التقارب التركي-المصري والمعارضة المصرية
قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن بلاده بدأت علاقات دبلوماسية بمستوى ما مع مصر بعد سنوات من القطيعة، وقد سبق ذلك تصريحات من عدد من المسؤولين، تؤكد رغبة أنقرة في فتح صفحة جديدة في العلاقات معها.
ومع أن التصريحات التركية الأولى لم تلق ردًّا مصريًا رسميًا، وأن القاهرة نفت بشكل غير رسمي التصريح الأخير لوزير الخارجية، فإن الوقائع تقول إننا إزاء مرحلة جديدة مختلفة في العلاقات بين القوتين الإقليميتين.
لماذا الآن؟
تدهورت العلاقات بشكل درامي بين أنقرة والقاهرة بعد انقلاب 2013 في مصر، إثر موقف تركيا الحادّ من النظام المتشكل بعده، وهو موقف كان مدفوعًا بسردية "نموذج الديمقراطية التركية" ودعمها في المنطقة وحساسيتها الشديدة من الانقلابات العسكرية تاريخيًا وراهنًا، إذ تزامن ذلك مع مظاهرات واسعة فيها بسبب متنزّه "غزي بارك"، تحولت إلى احتجاجات واسعة وأعمال تخريب.
أما اليوم، وبعد 8 سنوات على القطيعة الدبلوماسية وحالة الاستقطاب الشديدة بين البلدين، فيبدو أن المرحلة الجديدة في العلاقات مدفوعة بمصالح جوهرية للطرفين ومتغيرات دولية وإقليمية ومحلية وكذلك تراجع معيقات العلاقة.
فعلى المستوى المحلي، تخطى النظام المصري منذ سنوات عقدة المشروعية في الخارج وتحديات المعارضة في الداخل، كما تجاوزت تركيا هواجس الانقلابات ودفعتها الأوضاع الاقتصادية إلى تخفيف احتقانات السياسة الخارجية.
وإقليميًا، انتظمت أنقرة عام 2020 في مناطق وجبهات عدة، محققة اختراقات مهمة، وتسعى إلى قطف ثمار ذلك سياسيًا العام الحالي، كما أنها تواجه محورًا إقليميًا مكونًا من اليونان والكيان الصهيوني وبعض الدول العربية ومدعومًا من فرنسا، متعارضًا معها في مختلف قضايا المنطقة وخصوصًا شرق المتوسط، ولذلك تحاول في الآونة الأخيرة خلخلته و/أو إضعافه.
تراجعت حدّة التراشقات بين الجانبين في السنوات الأخيرة، قبل أن تحدث لقاءات عدة بينهما على مستويات متعددة، خصوصًا المخابرات والخارجية، التي قال جاويش أوغلو إن أحدها نتج عنه اتفاق مع نظيره المصري على ضرورة وضع خريطة طريق لتحسين العلاقات بينهما.
في المقابل، يتراجع دور مصر الإقليمي والعربي نتيجة لعدد من التطورات في المنطقة، في مقدمتها أزمة سد النهضة والمصالحة الخليجية ومسار التطبيع العربي مع دولة الاحتلال بما في ذلك خط إيلات-عسقلان المنافس لقناة السويس. كما أن مستجدات الملف الليبي حملت نجاحًا تركيًّا أدّى إلى تغير تعامل القاهرة مع الملف عمومًا ومع حكومة الوفاق الوطني على وجه الخصوص.
أما دوليًا، فدفع انتخاب بايدن وبعض سياساته المتوقعة في المنطقة بعض الدول، وفي مقدمتها مصر وتركيا اللتان جمعتهما الرغبة الضمنية في استمرار ترامب في البيت الأبيض، إلى إعادة النظر في بعض السياسات والملفات والعلاقات البينية.
