هل يمكن الحديث عن إعلام أخلاقي؟
يثير تعبير "الإعلام الأخلاقي" إشكالاً، ولذلك يتم تجنبه عادةً من قبل العاملين في حقل الإعلام، ويفضل بعضهم استعمال "الإعلام المتعدد"، كما فعل آلان غريش في إحدى مقالاته، في حين يفضل آخرون استعمال كلمة "مهنيّ" وهو التعبير الشائع؛ ويرجع الإشكال في تعبير "الإعلام الأخلاقي" إلى أمرين:
الأول: شمول وسعة مدلول "الإعلام"، فهو بالمفهوم التقليدي يشمل العمل الإذاعي والتلفزيوني والأفلام والمسرح والصحافة المطبوعة والإنترنت، كما يشمل الإعلام الإخباري وإعلام الترفيه والتسلية وغير ذلك، والآن ثمة "الإعلام الجديد"؛ أي أن الإعلام بات مفهومًا واسعًا، ولا يمكن الحديث عن "إعلام أخلاقي" بهذه السعة والتنوع؛ لأن معايير تقويم كل نوع تختلف عن النوع الآخر.
الثاني: أن تعبير "الإعلام الأخلاقي" يحيل إلى وظيفة أخلاقية تجعل تلك الوسائل الحاملة للرسالة وسائل "أخلاقية"، وهو ما لا يدخل في وظيفة الإعلام ومهامه؛ إذ إن وظيفة الإعلامي ليست بث تقويمات أو رسائل أخلاقية، فهو يحدد وظيفته في نقل الحقيقة أو الواقع وانتقاد ممارسات من هم في السلطة، أو هكذا يُفترض.
الثالث: أن الأسئلة التي يثيرها العمل الإعلامي لا يزال كثير منها عصيًّا على المعالجة الأخلاقية، وقد تختلف فيه الآراء كذلك، فضلاً عن أن بعض المبادئ التي عادة تُدرج ضمن "أخلاقيات الإعلام" هي محل نقاش؛ كمفاهيم الحياد والموضوعية، والاستقلالية، والتوازن، والمصلحة العامة.
ويحيل تعبير "المهنة/المهني" في الواقع إلى معنى أوسع من مدلول "إعلام أخلاقي" رغم إشكاليته؛ لأن ما هو مهني قد لا يندرج ضمن دائرة ما هو أخلاقي (بمعنى أنه قد لا يحمل مضمونًا أخلاقيًّا)، رغم أن المهني والأخلاقي ينتميان إلى مجال ما هو معياري، ولكن ليس كل معياريّ يُعدّ أخلاقيًّا، ولكن الأخلاقي أحد أقسام المعياريّ؛ فحينما نقول: إن هذا مهني أو غير مهني، فإننا لا شك نحيل إلى تقويم معياري في عرف وتقاليد أصحاب المهنة أنفسهم، بينما في الأخلاقي نحن نبحث عن الصح والخطأ، أو الصالح وغير الصالح، أو الحسن والقبيح، بالمعنى الأخلاقي.
نعم، ثمة جوانب من الإعلام خاضعة للتقويم الأخلاقي بلا شك، وتندرج عادة ضمن ما تسمى "أخلاقيات الإعلام"، وهو أحد فروع الأخلاقيات التطبيقية (التي تشمل مجالات عدة كالبيولوجيا والمهن والبيئة). وهنا يتم وضع مبادئ ومعايير أخلاقية لضبط عمل وأداء أصحاب هذه المهن، وتحديد ما هو صالح وغير صالح، أو لتحديد ما هو صح أو خطأ في حالات محددة؛ كعرض صور الضحايا مثلاً أو نشر معلومات حول الأفراد بما قد يؤدي إلى انتهاك مبدأ الخصوصية مثلاً.
