الموقف الأميركي بين انقلابين

يمكن أن تكون المقارنة سهلة بين الموقف الرسمي الأميركي من انقلاب الجيش في مصر على الرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013 والموقف الأميركي من انقلاب الجيش على المستشارة المنتخبة في ميانمار عام 2021، إذ وقع انقلاب الجيش في مصر في عهد الرئيس باراك أوباما ونائبه الرئيس الحالي جو بايدن ووقع انقلاب ميانمار بعد أسبوعين من تولي الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن مقاليد الحكم في أميركا.
(1) بين انقلابين
عندما وقع انقلاب الجيش على أول رئيس مصري منتخب في تاريخ البلاد شابت الموقف الأميركي الضبابية وعدم الوضوح إذ تدرج الموقف الأميركي بأن تواصل الرئيس باراك أوباما في ذلك الوقت مع الرئيس المصري الراحل محمد مرسي قبل عزله بيومين، وأعلن ان الولايات المتحدة ملتزمة بالعملية الديمقراطية وأنها لا تدعم حزب بعينه، وبيّن للرئيس المصري أن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات، وطالب الرئيس بأن يستمع إلى أصوات كل المصريين.
في حين كان وزير الدفاع الأميركي على تواصل مع قائد الجيش المصري الذي قاد الانقلاب العسكري كما صرح بذلك الرئيس السيسي في مقابلته مع صحيفة "واشنطن بوست" (The Washington Post) الأميركية بعد ذلك.
وبعد أيام خرج الناطق باسم البيت الأبيض "كارني" ليعبر عن رفض الولايات المتحدة توصيف ما جرى في مصر بأنه انقلاب عسكري واصفا الرئيس المصري مرسي بأنه لم يكن يحكم بطريقة ديمقراطية وأن مساندة الجيش لمن خرجوا ضده لا تعدّ انقلابا.
ثم جاء موقف وزير الخارجية الأميركي حينئذ جون كيري المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة الأميركية باتهام الإخوان بأنهم سرقوا الثورة المصرية واصفا الشباب المصري الذي خرج في ثورة يناير ضد الرئيس المخلوع حسني مبارك بأنهم خرجوا من أجل العمل والحرية، وأن أكبر تنظيم قد سرق منهم ثورتهم قاصدا بذلك تنظيم الإخوان المسلمين.
وأوقف البيت الأبيض بعد فضّ ميدان رابعة بالقوة وسقوط القتلى المساعدات العسكرية للجيش المصري لكنه سرعان ما أعاد المساعدات العسكرية من طيارات الأباتشي و(F-16) للجيش المصري موضحا أن تلك المعدات سوف تساعد الجيش المصري على القضاء على التطرف في سيناء.
أما في ميانمار فقد كان الأمر مختلفا إذ كان الموقف الأميركي حاسما وواضحا منذ الساعات الأولى للانقلاب العسكري في ميانمار، ثم توالت المواقف الأميركية الواضحة بعد ذلك سريعا.
ووصف الرئيس الأميركي الحالي اعتقال المستشارة أونغ سان سوتشي بأنه اعتداء مباشر على الديمقراطية وسيادة القانون، مذكرا أنه لا يمكن إلغاء إرادة الشعب ومحو نتائج انتخابات صحيحة بالقوة.
وإن كان قد استبعد الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية تدخلا عسكريا أميركيا ضد الانقلاب في ميانمار إلا أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على قائد الانقلاب وعدد من ضباط الجيش، وحذّرت جنرالات الانقلاب من أنه سيكون هناك مزيد من العقوبات على شركات تابعة للجيش.
كما دعت الولايات المتحدة أعضاء في الأمم المتحدة إلى فرض عقوبات على قادة الانقلاب على غرار ما قامت به، وهذه الدعوات استجاب لها الاتحاد الأوروبي الذي أصدر بيانا شديد اللهجة ضد قادة الانقلاب طالب فيه بالإفراج عن المستشارة الميانمارية وضرورة احترام نتيجة الانتخابات والعملية الديمقراطية.
(2) اختلاف الموقف
وبينما كان الموقف الأميركي العلني ضبابيا من الانقلاب الذي وقع في مصر وتحكمه المصالح الأميركية، فإن الموقف الحاسم من الانقلاب في ميانمار أيضا تحكمه المصالح الأميركية لا المواقف المبدئية.
الموقف الأميركي الذي جاء في المنطقة الرمادية بعد الانقلاب العسكري في مصر كان محكوما باعتبارات مصلحية عدة أهمها أن البيت الأبيض كان يرى في النظام المصري المنتخب من خلفية إسلامية نظاما ليس بالصديق للولايات المتحدة الأميركية لكنه في الوقت ذاته لم يصنفه نظاما عدوا لها، وهذا ما صرح به الرئيس الأميركي في ذلك الوقت باراك أوباما في تعقيبه على محاولة اعتداء بعض المتظاهرين على سفارة الولايات المتحدة في القاهرة ونزع العلم الأميركي عنها.
وفي الوقت ذاته كانت تنظر الولايات المتحدة بقلق إلى موقف النظام المصري من معاهدة السلام مع إسرائيل رغم تصريح الرئيس المصري الراحل مرسي باحترام مصر كل الاتفاقيات السابقة ما دام الطرف الآخر يحترمها.
وكان موقف الرئيس المصري الراحل من الحرب على غزة واتهامات إسرائيل لمصر بتسهيل تدفق السلاح إلى غزة في أثناء حكم مرسي، مع تجنب الرئيس المصري الراحل أي تواصل مع إسرائيل قد أثار حفيظة الولايات المتحدة فشعرت بأن حليفها الكبير في المنطقة لم يعد الحليف الإستراتيجي ذاته الذي كان أيام حسني مبارك.