وفصلًا عن هذه التطورات في دوائرها الثلاث، تجمع بين البلدين مصالح حيوية حقيقية، أهمها الملف الليبي وملف شرق المتوسط. في الأول أثبتت التطورات أن البلدين يمكنهما الحوار والتفاهم إذ لا تتعارض مصالحهما كثيرًا. كما أن توافق البلدين على الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما يصبّ في مصلحتهما في مواجهة الرؤية اليونانية التي تضرّ بكليهما. أكثر من ذلك وأسبق عليه، فقد صبَّ الاتفاق التركي-الليبي في مصلحة القاهرة، كما دعّم الاتفاق المصري-اليوناني سردية أنقرة في مواجهة أثينا.
إذابة جليد أم مصالحة؟
نتيجة لكل ما سبق، فقد تراجعت حدّة التراشقات بين الجانبين في السنوات الأخيرة، قبل أن تحدث لقاءات عدة بينهما على مستويات متعددة، خصوصًا المخابرات والخارجية، التي قال جاويش أوغلو إن أحدها نتج عنه اتفاق مع نظيره المصري على ضرورة وضع خريطة طريق لتحسين العلاقات بينهما.
أكثر من ذلك، فقد تعاون البلدان بشكل واضح، وإن لم يكن معلنًا ورسميًا، في الملف الليبي أخيرًا بما في ذلك مرحلة انتخابات المجلس الرئاسي. ولذلك فليس من باب المبالغة القول إن البلدين قد دخلا فعلًا في مرحلة تهدئة منذ مدة، وليس اليوم، وإن هذه التهدئة بنَت أرضية أمكنت اليوم من نقاش الاحتمالات المستقبلية.
اليوم، وبين يدي التصريحات التركية والصمت المصري، ينبغي التمييز بين 3 مستويات من العلاقات:
الأول هو التواصل والحوار وفتح القنوات الدبلوماسية بين الجانبين، وهو مسار قائم وأُنجز فيه الكثير. الصمت المصري يبدو مفهومًا هنا، من جهة لأهداف التسويق الداخلي وإظهار أن تركيا مأزومة ومتلهفة أكثر للعلاقة، ومن جهة ثانية كورقة تفاوضية، وثالثًا بانتظار تعبير أصرح بخصوص النظام المصري بحيث يمكن تسويقه على أنه اعتراف رسمي به، مع أن الحوارات والتصريحات بـ"الرغبة في فتح صفحة جديدة" تحمل هذا المعنى ضمنًا.
الثاني هو توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وهو أمر يبقى احتمالًا قائمًا في المدى المنظور. فالمصلحة المشتركة للبلدين واضحة المعالم فيه، إذ إن السردية اليونانية تضرّ بكليهما، في حين أن اتفاقهما كأكبر دولتين على ساحل شرق المتوسط سيعطيهما مساحات أوسع ونفوذًا جيوسياسيًا أكبر.
لكن من معيقات توقيع الاتفاق حرص مصر على التنسيق مع اليونان، ومراعاة اصطفافاتها وعلاقاتها الإقليمية، ولا سيما أن بعضها لن يرغب في تقاربها مع أنقرة، وكذلك حمل السنوات الثماني الماضية التي صبغت بالاستقطاب الحاد بينهما. ومن ثمّ، فإن التوقيع مرهون بقرار القاهرة تغليب المصلحة على المناكفة والاصطفافات، خاصة أن تركيا كررت مرارًا رغبتها في ذلك، فضلًا عن تصريحاتها الإيجابية المتواترة أخيرًا.
وأما المستوى الثالث فهو حدوث مصالحة كاملة بين البلدين تنقلهما من مربع الصدام إلى مساحة التفاهمات والتعاون وربما أكثر من ذلك. ولا نحتاج إلى جهد كبير للتدليل على أن هذه الخطوة ما زالت بعيدة ومستبعدة ودونها عقبات كثيرة وكبيرة، ليست أقلها حالة التنافس التي تصبغ علاقات البلدين منذ عقود والمشكلة الشخصية بين قيادتي البلدين.
