الربيع العربي.. الذهاب إلى العالمية

ميدان - وعود النيوليبرالية وما بعد الحداثة
(مواقع التواصل الاجتماعي)

"عولمة الشرق الأوسط في القرن الـ21″، في هذا الكتاب الذي صدر هذه الأيام ويبلغ 561 صفحة؛ يناقش آصف بيات -عالم الاجتماع الشهير- مع كوكبة من أبرز الخبراء في دراسات المنطقة الترابط العالمي مع المنطقة منظورا إليه من جانب الشرق الأوسط. يوضح المجلد في فصوله الـ24 كيف نشأت التكوينات الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية والفنية في المنطقة من مجموعة معقدة من التدفقات والابتكارات والتأثيرات والتفاعلات والتبادلات، ويغطي موضوعات تراوح من (الله) إلى جلال الدين الرومي، والطعام، والأفلام، والأزياء، والموسيقى، والرياضة، والعلوم، إلى تدفق الأشخاص والسلع والأفكار، ويناقش الحركات الاجتماعية والسياسية؛ من حقوق الإنسان والسلفية والعالمية إلى التطرف والثورات.

ميزة الكتاب أنه متعدد التخصصات في تصميمه، إذ يتضمن وجهات نظر من التاريخ، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والدراسات الدينية، والأدب، ودراسات الأفلام، والفلسفة.

سؤال "نحن والغرب" اختزل العالم، في إدراكنا، إلى الغرب فقط، فالعرب يعرفون عن أوروبا أكثر مما يعرفونه عن إيران أو الهند أو أفريقيا أو تركيا.

أهمية الكتاب -من وجهة نظري- أنه يعيد صياغة قضية "نحن والغرب"؛ إحدى الثنائيات التي هيمنت على تفكيرنا على مدار القرن الـ20، في أن "العالمية كانت جزءًا من وعي الناس، وقد تأثرت المنطقة بشكل كبير بقوى عالمية مختلفة. كما أثرت بشكل عميق في التطورات في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك ما يسمى عمومًا (بالغرب)".

إلا إن الغرب كما الشرق الأوسط، في وعي المؤلفين، اختراع أيديولوجي وليس تسمية جغرافية. هذه المصطلحات لها تأثير عميق وعنيف؛ فهي تشوه الاستمرارية التاريخية والتعقيدات المتنوعة للعوالم المتجانسة لإثبات وهم "الغرب" في مقابل الشرق، وكما يرى حميد الدباشي في فصله المعنون بـ"أمم بلا حدود" فإن تصنيع الجغرافيا الخيالية لـ"الشرق والغرب" ليس من صنع المستعمرين وأيديولوجياتهم الاستشراقية بالكامل؛ فالعرب والإيرانيون والهنود والأتراك وغيرهم مسؤولون بشكل متساوٍ إن لم يكن أكثر عن توثيق مثل هذه التخيلات المزيفة. لأنهم قد تخلوا بسهولة عن التعقيدات الدائمة والقرب من مناطقهم الجغرافية إلى التضاريس المهيمنة لغزوات الغرب الاستعمارية.

سؤال "نحن والغرب" اختزل العالم، في إدراكنا، إلى الغرب فقط، فالعرب يعرفون عن أوروبا أكثر مما يعرفونه عن إيران أو الهند أو أفريقيا أو تركيا، كما يعرف الإيرانيون والهنود والأتراك المزيد عن أوروبا أكثر مما يهتمون بمعرفته عن جيرانهم والمناطق الجغرافية البديلة التي شكلوها تاريخيًا.

يلتقط الكتاب لحظة الانتفاضات العربية 2020-2011 باعتبارها لحظة "لم يسبق للعالم العربي في تاريخه الحديث أن تمتع بمثل هذا التعريف العالمي"، فقد ربطت روح التحرير الحركات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم لتتحد في مطالباتها المشتركة ضد عواقب الاقتصاد النيوليبرالي، وتزايد عدم المساواة، وعدم استجابة السياسات الحزبية.

وفي فصل بيات المعنون بـ"عولمة التحرير" يستعرض بالتفصيل كيف ألهم رمز التحرير خيال ملايين الأشخاص حول العالم الذين قادوا وشاركوا في حركات مماثلة من أجل العدالة الاجتماعية. فقد أصبح ميدان التحرير شعارًا عالميًا أو على حد تعبيره "ميما عالميا"؛ فالميدان سافر كنموذج لحركات الاحتلال العالمية التي ظهرت في 80 دولة و500 مدينة حول العالم، بما في ذلك نيويورك ومدريد وأثينا وتل أبيب. ويضيف أن لحظة التحرير عملت ضد التيار؛ لقد حركت ملايين الناشطين في شوارع "المركز" لتشكيل ساحات التحرير الخاصة بهم، من أجل مقاومة التفاوت المذهل في الثروة (كما ورد في شعار "نحن 99%")، والحياة المحفوفة بالمخاطر، والسياسات الحكومية التي باتت خاضعة لجشع الشركات.

والأهم الذي يشير إليه الكتاب أن لحظة الانتفاضات العربية تحدت نمط "الاستثنائية" التي لطالما وصمت بها المنطقة؛ إذ تصور هذه الاستثناءات الشعوب والمجتمعات على أنها قادرة على الصمود في وجه التغيير، وهي واقعة في شرك تاريخها وثقافتها ودينها، وعرضة للقبلية والمهاجرين. ووفق هذه النظرة، تتغير الثقافة والدين نادرًا، وتُعزى غالبًا النزاعات المعاصرة إلى الخصومات الدينية والطائفية العتيدة التي تعود إلى قرون، إن لم يكن إلى آلاف السنين.

هذا اللجوء إلى القوالب النمطية لفهم المنطقة مع تهميش التطورات الحاسمة في الجغرافيا السياسية، والأسواق، والتكنولوجيا، والسياسات الاجتماعية، وتغير المناخ، والحركات الشعبية، وديناميكيات أخرى متجذرة جزئيًا في ما أطلق عليه إدوارد سعيد اسم "الاستشراق"؛ يشير هذا إلى منهجية لإنتاج المعرفة التي تبني صورة شاملة للشرق الأوسط بوصفه موضوعًا للتحيز، فهي ترى أن السكان ذوي الأغلبية المسلمة ساكنون، في حين تتجاهل التمايز والتغيير الناجم عن التبادلات بين المجتمعات والشعوب المختلفة في المنطقة.
يصوّر النهج الاستشراقي الجديد المنطقة على أنها متجانسة إلى حد كبير، ومنغلقة، وضيقة الأفق، ومقاومة للتغيير. يصوّر الشرق الأوسط بهذه الطريقة أنه ليس له قيمة تذكر للعالم وهو مسؤول عن مشكلاته الخاصة.

من وجهة نظري، فإن الانتفاضات العربية طرحت 3 ظواهر متكاملة تعيد تعريف علاقتنا بالعالم: المطالب الإنسانية العامة، والأدوات والأشكال المعولمة التي اتخذتها، فضلًا عن النازحين أو حركات الهجرة الخارجية التي ترتبت عليها.
يلتقط بيات في فصله هذه العناصر فيقول "ربطت روح التحرير الحركات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم لتتحد في مطالباتها المشتركة ضد عواقب الاقتصاد النيوليبرالي، وتزايد عدم المساواة، وعدم استجابة السياسات الحزبية. تشترك الانتفاضات العربية وحركات الاحتلال العالمية في سمات مشتركة كبيرة؛ كانت حركات شبابية قائمة على الإجماع وأفقية سخرت من الهرمية والسياسات المؤسسية، وعملت في المناطق الحضرية المحررة لتجربة نظام اجتماعي بديل".

ويضيف "مثّل التحرير -إذن- مزيجًا استثنائيًا من الفضاء السياسي (المربع المتحرر) والممارسة السياسية (حركة غير مؤسسية، وجماعية، وأفقية) وجدها كثيرون حول العالم جذابة لمعالجة مآزقهم، كنموذج حفز ملايين الناشطين في شوارع (المركز) لتبادل الأفكار مع الناشطين المصريين وإنشاء ساحات التحرير الخاصة بهم لمقاومة التفاوت المذهل في الثروة والحياة غير المستقرة والسياسات الحكومية التي أصبحت خاضعة للشركات ومصالح النخبة".

