هل تتحول أزمة أوكرانيا إلى حرب شاملة؟

Tension on the Ukrainian-Russian border continues
استعراض موسكو قدراتها العسكرية ليس شيئا جديدا والمؤكد أنها تختلف كثيرًا عن التدريبات العسكرية التي تقوم بها روسيا عادة (الجزيرة)

تشهد العلاقات بين روسيا من جهة وأوكرانيا والغرب من جهة ثانية توترات غير مسبوقة، بلغت ذروتها منذ أسابيع، وسط اتهامات وتهديدات متبادلة. نحن أمام توتر ضمن أزمة مركبة تحمل داخلها أكثر من بعد، وكل بعد يتعلق بأحد أطراف هذه الأزمة.

تجد واشنطن تصاعد التوتر المتجدد حول أوكرانيا فرصة لتقييد روسيا وعرقلة قيامها بترميم علاقاتها مع عواصم أوروبية، لا سيما باريس برلين، ومنع تشغيل خط غاز "السيل الشمالي 2″، ومنع روسيا من التحالف مع الصين بفرض مزيد من العقوبات عليها.

استعراض موسكو قدراتها العسكرية ليس شيئا جديدا، والمؤكد أن هذه التحركات مؤخرًا تختلف كثيرًا عن التدريبات العسكرية التي تقوم بها روسيا في العادة، وأهميتها اليوم تأتي في إطار توجيه رسالة إلى كييف بالدرجة الأولى، محذرة من العمل العسكري ضد دونباس

وبالنسبة إلى أوكرانيا فمصالحها تكمن في استعادة وحدة أراضيها، وهي تعمل على استغلال زخم ومستوى جديد من دعم الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، كما أن هناك رغبة لدى كييف في إظهار نفسها لدى الإدارة الأميركية الجديدة بأنها تواجه روسيا، وذلك بهدف الحصول على مزيد من الدعم، وفي حال استطاعت كييف استدراج روسيا إلى شن هجوم داخل الأراضي الأوكرانية، فقد تنجح في إيقاف تشغيل مشروع "السيل الشمالي 2″، الذي سينهي دور أوكرانيا بوصفها دولة عبور للغاز الروسي إلى أوروبا.

لكن المؤكد اليوم أنه ليس في مصلحة أوكرانيا تحويل النزاع المجمد شرق البلاد إلى آخر ساخن، لأنها ستكون الخاسرة حتما، إلا أن كييف تستخدم التسخين في هذا الملف بين الحين والآخر لتوجيه رسائل داخلية، وأخرى خارجية متعددة الاتجاهات، وسيبقى مأزق أزمة شرق أوكرانيا قائما ما دامت موسكو لم تعزم بعد على خطوة جذرية بضم جمهوريتي دونباس؛ دونيتسك ولوغانسك (غير معترف بهما)، مثل ما فعلت مع شبه جزيرة القرم قبل 7 سنوات، وذلك خشية إلحاق مزيد من الضرر في علاقاتها مع الدول الغربية.

استعراض موسكو قدراتها العسكرية ليس شيئا جديدا، والمؤكد أن هذه التحركات مؤخرًا تختلف كثيرًا عن التدريبات العسكرية التي تقوم بها روسيا في العادة، وأهميتها اليوم تأتي في إطار توجيه رسالة إلى كييف بالدرجة الأولى، محذرة من العمل العسكري ضد دونباس، لا سيما بعد سيناريو ناغورني قره باغ، وبعد حديث روسي متكرر وتحذيرات من استعدادات لشن هجوم أوكراني على شرق البلاد، حيث يسيطر الانفصاليون المدعومون من روسيا.

لكن موسكو اليوم لا تريد حربا واسعة؛ فالحرب في شرق أوكرانيا كانت مكلفة بالنسبة لروسيا خلال السنوات السبع الماضية، وتجدد هذه الحرب بشكل شامل لن يكون في مصلحة روسيا، وسيؤدي إلى إهدار موارد ضخمة موسكو في حاجة إليها، وسيفاقم مشاكل روسيا مع الاتحاد الأوروبي وأميركا.

والجدير ذكره أن سكان دونباس في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك (غير معترف بهما) معظمهم اليوم يحمل الجنسية الروسية، مع وجود حدود مشتركة بطول 400 كيلومتر بين روسيا وجمهوريتي دونباس، وهي العوامل التي لا تنطبق على أزمة أرمينيا وأذربيجان في ناغورني قره باغ، عند مقارنتها مع أزمة شرق أوكرانيا، كما أنه من المستبعد أن تتدخل تركيا أو إسرائيل في الصراع إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا، كما حصل في حرب قره باغ الثانية عندما دعمت الدولتان أذربيجان ضد أرمينيا، لكن على الأغلب سيستمر بيعهما الأسلحة في إطار فرصة كسب الأموال.

وفي عام 2008، قامت روسيا بعمل عسكري في جورجيا بعدما أرسل رئيسها آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي قوات لمحاربة الانفصاليين، وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قارن جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي الوضع الحالي في أوكرانيا بالوضع في جورجيا عام 2008، ودعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى عدم ارتكاب الخطأ نفسه الذي ارتكبه ساكاشفيلي، مذكرا إياه بأن ذلك كلفه غاليا.