وتعود فكرة وضْع أخلاقيات للعمل الصحفي إلى سنة 1926 -فيما أعلم- حين قامت الجمعية الأميركية لمحرري الصحف بوضع ميثاق أخلاقي، ثم درجت المؤسسات الإعلامية الكبرى على وضع مواثيق خاصة بها؛ فوضع الاتحاد الدولي للصحفيين ميثاقه سنة 1954 (تم تعديله لاحقًا من قبل المؤتمر العالمي سنة 1986)، وفي سنة 1973 قامت مؤسسة سيغما ديلتا كاي (Sigma Delta Chi) بكتابة الميثاق الخاص بها (ثم قامت بتعديله عبر مراحل متعاقبة أعوام 1984 و1987 و1996)، وسنة 1994 اعتمدت إدارة محرري أسوشيتد برس ميثاقها المنقح، واعتمدت جمعية الصحفيين المحترفين ميثاقًا تبناه آلاف من الكتاب ومحرري الأخبار.
وتدور مجمل تلك الأخلاقيات حول مبادئ عامة هي: (1) البحث عن الحقيقة، (2) تَوَخي الدقة، (3) تخفيف الأضرار، (4) العمل باستقلالية، (5) التحلي بالمسؤولية، (6) النزاهة والحياد. ويندرج تحت هذه المبادئ الكبرى جملة من الأخلاقيات التي تسعى إلى ضبط المهنة ووضع معايير تنظم عمل الصحفيين والإعلاميين.
ولكن إقرار هذه المبادئ لا يعني أن تتحول الممارسة الإعلامية إلى ممارسة أخلاقية؛ لأن ثمة إشكالات عدة تثار هنا، أذكر منها:
الإشكال الأول: يتعلق بالمسافة الفاصلة بين إقرار مبادئ عامة، وتطبيق هذه المبادئ على الوقائع والحالات الجزئية، وما إذا كان هذا المبدأ أو ذاك قابلاً للتطبيق على هذه الواقعة أو تلك؛ فالمساحة الواسعة للتطبيقات مفتوحة على الكثير من التفاصيل والخلافات، بل والكثير من عمليات التحايل أيضًا. وفي حقل الأخلاقيات الطبية اليوم ثمة الإشكال نفسه، ولذلك يمكن أن نميز بين توجهين فيه: توجه ينتصر لفكرة إقرار مبادئ كلية تتيح للعاملين مرونة في تطبيقها على الحالات الجزئية باجتهادهم (Principlism)، واتجاه يرى أن المبادئ غير كافية، ومن ثم فلا بد من التعامل مع كل حالة بمفردها (Casuistry Ethics). وما ينطبق على الأخلاقيات الطبية يمكن أن نسحبه بقدر ما على غيره من الحقول التطبيقية كالإعلام والسياسة مثلاً، مما تفرض الحالات الجزئية فيه بعض التعقيدات التي لا يمكن تقويمها أخلاقيًّا من دون الإحاطة بتفاصيلها.
الإشكال الثاني: أنه لا توجد سلطة إلزام في ممارسة هذه المبادئ وتطبيقاتها سوى المؤسسة الإعلامية نفسها (سأشير إلى بعض إشكالاتها قريبًا)، وضمير العامل في هذا الحقل.
الإشكال الثالث: أن بعض المبادئ المقررة في هذه المواثيق الأخلاقية محل إشكال، مثل مفهوم الاستقلالية الذي يرد في كل المواثيق تقريبًا، ويكاد يكون مفهومًا مثاليًّا بالنظر إلى العوامل التي تتحكم في واقع المؤسسات الإعلامية، ويمكن تلخيصها في 3 عوامل رئيسة، هي:
العامل الأول: الثورة التكنولوجية التي تثير العديد من الإشكالات الفلسفية والأخلاقية التي لا تقصر دور وسائل الإعلام على مجرد كونها أدوات، بل تجعل منها منتجًا لرسائل ومضامين. يضاف إلى ذلك أنها جزء من ميدان استثماري؛ مما يجعلها مؤسسات استثمارية ويُخضعها لسياسة المؤسسات المالية الكبرى أو الدول أو المالكين. ولذلك اعتبر جاك دريدا أن الأخبار يتم تصنيعها حين قال "إن الأخبار لا يتم منحها، بل يتم إنتاجها بفاعلية، ويتم فحصها وتوظيفها وتفسيرها بصورة استعراضية؛ عبر مجموعة من الأدوات الخادعة والوهمية وفقًا لأولويات، وبصورة انتقائية، وفي خدمة قوى ومصالح لا يمكن للمتلقين والوكلاء إدراكها بصورة وافية".
