتمتع حال قبولها بدفع مصروفات قليلة، لأنها من المقيمين بالولاية، وقدمت أيضا في جامعة الأحلام "هارفارد" التي تراود كل طالب علم حالم بمستقبل مختلف. ولم تعهد مدرسة بيرنز الثانوية من تلاميذها أن يتجرأ أحدهم ويقدم طلبا للقبول بإحدى الجامعات الأميركية الكبرى. وتبلغ تكلفة الدراسة السنوية والإقامة في جامعة هارفارد ما يقرب من 80 ألف دولار سنويا، ويسعى كل سنة عشرات الآلاف من الطلاب -ممن يرون أنفسهم مؤهلين للدراسة في أرقى جامعة بالعالم وأكثرها مكانة- إلى تقديم طلبات للالتحاق بها، وقد قدم العام الماضي أكثر من 43 ألف طالب للالتحاق بالجامعة، ولم يتم قبول إلا 2009 طلاب منهم، أي ما نسبته 4.6% من إجمالي المتقدمين، ومنهم 11.3% من الطلاب الأجانب من خارج الولايات المتحدة.

وأرادت داون من مدرس التاريخ أن يكتب لها "خطاب توصية" (Recommendation Letter) يُطلب ضمن مستلزمات طلب الالتحاق للدراسة بالجامعات الأميركية.

وما كان من الأستاذ إلا أن كتب تفاصيل قصتها كما يعرفها، وشارك في بعض فصولها، وأشار إلى تفاصيل معاناتها الشخصية، وكتب كيف عرفت الجوع والنوم في الشوارع والفقر والمعاناة، وأوضح كذلك قوة تصميم دوان على النجاح، وإيمانه بأنها ستكون إضافة مهمة لجامعة هارفارد، وأنها تستحق الفرصة من هذه الجامعة العريقة.

وردت الجامعات الأربع الحكومية المحلية بقبول داون، على أن تبدأ دراستها الجامعية في الخريف التالي، وكانت تفاضل فيما بينهم من حيث التكلفة والسمعة الأكاديمية وحياة الطلاب فيها، إلا أنها تلقت -بعد عدة أسابيع وبعد انتهاء عملها في تنظيف حديقة المدرسة- خطابا من جامعة هارفارد جاء فيه "نحن نفتخر أن نخبرك أن لجنة القبول بجامعة هارفارد قد قررت قبولك للدراسة في الدفعة الجديدة، ونحن نرسل هذا الخطاب فقط لمن نراه مميزا من الطلاب المتقدمين من مختلف دول العالم".

ولم يتم قبول داون فقط في جامعة هارفارد، بل وفرت الجامعة لها منحة دراسة تشمل كافة مصاريف الدراسة والسكن والطعام للسنوات الأربعة، إضافة لتوفير عمل لها داخل الجامعة.

احتفل جميع أهالي قرية لوندال بخبر قبول داون في جامعة هارفارد، وقرروا التبرع لشراء تذكرة طائرة ذهاب وعودة وتكلفة النزول لعدة أيام في فندق حتى تذهب التلميذة الصغيرة لتشاهد جامعة هارفارد ومدينة بوسطن قبل الانتقال إليهما رسميا بعد شهور، وكانت هذه هي المرة الأولى للتلميذة الصغيرة التي تغادر فيها ولاية كارولينا الشمالية، والمرة الأولى كذلك التي تركب فيها طائرة.

وبعدما عرف الإعلام الأميركي بقصة داون، انهالت البرقيات المهنئة لها من كل أرجاء الولايات المتحدة، وعرض الكثيرون تقديم مساعدة مالية لها، إلا أن التلميذة الصغيرة رفضت الدعم المادي مؤكدة أن حصولها على المنحة الجامعية، وتوفير عمل لها بالجامعة هي كل ما تحتاجه في هذه الفترة من حياتها.

وتحلم داون الآن بأن تنهي دراستها، وبعدها تؤسس منظمة أهلية ترعى الأطفال والتلاميذ المشردين من أولاد الشوارع، وتمنحهم فرصا مساوية لأقرانهم من أطفال الشقق والبيوت.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.