وداعا شيخ المالكية

لم يكن ليدور في خلدي أن أتلقى منه هذه العبارة "يا شيخ محمد، لا تَعُدْ لذكر هذا، فإنه ليس من مآثري! وكيف يكون كذلك؟ وقد حسَّن القوم ظنهم بي، فرشحوني لمنصب الإفتاء!".

كان السياق تعريفًا بشيخنا وسط جمهرة من علماء المسلمين قد وفدوا للزيارة والبحث في شؤون علمية، وقد كان حينئذ مشرفًا على مكتب الجامعة الأميركية المفتوحة بالقاهرة، وكنت أعرف من سماحته كراهته الشهرة والأضواء، وانقباضه عن الدنيا وزينتها!

ولقد عرض عليه المنصب غير مرة، وكان يسأل عن موقفه من ربا البنوك ضمن ما يسأل عنه، فيجيب بحرمتها، ويشفع جوابه باعتذار عن قبول المنصب.

وكنت قد أصدرت بعد ذلك سلسلة بعنوان "فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف"، وقد بدأتها برسالة عن موقفهم من الأضرحة، والقبور، والموالد، والنذور، واطّلع عليها فضيلته، ولم يعلِّق، ثم لما خرج إصدار عن ربا البنوك، لقي شيخنا ابني عبد الله- وهو من طلبته بكلية الشريعة كما كنت من قبل- فقال ملاطفًا له "يا عبد الله، كيف يُصدر أبوك كتابًا عن ربا البنوك، ولا يأخذ مقدمةً مني؟ وبالفعل كتب سماحته مقدمة ضمَّنها رأيه بكل قوة ووضوح!".

وكان قد حدثني من قبل أنه استدعى فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي، وكان وقتئذ مفتيًا للديار وناقشه بحضور مجموعة من أساتذة كلية الشريعة في ربا البنوك، وشهادات الاستثمار، وطال المجلس الذي أعلن مفتي الديار في آخره موافقته لعلماء الكلية على حرمة الأمرين معًا، ثم فوجئوا بعد ذلك بخروج فتياه بالإباحة لهما معًا!

لقد كان شيخنا المبارك أحمد علي طه ريان رحمه الله معظِّمًا للشريعة، منافحًا عن حياضها، ولم يكن فقط مدرسًا لعلومها، وعالمًا بأحكامها!

وكان شديد الإنكار على المداهنين من علمائها، ولقد حدثني أنه حين أُعير للعمل بالإمارات، جاء بعض المفتونين من علماء الأزهر إلى مؤتمر دعي له بصفته الرسمية، كما دعي إليه شيخنا، فلم يذهب إلى ذلك المؤتمر؛ لئلَّا يصافح مَن أحلَّ حرامًا، أو داهن في دين الله تعالى، هذا مع أن بعض هؤلاء كان إذا لقيه قبَّل يده احترامًا وإجلالًا!

لقد كان الشيخ رحمه الله رافضًا لتغوُّل الدولة على مؤسسة الأزهر، ومنتقدًا عبثها بمناهجه، واستجابتها للضغوط الدولية بشأن إضعاف الأزهر ومحاصرته، وتحجيم واجبه العالمي!

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعظما

لقد كان للنشأة العلمية التربوية الأولى أبعد الأثر في شخصية سماحة الشيخ الدكتور أحمد علي طه ريان، فقد حفظ القرآن الكريم مبكرًا، والتحق بالتعليم الأولي بقريته "نجع الريانية-بقرية الغربي قمولا"، مركز الأقصر، ثم كانت دراسته الإعدادية بمعهد "بلصفورة" الديني، بمحافظة سوهاج، والدراسة الثانوية كانت بمعهد قنا الديني، ثم حصل على الإجازة العالية من كلية الشريعة والقانون بالقاهرة عام 1966م.

ولقد نشأ الشيخ متصوفًا تصوفًا يعظِّم الشريعة، ويهتم بتربية النفس، وتنقيتها من آفاتها، ويُعلي من قيمة الأدب واستقامة الخلق.

وكان تصوف زهادة وعبادة، لا طلب للدنيا وبلادة! وقد صحبه هذا المنهج إلى أن لقي ربه، وسار في ذلك على طريقة شيخه وصاحبه إسماعيل صادق العدوي رحمه الله، الذي كان مَعْلَمًا في الصدق، والصدع بالحق من منبر الأزهر الشريف، منتميًا إلى أمته، منحازًا إلى قضاياها.

لقد كان الشيخ رحمه الله رافضًا لتغوُّل الدولة على مؤسسة الأزهر، ومنتقدًا عبثها بمناهجه، واستجابتها للضغوط الدولية بشأن إضعاف الأزهر ومحاصرته، وتحجيم واجبه العالمي!