إن ما يميز حالة أوكرانيا اليوم عن جورجيا عام 2008 هو التأهب القتالي الذي يعززه الناتو في أوكرانيا يومًا بعد يوم، بالإضافة إلى التحذيرات الأوروبية من مغبة دخول روسيا بشكل مباشر في الحرب شرق أوكرانيا.

بين كل هذا أوروبا التي لا تمتلك سياسة دفاعية مستقلة ومنفصلة عن سياسة واشنطن، ويخشى التكتل الأوروبي على أمنه، ومن موجة لجوء جديدة (لا سيما أن هناك اليوم تدخلا بين عوامل التوتر الغربي الروسي في الأزمة بين بيلاروسيا وبولندا حول اللجوء والهجرة، واتهامات غربية لمينسك وموسكو باستخدام هذه الورقة ضدها)، وأوروبا بحاجة أيضا إلى إمدادات الغاز الروسي.

مع أن كل السيناريوهات مطروحة في ظل هذا التصعيد والتصعيد المقابل والتهديدات، فإن سيناريو الحرب الشاملة يبدو مؤجلا حاليا، ويبقى النزاع في إطار الحروب الصغيرة كسيناريو قره باغ، وسيناريو القرم، وسيناريو جورجيا، مع استمرار حروب الوكالة هنا وهناك على أكثر من صعيد وفي أكثر من جبهة، إقليمية ودولية.

وفي الوقت الذي يتزايد فيه قلق الغرب حول نوايا وخطط تشرع بها روسيا لغزو محتمل لأوكرانيا، أكد الرئيس الأميركي جو بايدن الجمعة الماضي أنه سيجعل من "الصعب جدًّا" بالنسبة إلى روسيا شن أي غزو على أوكرانيا، التي حذرت من هجوم روسي محتمل واسع النطاق الشهر المقبل، وقال بايدن الجمعة للصحفيين إنه يعد "مجموعة مبادرات" تهدف إلى حماية أوكرانيا من هجوم روسي، في حين تتهم كييف وواشنطن موسكو بحشد قوات على الحدود والاستعداد لغزو.

وكان وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف قال في وقت سابق الجمعة الماضي أمام البرلمان -مستشهدا بتقارير للمخابرات- إن روسيا حشدت أكثر من 94 ألف جندي بالقرب من الحدود الأوكرانية، وربما تستعد لهجوم عسكري واسع النطاق في نهاية يناير/كانون الثاني القادم.

وتتهم موسكو بدورها أوكرانيا والولايات المتحدة بزعزعة الاستقرار، وتشير إلى أن كييف ربما تستعد لتنفيذ هجوم في شرق أوكرانيا، في حسن حذر وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف من "مغامرة عسكرية" أوكرانية، بعدما قالت وزارته إن "كييف" نشرت قرابة 125 ألف جندي في الشرق، وهو ما تنفيه كييف.

وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إثر اجتماع لحلف شمال الأطلسي في ريغا عاصمة لاتفيا "لقد قلنا بوضوح للكرملين إننا سنردّ، خاصة عبر سلسلة تدابير اقتصادية ذات تأثير كبير كنّا قد امتنعنا عن استخدامها في الماضي".

تجدر الإشارة إلى أن روسيا سبق أن عززت قواتها العسكرية على الحدود الأوكرانية في أبريل/نيسان الماضي، واتضح لاحقا أن الهدف من ذلك هو تعزيز أوراق الضغط السياسية والدبلوماسية، إذ إن روسيا أعادت سحب تعزيزاتها تلك بعد وقت قصير من إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين عقد قمة بينهما، وليس من المستبعد اليوم أن يتكرر المشهد نفسه مع استمرار المحادثات بشأن عقد قمة أخرى بين الرئيسين.

ويذهب بعض الخبراء إلى أن كييف أغضبت روسيا باستخدام طائرات بيرقدار المسيّرة التي استوردتها من تركيا، حيث يأتي التعزيز العسكري الروسي الأخير بعد نشر الجيش الأوكراني لقطات قال فيها إنه أول استخدام لطائرة مسيّرة تركية الصنع ضد الانفصاليين شرق البلاد، لا سيما بعد ظهور حديث في الأوساط السياسية الأوكرانية حول تكرار شرق البلاد سيناريو استعادة أذربيجان الجزء الأكبر من أراضيها في حرب ناغورني قره باغ العام الماضي.

وكذلك بعد اتهامات بوتين للغرب بتجاهل "الخطوط الحمراء" لروسيا عبر إجراء تدريبات في البحر الأسود، وإرسال أسلحة حديثة لكييف، مطالبا "بضمانات قانونية" من حلف شمال الأطلسي بعدم التوسع شرقا.

ويبقى أن ما تؤكده تهديدات الولايات المتحدة التي اقتصرت على التلويح بعقوبات اقتصادية كاسحة قد تصيب الاقتصاد الروسي بالشلل، ولم تشمل أي تهديد بالدفاع عن أوكرانيا عسكريا؛ يستبعد سيناريو الحرب الشاملة، وأن كييف قد تترك وحدها كما سبق أن حصل مع جورجيا عام 2008، في حال أرادت تطبيق سيناريو عسكري شرق البلاد في دونباس.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان