العالم الإسلامي كمفهوم علماني (٢)

نواصل تناول كتاب البروفيسور جميل آيدن "فكرة العالم الإسلامي: تاريخ فكري عالمي"، الذي يطرح فيه أن العالم الإسلامي مفهوم كولونيالي علماني. يجادل آيدن أن العالم الإسلامي لم يُستمد مفاهيميا وتاريخيا من مفهوم الأمة القرآني، وإنما هو مفهوم مفارق له، إذ ثمة انقطاعات بين كلتا الكلمتين؛ فالأمة تشير إلى جماعة من المؤمنين أما العالم الإسلامي فهو وحدة تحليل جيوسياسية.

لم تكن ثمة سرديات مهيمنة ومتجانسة حيال الإسلام في مقابل الغرب في النصف الأول من القرن الـ19، كما يدل على ذلك الدعم البريطاني للحكم العثماني للمسيحيين، لكن تلك السرديات ازدادت قوة مع ثمانينيات القرن الـ19 إلى درجة أنها لم يعد من الممكن تجاهلها

وهو يشير إلى جماعة عالمية تتشارك العادات، والاهتمامات، والخبرة السياسية على نحو مختلف عن الآخر غير المسلم. والعالم الإسلامي بوصفه مفهومًا هو مقابل الغرب المسيحي وفي صراع أبدي معه، وهو مفهوم يقوم على فكرة الإسلام المجرد الجامد المنزوع من سياقاته التاريخية والاجتماعية والثقافية. وهو مفهوم يقتضي وحدة سياسية شاملة ويشهد سيولة في ترتيب كلٍّ من الأولويات الدينية والإستراتيجية عبر الزمن. وهو في النهاية يشير إلى فئة عرقية وحضارية لا إلى جماعة من المؤمنين. وهو مفهوم يعيش دائما عملية مستمرة -من الخلق، والانقطاعات، والطفرات، وإعادة الخلق- تدور حول الخلافة، والأمة، والحراك الأممي الإسلامي. وهو في النهاية ليس أكثر من مجرد وهم لا يزال مستمرا.

فالإسلاميون والغربيون على السواء يتحدثون عن "الغرب" وعن "العالم الإسلامي"، لكن آيدن يعدّ هذه الثنائية نوعا من "القَبَلية ويحاجج بأنها دعاية كولونيالية خطرة. ويبني آيدن حججه عبر سردية تاريخية جينالوجية نقدية عابرة للقرون ليبين حداثة فكرة العالم الإسلامي وكيفية تشكلها وتطورها، والجهود الدائمة لاستغلال هذه الفكرة لأغراض سياسية من قبل القوى الإسلامية والغربية على السواء. وينتهي آيدن إلى أن مفهوم العالم الإسلامي ذاته مفهوم علماني مخترع، وليس ثمة دليل أفضل على ذلك من أن "العالم الإسلامي" حقيقة أُنتجت خطابيا في إطار الفعل ورد الفعل بين حملات التبشير والاستشراق من ناحية وناشطي الحراك الأممي الإسلامي والحداثيين/الإصلاحيين الإسلاميين في 150 سنة الأخيرة. وفي ما يأتي نتناول أفكار وحجج آيدن الرئيسة والمحطات التاريخية التي توقف عندها.

مفهوم الحضارة الإسلامية بوصفه مفهوما محوريا

لم تكن ثمة سرديات مهيمنة ومتجانسة حيال الإسلام في مقابل الغرب في النصف الأول من القرن الـ19، كما يدل على ذلك الدعم البريطاني للحكم العثماني للمسيحيين، لكن تلك السرديات ازدادت قوة مع ثمانينيات القرن الـ19 إلى درجة أنها لم يعد من الممكن تجاهلها. ولم تكن الرؤى الإمبراطورية قد هُزمت بالكلية، وبالتأكيد لم تنهزم الإمبراطوريات ذاتها لكنها كانت في حاجة إلى تقبل الحقيقة الجديدة المتعلقة بالعرق وتطوير أدوات التعامل مع قوته السياسية. ومن بين رماد النظام الإمبريالي العالمي القديم تولد شكل جديد للإمبراطورية ظهر فيه تأثير العرق على نحو صارخ، وكانت حدود هذا الشكل الجديد مرسومة وفق عوامل عدة، وليس فقط وفق السمات المادية لأجساد البشر، بل دخل كذلك الدين وتصورات البشر عن التاريخ المشترك والولاء السياسي.  وقد تبنّى الرعايا المسلمون هذه الهوية العرقية لأغراض سياسية متعددة خاصة بهم، وأذاع المفكرون المسلمون في تلك الحقبة أفكار الحراك الأممي الإسلامي وتطلعوا أكثر فأكثر إلى السلطان العثماني على أنه خليفة وقائد لجماعة مسلمة عالمية.

وتحدّى الحراك الأممي الإسلامي، بسعيه إلى الوحدة والحداثة الإسلامية، السردية الأوروبية المسيحية عن دونيّة المسلمين، لكنه لم يسعَ إلا قليلا إلى كبح جماح التمييز العرقي ذاته وهزيمته. وفي تلك الحقبة لمعت أسماء مثل إسماعيل جاسبرالي ورشيد رضا، لكن مؤتمراتهم العامة لم تتناول القومية ومناهضة الإمبريالية، بل ركزت على أسباب الانحطاط الإسلامي في الحياة الاقتصادية، والتعليمية، والاجتماعية، وبحث إستراتيجيات الإحياء الإسلامي. وكان بوسع ناشطي الحراك الأممي الإسلامي في بداية القرن الـ20 الاحتفاء بالخليفة من دون نبذ الحكم البريطاني، ومن ثم عدم استثارة الإمبراطوريات الأوروبية. فقد كان الخليفة راغبا في جعل سيادته الروحية أساسا لنظام عالمي إمبراطوري مستقر وليس صراعا للحضارات.

وفسر ناشطو الحراك الأممي الإسلامي التاريخ الإسلامي المعاصر باعتباره نتيجة للإذلال الغربي، واستخدموا إشارات عاطفية إلى الانحطاط الإسلامي والإذلال الغربي للعالم الإسلامي والمسلمين. وكثيرا ما مزجوا سردية الانحطاط بالنوستالجيا، كما في حالة محمد إقبال؛ فقد تحدثت كتابات إقبال كثيرا عن الأمة، لكن من الواضح أن هذا المصطلح قد استخدمه إقبال كمرادف للحضارة الإسلامية كمصطلح جيوسياسي حديث. كان في الخطاب الأممي الإسلامي وعي تاريخي جديد يكون العالم الإسلامي بمقتضاه في صراع أبدي مع الغرب المسيحي ويتم تفسير الشؤون الدولية باعتبارها صراعا بين العالمين. وكان هذا الوعي مخطئا جدا لكنه كان في جزء منه ردًّا على السرديات التاريخية الأوروبية التي ركزت على المواجهات العسكرية مع المسلمين باعتبارها مؤسسة للهوية الأوروبية. وفي هذا السياق، فإن التاريخ العالمي كان يُفهم بشكل أساسي من منظور الصراع الحضاري، ومن هذا المنظور كانت الحملات الصليبية، وصلاح الدين الأيوبي، وطرد المسلمين من الأندلس محطات أساسية في سرديات صراع الحضارات. والجدير بالذكر أن كل نظريات صراع الحضارات نبعت من الجماعات ووسائل الإعلام الأوروبية والأميركية، وكذلك فإن الكتابات الإسلامية عن الصراع الحضاري أنتجها المفكرون المسلمون الذي تعلموا في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية.

وقد أتاحت مذابح البوسنة، والصراعات في فلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، وإيران، وأفغانستان جميعا فرصة أخرى للتعميمات الكسولة حيال صراع الحضارات الأبدي، وألهم هذا السياق صمويل هنتنغتون فكتب مقالته المؤثرة صدام الحضارات، التي تنبأ فيها بأن العالم الإسلامي سيكون العدو الجديد للعالم الغربي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي هذا السياق تركز الاهتمام على صعود الأحزاب والحركات الإسلامية، خاصة الراديكالية منها. وفي المقابل، زاد ذلك زخم الإسلاموفوبيا الغربية. وكانت فترة ما بين الحربين قد شهدت فرصة قصيرة العمر لإعادة صياغة السياسة الدولية للمجتمعات الإسلامية، فبدلا من قصة صراع الحضارات، كان من الممكن للسردية أن تتحول بشكل دائم إلى العدالة في داخل النظام العالمي.

 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان