شراكة صُنعت في الجنة.. عن التطبيع والتكنولوجيا المالية

يحضر التهديد الإيراني بكثافة لعقلنة الموجة الأخيرة من التطبيع التي يمكن وصفها على الأقل في الحالة الإماراتية وبدرجة أقل البحرينية بشراكة أمنية واقتصادية. هذا المقال لا ينازع الحقيقة الموضوعية لهذا التهديد، بل يجادل بأن أهداف هذه الشراكة تتعدى التعامل الدفاعي مع هذا التهديد المحدد إلى ملاحظة وقطف ثمار المنافع المشتركة الناتجة عما يمكن وصفه بتطابق الرؤى الإقليمية بين إسرائيل من جهة والنخب السياسية، والاقتصادية، والثقافية في بعض الدول المطبعة حديثا من جهة أخرى، واعتقاد الطرفين بإمكانية بل وجدوى حشد وتوجيه الموارد بشكل تكاملي لتأسيس تحالف قادر على إعادة تشكيل المنظومة الإقليمية بما يخدم مصالحهما.

تقرر نظرية توازن القوى الكلاسيكية أن الدول توازن في مقابل الدولة الأقوى، مع افتراض أن إسرائيل هي الأقوى بين ثلاثي الدول الخليجية المطبعة وإيران وإسرائيل يفترض أيضًا أن يتحالف الطرفان الخليجي والإيراني في مقابل إسرائيل. انتقد ستيفن والت في كتابه "أصول التحالف" هذه النظرية، مقترحًا ما أسماه توازن التهديدات، الذي يعني أن الموازنة تستهدف عادة الدولة الأكثر تهديدًا وليس الدولة الأقوى، جاعلاً من النوايا العدائية، بجانب عوامل أخرى، السمة الأهم للدولة التي تشكل التهديد. مرة أخرى، لا يمكن الدفاع عن إيران هنا والتي تبدو كأنها في سباق لاعتلاء أعلى مراتب التهديد لمحيطها مع الاعتراف بالبعد الخطابي "لأمننة" جميع خطوات إيران الإقليمية، إلا أنه يبقي تهديدا موضوعيا حقيقيا.

المشكلة في الجانب الآخر من معادلة توازن التهديدات هذه الاعتقاد بأن إسرائيل لا تمثل تهديدًا للدول الخليجية والعربية، هذا وإن كان متوقعا على مستوى بعض النخب، كما تمت الإشارة إليه، إلا أنه بدأ يتسرب منذ فترة ليست قصيرة لقلوب وعقول الأفراد في المجتمعات الخليجية والعربية، وهو ما يتماشى مع تعريف التطبيع كما تعرفه الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل: "احتلال للعقل يسوغ من خلاله استمرار اضطهاد الفلسطينيين كأمر عادي، وطبيعي، ولا يمكن تغييره. هذا الاحتلال النفسي وقبول الوضع القائم يسيطر على المؤسسات والأفراد الذين يفشلون في إدانة أو مواجهة الاضطهاد الذي يتعرض له الفلسطينيون".

تتطلب شرعنة وقبول منظومة إقليمية خبرة حياتية مادية بالضرورة على مستوى الأفراد والمجتمعات، وهنا تأتي جاذبية الشراكة مع إسرائيل

يمثل هذا الاحتلال العقلي والنفسي، أي التطبيع، خطوة مهمة نحو تكامل إستراتيجيات إسرائيل وبعض النخب الخليجية والعربية نحو ملاحظة رؤية إقليمية ينعمان فيها بأعلى مستويات الأمن والرفاهية. فالقضية الفلسطينية ليست مجرد تهديد مادي ملموس للجانب الإسرائيلي، بل تمثل أيضًا مركزًا لجذب مشاعر وقيم "غير طبيعية"؛ مشاعر الغضب والتعاطف واليأس والأمل، وقيم المقاومة والاستقلال والنصرة. هذه مشاعر وقيم لا تطيقها أو تسطيعها أغلب النخب العربية على الأقل على مستوى سياساتها الخارجية، مما يجعلها -أي القضية الفلسطينية- تهديدا مشاعريا وقيميا للطرفين وليس الإسرائيلي فقط. طبقًا لمنظومة الضبط والعقوبة الحديثة التي تسعى لخلق ذوات خاضعة أو ذوات "طبيعية"، يمثل هذا المستوى من "التطبيع" أحد مستويات بنية المنظومة الإقليمية.