فضلا عن خشية الولايات المتحدة على تأمين مصادر الطاقة وتدفقها من الشرق الأوسط بعد أحداث الربيع العربي فقد كانت ترى في بقاء مرسي مزيدا من الثورات العربية في مناطق مختلفة.
أما الوضع في ميانمار فيبدو مختلفا ومعاكسا لكل الظروف التي كانت في مصر حين وقع الانقلاب، فانقلاب الجيش يضرّ بالمصالح الأميركية ويمنح الصين التفوق في المنافسة الجيوسياسية الدائرة بين الصين وأميركا في الدول الآسيوية.
فقد رفضت الصين وصف ما حدث في ميانمار بأنه انقلاب، ودعت جميع الأطراف إلى حل الخلافات بالطرق السلمية، وذلك للحفاظ على المصالح الصينية في ميانمار إذ تقوم الشركات الصينية بتنفيذ مشروعات اقتصادية ضخمة وخاصة في مجال البنية التحتية، كما تربط القيادة الصينية علاقات وطيدة مع قادة الجيش، وقد اتُهمت الصين بدعم خفي للانقلاب العسكري وهو ما تنفيه الصين وترفضه الولايات المتحدة التي وجدت في الانقلاب الذي وقع في ميانمار توسعا للنفوذ الصيني على حساب مصالحها ووجودها في آسيا.
(3) الكيل بمكيالين
لا شك في أن الكيل بأكثر من مكيال يؤثر في صورة الولايات المتحدة وتقديمها نفسها راعية للديمقراطية وحقوق الإنسان وداعمة لتحرر الشعوب من الاستبداد. إن مثل تلك المواقف تفقد الشعوب العربية ثقتها بالولايات المتحدة وتعزز لديها النظرة السلبية عن المواقف الأميركية، إذ ترى الشعوب العربية أن الولايات المتحدة الأميركية حليفة للاستبداد في المنطقة وأنها تستخدم شعارات الديمقراطية لتحسين صورتها فقط، لكنها في الواقع تفعل عكس كل ما تعلنه وتنادي به من وجهة نظرهم، وهذا ما تؤمن به وتقتنع به النخب العربية وقادة الرأي وقادة الأحزاب والتجمعات التي تناوئ الاستبداد وتقف في وجهه في المنطقة.
الموقف الأميركي غير المبدئي من الانقلاب العسكري المصري يستلزم من حركات التحرر العربي أن تتنبه إلى أمور عدة؛ فعليها أن تدرك أنها معنية أولا بالقيام بالنضال بنفسها من أجل التحرر من حالة الاستبداد السياسي في المنطقة، وأن الدعم الغربي والأميركي على وجه الخصوص لحركات التحرر والانعتاق من الاستبداد يكون حالة مكملة وداعمة فقط إذ لا يمكن التعويل عليه في إحداث أي تحول سياسي مهما كان الضغط الخارجي والغربي كبيرا.
كما على حركات التحرر أن تدرك أن الغرب ليس جمعية حقوقية معنية بنشر الحرية والديمقراطية، وأن هذا الدعم الغربي يكون مرهونا بتوفر الظروف الحقيقية له بالحفاظ على المصالح الغربية في المنطقة وفي الوقت ذاته بضمان عدم تشكل أنظمة معادية له إذ لا يمكن أن يدعم الغرب أي تحولات ديمقراطية يمكن أن تلد أعداء للديمقراطية والقيم الغربية والمصالح الغربية.
إن حركات التحرر العربية، وأخص هنا حركات التحرر الإسلامية، عليها أن تدرك أن خوض أي حالة إصلاح ومطالبة بالدعم الغربي الكامل لها يتطلب منها أن تدخل في تفاهمات في أدق التفاصيل مع الغرب، وأن الجلوس في المناطق الرمادية من القيم الغربية ومصالحهم سوف يزعزع الثقة بين الأنظمة الغربية وتلك الحركات ويجعلها فريسة سهلة لقوى الاستبداد والثورات المضادة.
وعلى حركات التحرر أن تدرك أن الصراع مع الاستبداد ليس حالة ثورة شعبية فقط وإن كانت عموده الفقري، لكن الثورة والتحول السياسي من الاستبداد إلى حكم الشعب نفسه بنفسه عملية سياسية معقدة يتداخل فيها العامل الداخلي مع العامل الخارجي، وتتقاطع عندها مصالح القوى الكبرى، وهذا يتطلب قراءة دقيقة للمشهد والبحث دائما عن الاستفادة من كل ما هو ممكن ومن كل المساحات المتاحة بعيدا عن المواقف الأيديولوجية السابقة، فما يصلح للمعارضة لا يصلح للإكراهات السياسية والتعامل مع الواقع بعد الوصول إلى السلطة.
لقد خسرت حركات التحرر العربي ربيعها في موجته الأولى عندما تجاهلت حقيقة أن الغرب لا يكون داعما لحركات تحرر الشعوب إلا إذا كان مطمئنا لقياداتها وأنها تشبهه في تبنّي القيم الغربية والمصالح الغربية مما يستلزم من حركات التحرر أن تدرك كيف عليها أن تقدم نفسها للغرب، وكيف ينبغي لخطابها الذي تظهر به أن يكون، وكيف يمكنها بناء تحالفات مع الغرب بما يضمن استقرار التحول السياسي ونجاح عملية الانعتاق السياسي والتحرر من الاستبداد، لتبدأ بعد ذلك حالة الإسهام في الحضارة الإنسانية والنهوض من جديد بالتشارك مع النماذج الغربية ونهضتها الإنسانية والسياسية.