العامل الثاني: أن وسائل الإعلام نتاج انتصار الليبرالية وانفتاح النظم السياسية، وهو ما جعل الإعلام سلطة من السلطات التي تتغول بطرائق شتى من دون أي اعتبارات أخلاقية حاكمة سوى قوانين السوق.
يندرج الإعلام ضمن الفعل الثقافي، بل إنه يشكل ساحة مهمة لتجليات هذا الاختلاف الثقافي الواسع وإن اتحدت قواعد المهنة وأخلاقياتها من حيث الجملة، ولذلك فإن بعض المقولات التي تحدد وظيفة الإعلام أو الإعلامي بأنه يسعى إلى نقل الحقيقة أو تصوير الواقع مقولات بحاجة إلى مقاربة نقدية
العامل الثالث: اندماج المنظومة الإعلامية في السلطة السياسية عبر أشكال مختلفة؛ لأن من يملك المعلومة هو الذي يتحكم في الإعلام، ولا يمكن تحرير الإعلام أو فصله عن المؤسسات والشركات والدول الكبرى التي تملكه وتتحكم فيه.
وسبق لنعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان أن أشارا إلى كوابح تتحكم في الإعلام الأميركي خاصة، مما يثير شكوكًا مهمة حول مفهوم الاستقلالية، وتتلخص تلك الكوابح في: الملكية والدعاية التجارية والمصادر الرسمية والنقد والأيديولوجيا. فالإعلام الأميركي مِلك لحفنة قليلة من رجال الإعلام الأثرياء والشركات العملاقة، ومهما بلغت درجة استقلاليته لا يستطيع أن يبث ما يؤثر سلبًا على مصالح مالكيه، كما أن الدعاية التجارية تشغل حيزًا كبيرًا من وارداته، وشكل التغطية الصحفية قد يؤثر سلبًا في تدفق الإعلانات المحكومة مسبقًا بمواقف وقناعات سياسية محددة ومجموعات ضغط. أما من جهة المصادر، فالمصدر الأهم للأخبار هو المصدر الرسمي، ويتطلب الحفاظ على تدفق المعلومات والاتصال بالمصادر المباشرة نوعًا من التجاذب والمجاملات. ووسائل الإعلام الأميركية تخشى نقد الجهات الرسمية والمتنفذة أحيانًا؛ مما يفرض عليها بعض القيود الذاتية، حسب تشومسكي وهيرمان، وإن كان هذا لا يعني غياب الاستقلالية كلية.
التباين الثقافي لا يقف عند حدود "الأهمّ"، بل يتسع ليشمل قاموس المفاهيم والمصطلحات، خاصة في الصراعات والنزاعات والثورات مثل (الإرهاب، والشهيد، والتمرد، والانقلاب، والثورة،…) وهي مفاهيم ومصطلحات تعكس افتراق التصورات والمصالح والقيم والمواقف السياسية
يندرج الإعلام ضمن الفعل الثقافي، بل إنه يشكل ساحة مهمة لتجليات هذا الاختلاف الثقافي الواسع، وإن اتحدت قواعد المهنة وأخلاقياتها من حيث الجملة، ولذلك فإن بعض المقولات التي تحدد وظيفة الإعلام أو الإعلامي بأنه يسعى إلى نقل الحقيقة أو تصوير الواقع، هي مقولات بحاجة إلى مقاربة نقدية، فمفاهيم "الحقيقة" و"الواقع" نسبية في حقل الممارسة، ولشرح ذلك أميز هنا بين 3 مفاهيم توضح المساحة التي يتم التلاعب بها أو تأويلها حسب وسائل الإعلام، أو يتم الاختلاف حولها لعوامل ترجع إلى ما نسميه هنا التباين الثقافي الذي يسم مجتمعات وسائل الإعلام. هذه المفاهيم الثلاثة هي: وجوه الواقع، وأجزاء الواقع، والواقع المُهِم.