ولا أدلَّ على ذلك من انتساب شيخنا رحمه الله إلى جمعية "جبهة علماء الأزهر" التي كانت قد أُسّست عام 1946م؛ كجمعية أهلية علمائية، تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، ونصَّ نظامها الأساسي على أن المقصد العام لهذه الجمعية هو إعزاز الإسلام والمسلمين، ورفع شأن الأزهر والأزهريين، وظلت تعمل إلى أن توقفت أو أُوقفت، ثم أعاد الحياة إليها ثلّة من علماء الأزهر عام 1994م، وانتخب لها فضيلة الدكتور عبد المنعم البري رحمه الله رئيسًا لدورتين متتاليتين وانتخب الأستاذ الدكتور يحيى إسماعيل أمينًا عامًّا، وخاضت الجبهة معارك في الإنكار على منكرات العلمانية، والتهوين من شأن الأزهر، وإعادة الاعتبار للشريعة الإسلامية، وكان أول محاضرة للجبهة في جامع الأزهر عن الفتيا، ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور أحمد علي طه ريان، كما كان أول كتاب صدر عنها بعنوان "ضوابط الاجتهاد والفتوى" لفضيلة شيخنا رحمه الله.

ثم شارك بعد ذلك في الكتابة عن خطر العلمانية وفكرها، وبيان ضررها وأثرها، وكان فضيلة الشيخ يذكر أن الجبهة كانت تسمى بـ"جمعية الدعوة"، ثم تغير مسماها في الثمانينيات إلى "جبهة علماء الأزهر"، وأنها كانت معنيَّة بالتصدي للفكر العلماني الذي بدأ ينتشر في تلك المرحلة، وقد تولَّاها الشيخ الدكتور محمد الطيب النجار بعد أن أُعيدت في عهد فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق رحمه الله.

وفي تلك المرحلة ألَّف شيخنا رحمه الله كتابه "الرد على الفكر العلماني"، وقد طبعته الجبهة أيضًا.

ثم لم تلبث الجبهة أن حُلَّت عام 1998م، في إطار من الاستبداد والتشويه المتعمّد والمعتاد للأعمال الرسالية!

وفي عهد فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، وهو قريب البلد والمكان من بلد فضيلة الشيخ رحمه الله ، تحسنت أمورٌ كان شيخنا يثني عليها؛ كاستعادة الفقه المذهبي مكانته في الدرس الفقهي بالمعاهد الشرعية.

تدرَّج فضيلة شيخنا في المدارج العلمية، فحصل على درجة التخصص "الماجستير"، ثم العالمية "الدكتوراه" في الفقه المقارن، ثم ترقى أستاذًا مساعدًا، فأستاذًا عام 1985م، وانتدب عميدًا لكلية الشريعة والقانون بفرع جامعة الأزهر بأسيوط عام 1982م، ورئيسًا لقسم الفقه المقارن بالكلية نفسها.

كما عُيِّن عميدًا لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الأحقاف بحضرموت باليمن بين عامي 1996-1997م، ودرَّس بالكلية وجامع الأحقاف بين عامي 1995-1998م.

حدَّث رحمه الله عن أول تدريسه بالجامعة الإسلامية بالمدينة حين أُعير إليها لـ4 أعوام بين عامي 1977-1981م، فقال "في أول تدريس لي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية أُعْطيت تدريس كتاب (سبل السلام) في كلية الحديث، فبدأت التدريس، وكلما قلت حديثًا، قال الطلاب: هذا ضعيف! وكانوا من طلاب دار الحديث، فأصابني حرج، فذهبت أشتري كل شهرٍ بألف ريال كتب التخريج، فصرت أشرح وأنا أحضر جيدًا تخريج الحديث ودرجته، فصار الطلاب يكتبون، وانتهت المعضلة بحمد الله تعالى".

كان من شأنه رحمه الله اللطف بطلابه، والإحسان إليهم، وتفقُّد حاجاتهم المعيشية والعلمية، وكانت عنايته مصروفة إلى طلبته من الأعاجم والجاليات المسلمة الوافدة لطلب العلم بالأزهر، وكان شديد المحبة لهم، والعطف عليهم، وقد أوصى رحمه الله -فيما بلغني- أن يقوموا على غسله وتكفينه

ولقد عاد بعدئذ إلى مصر لمدة 4 أعوام، ثم انتقل للتدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة لـ5 أعوام من عام 1986 حتى عام 1991م.

ثم عاد إلى كلية الشريعة بالقاهرة لندرس عليه "فقه الكتاب والسنة" عام 1994م، ليسافر بعدها إلى اليمن. ولقد كانت له زيارات علمية كثيرة لبلاد عدة؛ إلى بنغلاديش، وباكستان، وكندا، وأميركا، والإمارات، وغيرها وحضر وحاضر بمؤتمرات علمية كثيرة، وقدَّم دورات علمية في تلك البلاد وفي مختلف المناسبات.

