الحكاء (15) | فوكوشيما 50

صورة من عالم الجزيرة - فوكوشيما.. ماذا بعد
(الجزيرة)

(1)

أن تبلغ الـ70 من العمر لا يعني أنَّ حياتك قد توقَّفت، وأنَّ نشاطك الذهني قد تجمَّد، وأنَّك مُعْفًى من أداء واجبك الوطني في وقت تمر فيه بلادك بزمن عصيب، وإذا كنت تشك في كلامي فاسأل "ياستيل يامادا"، ذاك الياباني المتقاعد.. وإليك الحكاية من البداية.

(2)

في الـ11 من الشهر الثالث من عام 2011، يضرب زلزال بقوة 9 ريختر اليابان، لا بأس فالخطر بعيد عن "مفاعلات دايشي" في "فوكوشيما"، وقد توقفت بالفعل المفاعلات عن العمل كما هو مقرَّر في تصميمها الأمني، لتفادي أي أضرار ناجمة عند وقوع زلزال.

إنها بداية سلسلة قاتمة من الأحداث التي أدَّت في النهاية إلى أسوأ كارثة نووية منذ حادث تشرنوبيل.

ينقطع التيار الكهربائي الذي يغذي محطة ضخّ مياه التبريد، تبدأ مضخات الديزل الاحتياطية بالعمل، يطمئن المسؤولون أنَّ الأمور تحت السيطرة.

تمضي ساعة بعد وقوع الزلزال، وفي مشهد جدير بأحد أفلام نهاية العالم على الطراز الأميركي تضرب موجات تسونامي سواحل اليابان بكلّ قوة، موجات يبلغ ارتفاعها أحيانا 15 مترًا، تكتسح المياه مضخات الديزل الاحتياطية، تجرف خزانات الوقود التي تغذيها.

تنهار أنظمة التبريد، يستمر الوقود النووي الساخن في إنتاج كميات هائلة من الطاقة الحرارية في بعض المفاعلات، يزيد الضغط داخل الأوعية الواقية للمفاعلات بدرجة خطرة.

إنها بداية سلسلة قاتمة من الأحداث التي أدَّت في النهاية إلى أسوأ كارثة نووية منذ حادث تشرنوبيل.

(3)

ينغمس 800 عامل فني في محاولة إعادة الاستقرار إلى المفاعلات، ربما غير مدركين أن أضرار تسونامي ستكون أخطر مما يعتقدون، ففي اليوم التالي، ونتيجة اختلاط كميات كبيرة من الهيدروجين الساخن بالهواء؛ ينفجر الغلاف الخارجي لأحد المفاعلات، ويُصاب 5 عمَّال في انفجار الوحدة الأولى.

ثم يصاب 11 عاملًا آخرون في انفجار الوحدة الثالثة يوم 14 مارس/آذار، أما الانفجار التالي الذي وقع في الوحدة الرابعة صباح اليوم التالي فلم يتسبب في وقوع إصابات، لكنه أدى إلى تناثر حطام خرساني مشعٍّ حول المباني، مما جعل ظروف العمل في الموقع أكثر صعوبة.

تزداد المخاطر، تقرر شركة كهرباء طوكيو (تيبكو) التي تدير المفاعلات سحب نحو 750 عاملًا من غير الأساسيين، ويستمر في موقع الحادث 50 عاملًا فقط.

وفي ذلك اليوم ولد مصطلح "فوكوشيما 50" للإشارة إلى العمَّال الـ50 الذين استمروا في محاولات إعادة الاستقرار إلى المفاعل في ظل ظروف مُروِّعة.

يصف المدير العام لوكالة الطاقة الذرية الحالة في تقريره عن الحادث فيما بعد، فيقول "شاهدت بنفسي التأثير القوي والمدمر الذي خلفه التسونامي، ولقد كانت هذه التجربة بالنسبة لي صادمة ومؤلمة، ولكنني تأثرت أيما تأثر بما أبداه أولئك العمال والمديرون من شجاعة وتفانٍ، إذ إنهم لم يبرحوا مواقعهم بعد أن ضرب التسونامي، وكافحوا في ظل ظروف مروِّعة من أجل استعادة السيطرة على المفاعلات المتضررة، لقد كان عليهم استنباط وسائل تصدٍّ مرتجلة في ظل ظروف لم يتلقَّوا تدريبًا بشأنها، تنقصهم في أغلب الأحيان المعدّات المناسبة، وهم جديرون باحترامنا وإعجابنا".

(4)

تصف وسائل الإعلام وقتئذ كيف تبادل هؤلاء العمال النوم في مناوبات على أرضيَّة مبنى لا يتجاوز حجمه مساحة غرفة معيشة متوسطة، وكانوا يتناولون وجبتين فقط في النهار من المعلبات.

يبدو الأمر كأنه ملحمة وطنية، يجتمع مئات من العمال المتطوعين من أنحاء اليابان ورجال الإطفاء وموظفي شركة "تيبكو" على بعد 20 كيلومترًا من الموقع، يتناقشون ويدرسون أفضل السبل لتحقيق الاستقرار في المفاعلات، ويعلنون أنهم رهن إشارة مجموعة "فوكوشيما 50".