كانت هذه الصورة (هذا النموذج الجديد لـ"المستقبل في الحاضر") هي التي تكمن وراء جاذبيتها العالمية في عالم محبط من الوهم إذ ماتت فكرة الثورة القديمة وفشلت الديمقراطية الليبرالية التي استعبدتها مصالح الشركات في التصدي لها. كذلك مخاوف الناس من البطالة وعدم المساواة مستوحاة من الربيع العربي، فقد استوحى المواطنون الساخطون في جميع أنحاء العالم، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، من لحظة التحرير إلى بناء حركات احتلال حتى الساحات المحررة.

والملمح الثالث لعالمية الانتفاضات هو أن ملايين العراقيين والسوريين واليمنيين يفرّون من ويلات الحرب. وتسعى هذه الشعوب في جميع أنحاء العالم إلى إعادة بناء "الوطن" عن طريق لغتها وشبكاتها وطعامها وموسيقاها وذاكرتها، وباتت الدياسبورا العربية في كل مكان تعيد صياغة علاقتها بالذات والعالم من حولها بما سيكون له تداعيات مهمة على أوطانها الأصلية أو الوطن الجديد الذي أضحت تعيش فيه.

إن المهمة الحالية هي استعادة العوالم المتعددة التي فرضتها الجغرافيا الاستعمارية لـ"الغرب والباقي" على ذاكرتنا العالمية، وإذا كانت القوى والعمليات العالمية -مثل الاستعمار أو أسواق النفط أو مبيعات الأسلحة- قد أثّرت بعمق في سياسات واقتصادات البلدان في الشرق الأوسط، فإن الأفكار والمنتجات الثقافية من المنطقة قد شكلت بالتساوي المشهد الاجتماعي والثقافي خارج المنطقة .

وبذلك؛ كما يرى الدباشي، فإن المجال العام العابر للحدود يولد ويدعم أنماطًا من الحكم (عن طريق التضامن النشط) لم تعد تقتصر على أي دولة قومية معينة، أو جهاز دولة، أو جهات فاعلة غير حكومية. هذا المجال لا تملك فيه دولة أي سلطة دائمة، بتعريض الدولة رعاياها المباشرين للخطر دستوريًا، وبات عالمنا مكانًا متكاملًا مترابطا يجعل تداول المعرفة حقيقة لا تتجزأ من الاتصال عبر الوطني. ورغم الاختلافات الثقافية، فإن المجتمعات المتنوعة في العالم -سواء في الولايات المتحدة أو الشرق الأوسط أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية- تشترك في بعض القيم والمؤسسات الأساسية، والثقافات في تبادل مستمر؛ يقرضون ويقترضون ويتبنّون ويوطّنون، ويمكن بذلك للأفكار الجيدة أن تجد طريقها للخروج من العالم رغم التفاوتات الهائلة في علاقات القوة العالمية وتدفق المعرفة.

ومن الواضح أن الربيع العربي ولحظة التحرير غيَّرا ، لوقت قصير على الأقل، الصورة الغربية للمجتمعات العربية باعتبارها معقلًا للتعصب الديني والإرهاب، وقدّماها، بدلًا من ذلك، رمزًا للانتفاضات السلمية والديمقراطية والخيالية من أجل العدالة والحرية.

الخلاصة التي تخرج بها بعد قراءتك الكتاب هي ضرورة تفكيك ثنائية المركز والأطراف والتغلب عليها؛ نحن والغرب، الإسلام والحداثة، الإسلام والعلمانية…. إلخ، ثنائيات القرن الـ20، ومن ثمّ فتح آفاقنا لعوالم بديلة ممكّنة من قبل ذلك المجال العام العابر للحدود.
إن المهمة الحالية هي استعادة العوالم المتعددة التي فرضتها الجغرافيا الاستعمارية لـ"الغرب والباقي" على ذاكرتنا العالمية، وإذا كانت القوى والعمليات العالمية -مثل الاستعمار أو أسواق النفط أو مبيعات الأسلحة- قد أثّرت بعمق في سياسات واقتصادات البلدان في الشرق الأوسط، فإن الأفكار والمنتجات الثقافية من المنطقة قد شكلت بالتساوي المشهد الاجتماعي والثقافي خارج المنطقة .

وأدّى الانتشار العالمي الملحوظ لأنظمة المعتقدات والتقنيات والموسيقى والأطعمة التي نشأت في الشرق الأوسط -واستعرضها الكتاب بالتفصيل- إلى تغيير جذري في مسار التاريخ البشري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.