فبالنسبة لوجوه الواقع: نجد أن التباين الثقافي يجعل للواقع وجوهًا متعددة أحيانًا، وتظهر من خلال اختلاف التغطية الإخبارية من قناة لأخرى للواقعة نفسها، وعادةً يشكل السياق أو الصراع أو التأويل الذي يختلط برواية الواقع الدور الأكبر في تعدد تلك الوجوه. ومن ثم فإن الحديث عن "إعلام أخلاقي" لن يؤدي إلى تقديم رواية واحدة نهاية المطاف، إذ ستبقى ثمة وجهات نظر مختلفة تتصارع فيما بينها، خاصة على الصعيد الدولي؛ ما دامت وسائل الإعلام تعكس موازين القوى والتنافس والصراع محليًّا ودوليًّا.
أما بالنسبة لأجزاء الواقع، فلا بد من توضيح أن تسليط الضوء على جزء من الواقع فقط لا يجعل من تلك الرواية كذبًا محضًا، كما لا يجعل منها نقلاً للواقع كما هو؛ لأن نقل جزء من الواقع قد يؤثر في الصورة الكلية للواقعة ويجعلها مختلفة عن الواقع، بل إن إغفال بعض أجزاء الواقعة قد يصيّرها واقعة أخرى مناقضة للواقع أحيانًا؛ فالجزء من اللوحة الفنية ليس هو اللوحة نفسها، وإذا كان الرأي الواحد محل إشكال فإن الرأي والرأي الآخر أيضًا مشكلٌ؛ لجهة البحث في مدى تمثيلية هذه الآراء، أو مصداقيتها، وأحيانًا يتم اختراع الرأي الآخر إن لم يوجد، فضلاً عن أنه قد يكتسب أهميته من كونه رأيًا آخر، وبهذا يتجاوز الإعلام النواحي التقويمية أو المعيارية إلى سياسة تحريرية يصوغها القائمون على هذه المؤسسة أو تلك.
هكذا نجد أن ما تقدمه وسائل الإعلام ليس هو الواقع بكليته، لأن كل عمل إعلامي هو اجتزائي أو انتقائي بالضرورة، ولكنه قد يشبه عمل النحات الذي ينفي كل الأجزاء التي يراها غير صالحة لرسم تمثاله، أو قد يشبه عمل رسام الكاريكاتير الذي يضخم بعض الأجزاء أو الصفات ويهمش أخرى؛ فتخرج الصورة فكاهية أو ساخرة. وهذا ما يثير إشكالية مركبة سياسية وثقافية، تتمثل في كيفية تحديد المهم وغير المهم من الأحداث والوقائع الواجب تغطيتها إعلاميًّا، وهو تحديدٌ قد تُحركه عوامل سلطوية ومحلية أيضًا، فالتغطية الإعلامية تُنتج بشكل متزايد على ضوء الخلفية الثقافية والتحيزات التي تحرك كل مؤسسة إعلامية.
والتباين الثقافي لا يقف عند حدود "الأهمّ"، بل يتسع ليشمل قاموس المفاهيم والمصطلحات، خاصة في الصراعات والنزاعات والثورات مثل (الإرهاب، والشهيد، والتمرد، والانقلاب، والثورة،…) وهي مفاهيم ومصطلحات تعكس افتراق التصورات والمصالح والقيم والمواقف السياسية. فالرسوم الكاريكاتيرية المسيئة (الدانماركية ثم الفرنسية) كانت محل انقسام وعكست تصورين قيمين مختلفين: من يرى أنها جزء من حرية التعبير ومن يرى أنها تنتهك مبدأ احترام المعتقدات. وكذلك الخلاف حول توصيف ما حدث في مصر من انقلاب على الرئيس المنتخب عام 2013 "انقلاب أو ثورة؟"، أو تسميات مثل توصيف حركات الاحتجاج على الأنظمة بأنها "تمرد أو ثورة"، أو الخلاف حول توصيف ضحايا الاحتلال "شهيد أو قتيل؟"؛ وهي كلها تعكس اختلافًا حول القيم التي تشتبك فيها السياسات المهنية التي تقررها السياسة التحريرية لقناة معينة مع المواقف والمصالح السياسية، ولا مجال فيها لاتخاذ مواقف أو تقويمات أخلاقية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.