فلمَّا رجع إلى مصر بعد رحلته إلى اليمن، عاد إلى دروسه وعلومه التي كان يبثها في أماكن متعددة، منها دروسه بقاعة فضيلة الشيخ إسماعيل صادق العدوي رحمه الله بالأزهر، وكانت في شرح "حاشية الصاوي على تفسير الجلالين"، ودروس الفقه المالكي كل يوم ثلاثاء بعد العصر بمسجد الشيخ الدردير خلف الجامع الأزهر، فضلًا عن دروس النساء بالجامع الأزهر كل يوم أربعاء، بعد صلاة الظهر في شرح "جامع العلوم والحكم"، هذا بخلاف عنايته بالتدريس بالمسجد الذي أقامه تحت منزله بمنطقة المطرية بالقاهرة.

وكان من شأنه رحمه الله اللطف بطلابه، والإحسان إليهم، وتفقُّد حاجاتهم المعيشية والعلمية، وكانت عنايته مصروفة إلى طلبته من الأعاجم والجاليات المسلمة الوافدة لطلب العلم بالأزهر، وكان شديد المحبة لهم، والعطف عليهم، وقد أوصى رحمه الله -فيما بلغني- أن يقوموا على غسله وتكفينه، وقد كان ما أوصى به رحمه الله، وكان يُفْسح لهم دون غيرهم في مسجده الذي تحت بيته من بعد العصر، من كانت لديه مسألة في دراسته الجامعية في علم من العلوم الشرعية أو اللغوية، فيشرحها الشيخ له؛ تيسيرًا عليهم، وإعانة لهم، وكأنه كان يتذكر بحالهم حاله يوم أن اغترب عن بلده صغيرًا في المرحلة الإعدادية والثانوية ثم الجامعية.

ومع كونه رحمه الله متمذهبًا في الفقه والسلوك، فما كان يخاصم ويحتدُّ على مخالفه ممن لم يكن على مذهبه، أو على مسلكه، بل كان رفيقًا لا يحتدُّ على أهل الديانة والصيانة، وإنما كانت عداوته مصروفة إلى أهل الفساد والإفساد ولو كانوا على مذهبه أو مسلكه!

كما كانت كلمات شدته على أهل العلمنة والزندقة، ولهذا فقد أحبَّه أهل العلم والدين والعبادة والزهادة من كل مذهب سني، ومنهج مَرْضي.

ولقد دعوت سماحته مرارًا، فأجاب متفضلًا، وقد حرص فضيلته على أن يكون على رأس مَن حضر مناقشة رسالتيَّ في الماجستير والدكتوراه بكلية الشريعة بجامعة الأزهر، فرحمه الله وأجزل مثوبته.

ولقد ترك شيخنا تراثًا علميًّا أصيلًا بلغ عشرات المؤلفات الفقهية والأصولية والفكرية والتربوية، وآلافًا من طلبة العلم الذين تعلموا وتربوا على يديه، وناقش وأشرف على أكثر من 120 رسالة ماجستير ودكتوراه في الفقه في عدد من جامعات العالم الإسلامي، وتولّى رئاسة قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة بالقاهرة، ورئاسة موسوعة الفقه الإسلامي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف، وكثيرًا ما اعتذر عن أعمال وَرَدت إليه لانشغاله بتلك الموسوعة، ثم كان عضوًا بهيئة كبار العلماء عند إعادتها عام 2012م.

ثم بعد رحلة عطاء محفوفة بالجد والاجتهاد، وحسن النصح للأمة عامة، ولطلبة العلم خاصة، جاء حُسْن الختام بما نحتسبه شهادة للشيخ العلَّامة عند الله تعالى، بوفاته متأثرًا بإصابته بوباء كورونا الذي استمر معه بضعة أيام، فكانت كفارة الذنوب، ورفعة الدرجات، وأكمل الشيخ عامه الـ81 قبل وفاته بأسبوع، لينتقل إلى الدار الآخرة يوم الأربعاء الخامس من شهر رجب عام 1442، يوافقه الـ17 من فبراير/شباط عام 2021، وقد صلى عليه العلماء، وطلبة العلم، وجماهير المسلمين بالجامع الأزهر، ثم نقل جثمانه إلى قريته (نجع الريانية-قرية الغربي قمولا)، بمحافظة الأقصر من صعيد مصر.

وصدق الله تعالى ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الأنبياء: 44].

لقد بكتك أروقة الأزهر كلها سيدي!

فلم يحلُ للعينين بعدك منظر

ولا الأذنان بعد صوتك تسمع

إن موت العالم ثُلْمة في الإسلام، وبقبضه يقبض العلم من الأرض، فاللهم عَوِّض أمتنا عن فقد علمائها الصالحين، وفقهائها الربانيين، واجزهم أحسن الجزاء، وأوفاه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.