المعارضة
ولعل أحد أهم الأسئلة المرتبطة بمسار التقارب المفترض -حتى اللحظة- بين تركيا ومصر هو انعكاساته على المعارضة المصرية المقيمة في تركيا، إذ يُتصور تلقائيًا أن يكون ذلك أحد اشتراطات القاهرة على أنقرة، وهو ما تروّجه أطراف مصرية.
بيد أن نظرة معمّقة على الخلاف التركي-المصري تقول إن المعارضة المصرية لم تكن السبب المباشر للخلاف -ولا حتى أهم أسبابه- ولا يفترض أن تكون أهم متطلبات التقارب.
فالخلاف بدأ مع عدم اعتراف تركيا بانقلاب 2013 قبل أن يكون للمعارضة المصرية وجود أو حضور فيها، ثم تعمّق لاحقًا مع حالة الاستقطاب في المنطقة. هذا الموقف لا علاقة مباشرة له بدعم تركي مفترض للمعارضة أو للإخوان المسلمين، وإنما لاعتبارات مبدئية وداخلية كما سلف ذكره، كما كانت علاقاتها الأسبق مبنية على شرعية الرئيس محمد مرسي وانتخابه ديمقراطيًا وليس لأنه من الإخوان.
ثانيًا، تبدو المعارضة المصرية اليوم ضعيفة ومشرذمة وبعيدة عن إمكانية التأثير في المشهد المصري الداخلي، وباتت أقرب إلى حالة إعلامية منها إلى معارضة سياسية فاعلة، ومن ثمّ فهي ليست اليوم هاجسًا أمنيًا أو سياسيًا للنظام المصري. ولذلك، يغلب على ظني أنها لم تناقـَش أصلًا في اللقاءات المصرية-التركية ولم تكن مطلبًا مباشرًا للقاهرة.
ثالثًا، موضوع استضافة المعارضة ليس فعلًا تركيًّا من طرف واحد، فمصر أيضًا فتحت أراضيها وإمكاناتها لجماعة غولن المصنفة على قوائم الإرهاب التركية والمتهمة بتنفيذ الانقلاب الدموي الفاشل عام 2016.
رابعًا، ثمة مصالح حيوية بين البلدين أرجح كثيرًا في كفة العلاقات من نقاش موضوع المعارضة المصرية كاشتراط لبدء الحوار أو لإبرام تفاهمات ما. فملفات مثل ترسيم الحدود البحرية أو الملف الليبي أو حتى التجارة البينية والاتفاقات الاقتصادية المفيدة للجانبين أهم بكثير للقاهرة وليس فقط لأنقرة من ملف المعارضة.
خامسًا، إن المتوقع للعلاقات المصرية-التركية أن تنتقل بعد التهدئة الحالية إلى خطوات بناء الثقة وربما التوصل إلى اتفاق بحري، أي تفاهمات على أساس التنافس والخلاف وليس التعاون والتحالف. وعليه، فليس هناك ما يغري أنقرة أو يدفعها إلى التخلي تمامًا عن المعارضة المصرية إرضاء للقاهرة.
سادسًا وأخيرًا، لا يعني كل ما سبق أن المعارضة المصرية في تركيا بعيدة عن التأثر بأي تقارب بين البلدين، وإنما الحديث هنا عن عدم محوريتها في أسباب الخلاف وسياق التقارب، وبقائها ضمن إطار التوابع والارتدادات.
وعليه، فإن فكرة التعاون الأمني مع النظام المصري وتسليمه من يطالب بهم من رموز المعارضة ليس أمرًا محتملًا ولا حتى افتراضًا قائمًا بجدية، كما تروّج بعض الأطراف، لكن ذلك لا يمنع أن منابرها الإعلامية التي تعمل على الأراضي التركية قد يطرأ عليها بعض التغييرات.
بعض هذه التغيرات ستكون قرارًا ذاتيًّا من باب التحسّب والتكيّف مع التطورات، وبعضها الآخر قد يكون خطوات تركية تؤطّر وجودها وعملها تحت شعار التنظيم أو تسهم في إعادة صياغة سُقُفها وسياساتها التحريرية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.