تستلهم هذه الرؤى أفكارها حول بنية المنظومة الإقليمية من التنظيم الشبكي وليس من توازنات القوى التقليدية أو البنى المؤسساتية المستدامة؛ فالتهديدات الإقليمية -كما يراها أطراف هذه الشراكة- ليست تقليدية، بل متجاوزة للحدود وغير دولية، وبالتالي لا يمكن التعامل معها من خلال توازنات القوى والمنافسات الأمنية التقليدية. من جهة أخرى، من الصعب على أطراف هذه الشراكة إنتاج بنى مؤسساتية مستدامة تعبر عن وتمثل ثقافة وتاريخ الإقليم كالاتحاد الأوروبي أو الآسيان. هذا لا يمنع المحاولة بالطبع، والتي تنتج عادة "اختراعات" ثقافية وهوياتية مثيرة للسخرية كالإطار الإبراهيمي. إلا أن الطريق الأسلم يتمثل في التنظيم الشبكي وسماته المعروفة من سرعة ومرونة وسطحية، سمات مناسبة لنخب سياسية تسعى لاستخلاص موارد مادية وتوجيها لأهداف أمنية واقتصادية مع التعامل مع الحد الأدنى من الموارد الثقافية والهوياتية لمجتمعاتها التي قد تتسم بالصلابة وعدم المرونة، وذلك في سياق منظومة إقليمية تتسم بكفاءة المخرجات الأمنية والاقتصادية على حساب العمق الثقافي والهوياتي.

يتطلب شرعنة وقبول منظومة إقليمية -في جوهرها مجرد شبكة لإنتاج وتوزيع القيم المادية- خبرة حياتية مادية بالضرورة على مستوى الأفراد والمجتمعات. هنا تأتي جاذبية الشراكة مع إسرائيل، التي وصفها بعض المحللون في الاعلام الغربي بأنها شراكة صنعت في الجنة (Made in Heaven) كإشارة إلى توافق الأدوات والأهداف والرؤى بين الجانبين. فمن جهة، يمثل التطبيع تسييلا للقضية الفلسطينية التي تمثل مركز جذب لهويات كبرى، سواء تلك العروبية أو الإسلامية وما تحمله كل منهما من مشاعر وقيم والتزامات تعمل كعائق أمام مد الشبكات الأمنية والاقتصادية الإقليمية. ومن جهة أخرى، تعد إسرائيل مخزنا لخبرات ومهارات بناء هذه الشبكات، خاصة في بعدها الرقمي كما هو واضح من تميزها في مجالي الأمن السيبراني (Cyber Security) والتكنولوجيا المالية (Fintech). بالنسبة لإسرائيل، تمثل هذه الشراكة فرصة لاختراق ليس المجتمعات الخليجية والعربية فقط بل الخبرات الحياتية لأفرادها والمشاركة في ضبطها والتحكم فيها، ولم لا جني بعض الأرباح في الطريق. ورغم أهمية كل من مجالي الأمن السيبراني والتكنولوجيا المالية في هذه الشراكة، فإن ما تبقى من هذا المقال سيركز على مجال التكنولوجيا المالية ودوره في التطبيع كونه أقل حضورا إعلاميا وأكثر حاجة لتسليط الضوء.

جدير بالإشارة هنا أن الأسبوع الإماراتي-الإسرائيلي للتكنولوجيا المالية الذي عقد في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كأول تواصل علني بين مجتمعات الأعمال في البلدين، بالإضافة إلى عدد من مذكرات التفاهم بين ممثلي عن هذا القطاع في إسرائيل ومركز دبي المالي، وكذلك المراكز المالية في أبو ظبي والبحرين؛ يعكس أولوية التعاون في هذا القطاع لدى كل من الحكومات الخليجية المطبعة والحكومة الإسرائيلية. الأخيرة تتعامل مع هذا القطاع وشركاته كالطفل المدلل بين قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي، مستفيدًا من تمويل مباشر لأنشطة التطوير والبحث من قبل هيئة الابتكار الإسرائيلية (IIA)، بالإضافة إلى محفزات ضريبية أخرى تشمل القطاعات التكنولوجية بشكل عام.

تعد بيئة عمل التكنولوجيا المالية في إسرائيل من الأكثر ثراء عالميًّا، سواء على مستوى جذب الاستثمارات أو تأسيس الشركات، التي بلغت 750 شركة في هذا القطاع. وتعتمد حيوية هذه البيئة على بنية تحتية رقمية متقدمة في إسرائيل، وتقدم الدعم اللازم للتكنولوجيا المالية من خلال قطاعات الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) ومعالجة البيانات كبيرة الحجم (Big Data Analytics).