أما رجال الدفاع المدني من الطيَّارين الذين تحلق مروحيَّاتهم ويستخدمون مدافع المياه لتبريد قضبان الوقود في المحطة، فلم يسمح لهم بالاستمرار في مهمتهم لأكثر من 40 دقيقة في المرة الواحدة، في محاولة لتقييد تعرضهم للإشعاع.

وبحلول يوم 18 مارس يرتفع عدد الإصابات بين العمَّال إلى 20 إصابة، لكن هذا لم يمنع استمرار المتطوِّعين في التدفُّق رغم أنباء الإصابات وخطورة الوضع، فينضم موظفو محطة "كاشيوازاكي-كاريوا" للطاقة النووية ومن بعدهم العاملون في تركيب خط الطاقة الجديد إلى محاولات تحقيق الاستقرار في المفاعلات، كما تبعث شركة توشيبا فريقًا من 100 رجل، وترسل شركة هيتاشي 120 رجلًا إلى الموقع.

وعلى الرغم من تزايد عدد العمال آنذاك، ظلت وسائل الإعلام تستخدم تعبير "فوكوشيما 50" للإشارة إلى مجموعة العمال الذين تطوَّعوا بتفانٍ وإيثار نادر لاحتواء كارثة نووية مروِّعة وصلت آثارها حتى سواحل الولايات المتَّحدة الأميركية.

(5)

في ذلك الوقت يجلس المهندس المتقاعد "ياستيل يامادا" في منزله يتابع ما يبثّه التلفاز من مشاهد المتطوعين الشباب وهم يكافحون للسيطرة على الأضرار التي سببها التسرب الإشعاعي.

تنهشه الغَيْرة، يرغب في أن يقفز من مكان المشاهد إلى مكان الفاعل، تراوده فكرة: لماذا لا يقوم باستقطاب المهندسين المتقاعدين الأكبر سنًّا مثله لمحاولة السيطرة على المفاعل؟

بدت الفكرة له منطقية، فهؤلاء المتقاعدون يمتلكون الخبرة اللازمة لهذه المهمة، كما أن أعمارهم المتقدمة تجعلهم أقل عرضة لمخاطر السرطان والأمراض الأخرى التي تتطور ببطء وتحتاج إلى زمن للتأثير لدى التعرض للإشعاع، يقول لنفسه "في كل الأحوال لقد استفدت وأبناء جيلي من الكهرباء التي وفرتها المفاعلات النووية، وحان الوقت لرد الجميل".

يبدأ "يامادا" وبمعاونة صديق طفولته "نوبوهيرو شيوتاني"، وهو مهندس متقاعد كذلك، بإرسال الخطابات ورسائل البريد الإلكتروني والكتابة على المدوّنات لدعوة الناس الذين تجاوزوا الـ60 من العمر للتطوع لهذه المهمة.

وفي غضون أيام يجمع الرجلان ما يقارب 60 ألف دولار و400 متطوع، منهم عمَّال سابقون في محطة توليد الكهرباء، وخبراء في تصميم المصانع، ومغنٍّ، وطاهيان.

وسائل الإعلام تعدّها مهمة انتحارية وعملًا بطوليًّا، و"يامادا" يرد "إنها مسألة حسابات منطقية لا أكثر، أنا أبلغ من العمر 73 عامًا، لن أعيش 30 عامًا أخرى، ومن المرجَّح أن أموت لأسباب أخرى".

تحتفي وسائل الإعلام بالمبادرة، وتشبههم الصحف الغربية بالكاميكازي، هؤلاء الذين يفضلون الموت على الاستسلام، لكن ثَمَّة مفاجأة لم تكن في الحسبان.

(6)

يقدم "يامادا" خطته إلى الحكومة اليابانية، يأتي رد فعل رئيس الوزراء مباغتًا "إن العمل في "فوكوشيما" مهمة جادة ولا تتطلب فرقة انتحارية"، ويرفض المبادرة.

تحت الضغوط الإعلامية، تضطر الحكومة إلى الإعراب عن تقديرها لمبادرة فريق "يامادا"، وتطلب من شركة كهرباء طوكيو (تيبكو) النظر فيها، ومع ذلك ترد الشركة موضحة أنه ليس لديها أي مكان لمزيد من العمال.

"يامادا" لا يستسلم، يواصل محاولاته لخدمة وطنه، هذا الرجل السبعيني يدرك أن ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلُّه، ينطلق عام 2012 في جولة بالولايات المتحدة للحصول على مزيد من الدعم وإقناع الحكومة اليابانية بالسماح للعمال الأكبر سنًّا بالمساعدة على تنظيف "فوكوشيما دايتشي"، تنجح جولاته في لفت الأنظار إلى مبادرته، ويحوز اهتمام وسائل الإعلام، وتترجم مدونته عن جهود المجموعة إلى 12 لغة.

لم تستجب الحكومة اليابانية لإلحاحه، لكن مبادرته كسبت قلوب اليابانيين وأثارت نقاشًا مجتمعيًّا حول التطوُّع ودور كبار السنّ.

توفي يامادا عام 2014 بعد إصابته بمرض السرطان في وقت أبكر مما كان يتصور، وما زالت الشركة التي أسسها تقدم خدماتها للمجتمع، وإن لم يحظ أفرادها بفرصة المشاركة في تنظيف الفوضى التي سبّبها المفاعل بأنفسهم كما كانوا يحلمون، إلا أنَّهم قدموا مثالًا رائعًا وعمليًّا في حبّ الوطن، الحب الذي لا يشيخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.