حين ينازل همنغواي بطل روايته!

بقدر ما يبتهج الروائيّ عادة بالتماعة الفكرة الخلّاقة في ذهنه، يعرف كم ينتظره من العناء ليُحسن تنفيذ ذلك على الورق بحيث لا تأتي الكتابة تاليًا خصمًا من ألق الفكرة أو تمييعًا لها، أو حتى تذهب بها إلى وجهة أخرى أقلّ جمالًا.
كل تلك الاحتمالات الحذرة كانت أمامي وأنا أشرع في قراءة رواية السعودي محمد المطرفي "كلب أزرق ينبح بجوار السرير" الصادرة عن دار أثر عام 2020، وهي تختلق لقاء بين الكاتب الأميركي إرنست همنغواي وسانتياغو بطل روايته ذائعة الصيت "الشيخ والبحر".
ولأنّ الفكرة الروائية تحتاج على الدوام إلى قالب فني يلائمها تمامًا، فلا يضيق بها فيخنق الامتداد الذي قد تبلغه، ولا يجعلها، في المقابل، تبدو مترهلة فاقدة للتماسك، فقد كانت بداية النص مبشّرة -رغم الثقل الذي اعتراها بسبب وفرة التشبيهات- ما إن اتضح لجوء الكاتب إلى حيلة المنامات ليجعلها أرضية تقوم عليها حكايته. هذا الوعي بالقالب الملائم منح الرواية مدى متراميًا من الحرية دون أن تكون مطالبة بالخضوع لمنطق التاريخ، والتزام ما حدث بالفعل. ومع هذا، فلم تكن المنامات تفلّتًا من كل ضابط، إذ أتقن المطرفي المراوحة بين السيرة المثبتة للكاتب الأميركي، والتخييل الذي غدا بمنزلة سيرة موازية، مع كل ما يحمله ذلك من موافقة أو تضاد لما حدث في الواقع.
لكن تلك المراوحة كان يمكن لها أن تُنزل الفكرة من عليائها لولا انتباه الروائي الحاد إلى ما ينبغي له تجاهله في المقام الأول من سيرة همنغواي المعروفة، وليس ما ينبغي له جلبه، فاكتفى بالمرور على إشارات سريعة مما حدث، حتى يُفسح القدر الأكبر لتلك السيرة الموازية، للخلق الجديد، الذي من أجله جاء الكتاب، ولولاه لأصبحت التجربة بأكملها تكرارًا لما هو موجود، وهدرًا للورق لا يغتفر. وهنا أستحضر مقولة الروائي والفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو في هذا الصدد حين كتب مرة "إنّ الفنّ ليس هو الطبيعة منظورًا إليها بمزاج شخصي، إلا إذا أمكن عدّ الموسيقى هي صوت البلبل منظورًا إليه بمزاج شخصي". إذن كان المطرفي واعيًا بضرورة تدخله حتى يتجاوز دوره نقل حكاية من كتاب إلى آخر، وليؤسس جديدًا منتفعًا من قدرة الرواية على منح هذا البراح الكبير.
كان ثمة نزوع وجداني يُغلّف شخصية همنغواي، ولم تكن في الغالب إلا الطريقة التي يراها به كاتبه ومريده في الآن نفسه. لذا حين كان الكاتب الأميركي يبكي فراق حبيبته أغنيس، بدا الأمر صادقًا بحيث يخطر سؤال إن كانت الفتاة قد تركتْ همنغواي بالفعل أم المطرفي!
ولعل هذا يتكشّف أكثر حين يمضي القارىء في الرواية ليبدأ بالتعرف إلى سانتياغو بطل رواية "الشيخ والبحر" من منظور جديد، وقد أشرع له المطرفي النوافذ والأبواب ليفعل ما يشاء بدءًا من همنغواي نفسه، بعد أن حوّله من صياد سمك صموت، إلى حلّاق ثرثار في ضواحي هافانا. تدور الحوارات الذكية بين الشخصية وكاتبها، فيبدو المؤلف متعجبًا مرة، ومنقادًا في أخرى، وغاضبًا في الثالثة، وكأننا إزاء فرصة ليتعرّف الكاتب على الشخصية التي ابتدعها بعد أن غدت خارجه، بل وتشكّلت بحيث وجب تلمّس ملامحها من جديد. وفي هذا إشارة لطيفة إلى أن الأعمال لا تعود ملك أصحابها ما إن تخرج إلى الناس. ما عاد همنغواي يملك اليد العليا على سانتياغو يوجهه كيف يشاء، فغدت الحوارات حينًا أشبه بنزال في الملاكمة بين خصمين على الدرجة نفسها من الندّية. ولم يكن استدعاء المطرفي للملاكمة هنا إلا إشارة هامسة أخرى إلى جانب من سيرة الكاتب الأميركي المولع بتلك الرياضة.
وفي الأثناء يلحظ القارىء كيف بدأت الرواية تأخذ مسارًا يُشبه سباق التتابع، ليس بين همنغواي وبطل روايته فحسب، بل مع شخصية ثالثة تسلّلت إلى النص وبدأت اللعب معهما. إنها هنا محمد المطرفي نفسه، ولو من وراء ستار، فهو يُسلّم العصا إلى بطل روايته همنغواي الذي بدوره ينقلها إلى بطل روايته سانتياغو، لتعود إلى المطرفي من جديد، وهكذا. وبمثل ما أتيح للكاتب الأميركي أن يُقابل شخصية في كتاب له، أحال المطرفي همنغواي إلى شخصية في كتابه كي يلتقيه.
لكنّ اللقاء هنا بدا حميميًا أكثر. كان ثمة نزوع وجداني يُغلّف شخصية همنغواي، ولم تكن في الغالب إلا الطريقة التي يراها به كاتبه ومريده في الآن نفسه. لذا حين كان الكاتب الأميركي يبكي فراق حبيبته أغنيس، بدا الأمر صادقًا بحيث يخطر سؤال إن كانت الفتاة قد تركت همنغواي بالفعل أم المطرفي!
"لم يكن في هذا العالم سوى أغنيس واحدة، وهذه هي المأساة!.. لم يُسعفني الوقت لأتعرّف على عيوبها، وهذه مأساة أخرى، فكلّ ما أحمله منها ملائكيّ كامل. لم تترك لي أيّ نقيصة تعزّيني حين يطعنني الحنين".
تخفّف الكاتب من التزام خيط الحكاية فلم يكن وفيًا لتتابعها في بعض المواضع، وهذا أمر قد يُعدّ مأخذًا على النص، وإن كانت فكرة التشظّي التي أتاحتها حيلة المنامات قد تسمح ببعض ذلك. في المقابل جاءت القصص القصيرة المكتملة داخل الرواية كأنها دوائر صغيرة مغلقة تدور بجمال في فلك الحكاية الأكبر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.