ببساطة يمكن تعريف التكنولوجيا المالية بأنها استخدام التكنولوجيا لتقديم حلول تمويلية. إلا أن هذه الحلول والخدمات التي تقدمها شركات التكنولوجيا المالية تتعدى ما تقدمه البنوك التقليدية، خاصة خدمات المدفوعات والقروض من خلال توفير منصات للحصول على التمويل من كيانات وأفراد عبر الإنترنت من خلال ما يسمى التمويل الجماعي (Crowd Funding) والتمويل من فرد إلى فرد (Peer to Peer Lending) بالإضافة إلى خدمات أخرى كالاستشارات المالية، والاستثمار في العملات الرقمية، وخدمات التأمين. إلا أن العلاقة بين البنوك التقليدية وشركات التكنولوجيا المالية ليست تنافسية دائمًا، بل تتخللها أنماط من التعاون، خاصة مشاركة البيانات بما يسمح بتوقع سلوك العملاء والعملاء المحتملين.

من المهم وضع هذا التزاوج بين التكنولوجيا الرقمية والخدمات التمويلية في سياقه الاقتصادي والسياسي الدولي، وذلك من خلال اعتبار مفهوم التضمين التمويلي (Financial Inclusion) الذي يعني وصول الخدمات البنكية والتمويلية لطبقات بعيدة عن هذه الخدمات (Unbanked) خاصة في الدول النامية، مبادرة تبناها البنك الدولي، بالإضافة إلى هيئات اقتصادية دولية وإقليمية أخرى.

التحول الأول للهوية الفلسطينية الحديثة لم يكن بسبب وصول المستوطنين الصهاينة بقدر ما كان بسبب العولمة الرأسمالية وتحرير السلطات العثمانية الاقتصاد الفلسطيني بعد حرب القرم والسماح بالاستثمار الخارجي في الإقليم متمثلاً في شراء الأراضي والممتلكات الفلسطينية وما نتج عنه من أنشطة تمويلية وعقارية مربحة

بالطبع هناك من يرى هذه المبادرات بشكل إيجابي في ضوء ما يسمى التمويل صغير الحجم (Micro Finance)، وأفكار محمد يونس الذي حصل على جائزة نوبل من خلالها. إلا أن كثيرا من الباحثين كدانيلا جابور وسالي بروكس في بحثهما: "الثورة الرقمية في التضمين التمويلي: التنمية الدولية في عصر التكنولوجيا المالية" يضعون هذه التطورات في إطارها الصحيح؛ تعميق الثورة الرقمية للثقافة المادية والتمويلية وتعزيز قدرة السلطة على مراقبة وقراءة الذوات الفردية، وقدرة النخب التمويلية على تحويل الأسر الفقيرة إلى مصدر لتوليد الأصول التمويلية.

بمعنى آخر، يمثل التضمين التمويلي دعوة للحياة في شبكة من الرأسمالية التمويلية بسماتها الاستغلالية والمضاربية من خلال إدراجها على أجندة التنمية الدولية، هذه دعوة ينبغي أن تفهم في سياق دينامية "أمولة" (Financialization) الخبرة الحياتية للأفراد كما تقترح الباحثتان. المشكلة ليست في الوقوع في شرك هذه الشبكات التمويلية الرقمية فقط، بل أيضًا أن كل حركة وخطوة ونقرة مقروءة ومحللة من خلال تغذية خوارزميات تستهدف توقع السلوك الاقتصادي وإنتاج جيوغرافيا المناطق المشبوهة وتقييم المخاطر الاقتصادية والأمنية لهذه المناطق، كما يوضح أموري في بحثه "الحرب الخوارزمية: الجيوغرافيا اليومية للحرب على الإرهاب". المشكلة الأكبر أن الطرف المستقبل لكل هذا ليست شركات فنلندية أو أكوادورية، بل إسرائيلية.

ويشير المؤرخ الإسرائيلي آين بابي إلى أن التحول الأول للهوية الفلسطينية الحديثة لم يكن بسبب وصول المستوطنين الصهاينة بقدر ما كان بسبب العولمة الرأسمالية وتحرير السلطات العثمانية الاقتصاد الفلسطيني بعد حرب القرم، والسماح بالاستثمار الخارجي في الإقليم متمثلا في شراء الأراضي والممتلكات الفلسطينية، وما نتج عنه من أنشطة تمويلية وعقارية مربحة. في البداية، كما يحكي بابي: "رفض الفلسطينيون المسلمون المشاركة في هذه الأنشطة الجديدة لأنها تقود إلى أسلوب حياة يضع المال والتمويل في الصدارة". ومع ذلك، يكمل بابي: "بعض من شاركوا في هذه الأنشطة تحولوا إلى نخبة اقتصادية جديدة، مكتشفة أن أسرع طرق الثراء هي المضاربة على الأراضي والعقارات. وصلت الحركة الصهيونية لفلسطين في هذه اللحظة بالتحديد، واستطاعت هذه الحركة تقييم الوضع بشكل سريع واستغلاله لأهداف سياسية". هذه الموجة الحالية من التطبيع أو الشراكة ودور التكنولوجيا المالية فيها ينبغي أن تفهم في هذا السياق كموجة من موجات السيطرة السياسية الإسرائيلية من خلال أدوات اقتصادية.

حتى تكتمل الصورة من المهم الإشارة إلى أن المراكز المالية في كل من الإمارات والبحرين تستحوذ على النصيب الأكبر من أنشطة التكنولوجيا المالية على المستويين الخليجي والعربي طبقاً لتقرير معهد ميلكن (Milken Institute) حول صعود التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط. مع ذلك، لا يستهدف الجانب الإسرائيلي السوق الإماراتي أو البحريني، بل يتعامل معهما كنقاط نفاذ للتضمين التمويلي للمجتمعات العربية تحت مظلة الشركات الإسرائيلية، كما عبر عنه احتفاء مجتمع التكنولوجيا المالية لتل أبيب (Tel Aviv Fintech Community) بالأسبوع الإماراتي-الإسرائيلي للتكنولوجيا المالية على صفحته، وبشر أعضاءه الذين يتعدى عددهم 30 ألفًا بالإمكانات والفرص التي يقدمها هذا التعاون على المستويين الخليجي والعربي.

هذا التفاؤل الإسرائيلي يبدو في محله، فمنذ أيام مررت على نقاش بين مجموعة من الشباب الكويتي على تويتر، أحدهم يعبر عن سخطه بشأن شروط وإجراءات تمويل المشاريع الصغيرة من قبل البنوك التقليدية والهيئات الحكومية في الكويت، في حين اقترح آخر التوجه إلى شركات التكنولوجيا المالية في دبي وأبو ظبي، في الغالب لا يعلم هؤلاء الشباب أن هذه الشركات التي ذكروها بالاسم كانت حاضرة وفاعلة في الأسبوع الإماراتي-الإسرائيلي للتكنولوجيا المالية. على المستوى الشخصي، ما أن بدأت تكثيف البحث حول التكنولوجيا المالية لأهداف بحثية حتى بدأت إعلانات شركات التكنولوجيا المالية الظهور بكثافة على "التايم لاين" الخاص بي في أغلب مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت "أي تورو" (E Toro) -وهي شركة تكنولوجيا مالية إسرائيلية بغطاء قبرصي- الأكثر حضورًا.

يبقى ما يسمى الصندوق الإبراهيمي للتمويل الجائزة الاقتصادية الكبرى للشركات الإسرائيلية ونقطة النفاذ الأهم للمجتمعات العربية حتى تلك المطبعة سلفًا، ولكن لم يحقق التطبيع مع حكوماتها اختراقا حقيقيا لها على المستويين الجماعي والفردي، تلك الكتل الصلبة التي ما زالت تقاوم الاحتلال العقلي والنفسي للتطبيع، تلك الجيوغرافيات المشبوهة كما تراها خوارزميات "الأمننة" (Securitization) و"الأمولة" (Financialization).

ويمثل هذا الصندوق أحد "اختراعات" موجة التطبيع الجديدة، الذي شاركت في تأسيسيه كل من الإمارات والولايات المتحدة وإسرائيل، واختيرت الأخيرة لتكون مقر "مكتب التنمية" للصندوق والمسؤول عن تحديد القطاعات المناسبة للتمويل. ويصف رونين بيريتز المدير العام لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي الصندوق بأنه يقدم قائمة من الأدوات التمويلية التي تستهدف المبادرين وأصحاب المشاريع في الإقليم. ووصفه مسؤول إماراتي بمصدر لتعزيز القدرات الاقتصادية والتكنولوجيا للإقليم". بينما في الحقيقة ما هو إلا أداة ضمن إستراتيجية لبناء شبكات إقليمية للتحكم والسيطرة من خلال "الأمننة والأمولة والرقمنة"، في مقابل خبرات ومشاعر وقيم ما زالت -حتى الآن- تنبض بالحياة. هذا هو توازن التهديدات الحقيقي الذي يفهم في سياقه التطبيع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.