الصناعة السينمائية الثقيلة في العالم العربي
المشهد في منطقة "عنق الجمل" في نفطة بجنوب تونس لا يكاد يكون من هذا العالم؛ فهناك قباب صغيرة على الطراز التقليدي وحولها مجسمات لصواريخ فضاء وسط صحراء شاسعة، كأن كائنات فضائية قد استوطنت هذه البقعة يوما ما، يزيد من سحر المكان الزائرون والسائحون الذين يجوبون المنطقة والبائعون المحليون بملابسهم التقليدية.
الحقيقة أن واقع هذا المكان وهذا القدر العالي من الجمال ليس بعيدا عن الخيال، ففي تلك البقعة دارت كاميرات المخرج الأميركي الشهير جورج لوكاس لتصوير مشاهد من فيلمه حرب النجوم في جزئه الأول عام 1977، وبعد أكثر من 40 عاما تعتاش المنطقة سياحيا على هذه السمعة التاريخية حتى الآن. ومع الأسف لم تعد تونس وجهة شركات الإنتاج السينمائي العالمية بسبب العديد من الاضطرابات الأمنية التي شهدتها البلاد في السنوات الماضية، وخسر الاقتصاد القومي التونسي ما يربو على 30 مليون دولار عائدات مباشرة من هذه الصناعة السينمائية الثقيلة.
المغرب أيضا له تجربة غنية في الاستثمار في هذا القطاع، فقد بلغت عائدات تصوير وإنتاج الشركات الأجنبية في المغرب في عام 2019 نحو 83 مليون دولار بارتفاع يقترب من 9%عن عام 2018، حسب المركز السينمائي المغربي.
الحديث عن السينما يسترعي مباشرة إلى الأذهان الجانب الثقافي والفني وحده، وإن تطرق الأمر إلى الجانب الاقتصادي فإنه يشمل فقط أرباح الممثلين وشركات الإنتاج من دون الانتباه إلى أن السينما أصبحت صناعة ثقيلة منذ زمن بعيد تسهم في الدخل القومي للدول. والأمر هنا لا يقتصر على الاستثمار المباشر في إنتاج الأفلام فقط وإنما يمتد إلى توفير خدمات مواقع التصوير والاستديوهات وغيرها من متطلبات هذه الصناعة.
وقد انتبه عدد قليل من الدول العربية إلى هذا الأمر واستثمر في البنية التحتية للصناعة السينمائية مثل الأردن والمغرب. ففي الأردن مثلا تجاوزت عائدات هذه الصناعة 210 ملايين دولار بين عامي 2007 و2017، حسب الهيئة الملكية الأردنية للأفلام. وقد وفرت هذه الصناعة فرص عمل بدوام كامل لنحو 5 آلاف أردني، وهذه الأرقام مرشحة للزيادة في ظل السعي الحثيث من قبل المسؤولين هناك لتعزيز هذه الصناعة وجذب شركات الإنتاج السينمائي من أنحاء العالم كافة، ووصل الأمر إلى قيام الجيش الأردني بتوفير التسهيلات اللازمة في مواقع التصوير كما حدث مع الجزء التاسع من فيلم حرب النجوم الذي صوّرت مشاهد منه في منطقتي وادي رم والشاكرية عام 2019 كما يقول مخرجه جيفري أبرامز، فضلا عن برامج الإعفاء الضريبي التي تتمتع بها هذه الأفلام هناك.
المغرب أيضا له تجربة غنية في الاستثمار في هذا القطاع، فقد بلغت عائدات تصوير وإنتاج الشركات الأجنبية في المغرب في عام 2019 نحو 83 مليون دولار بارتفاع يقترب من 9% عن عام 2018، حسب المركز السينمائي المغربي. ويشمل هذا قائمة متنوعة وطويلة من الإنتاجات؛ منها الأفلام السينمائية الروائية والأفلام الوثائقية، والمسلسلات، والبرامج التلفزيونية، والإعلانات. والشركات الأجنبية التي تأتي إلى المغرب تمتد من الولايات المتحدة غربا، إلى اليابان شرقا، مرورا بشركات أوروبية متنوعة، فضلا عن البرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول.
هذه التجارب القليلة في العالم العربي تخبرنا أن صناعة السينما كغيرها من قطاعات الاستثمار تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد بعض التسهيلات المباشرة من الدولة، بل إلى رعاية وإشراف من أعلى المستويات في الحكومة وبناء مواقع واستديوهات بمواصفات خاصة. وذلك لأن المردود الاقتصادي كبير ويسهم بشكل رئيسي في الدخل القومي، وأيضا لأن تأثيره الإيجابي يمتد إلى قطاعات أخرى مثل السياحة والتبادل التجاري وصناعة الملابس والإكسسورات وغيرها.
الاقتصاد الثقافي
تستطيع الصناعة السينمائية الثقيلة، كأحد أوجه الاقتصاد الثقافي، أن تحل إحدى الإشكاليات الكبرى في مسألة دعم الفنون والإبداع أو تحويل الثقافة إلى منتج قابل للربح، وذلك عن طريق توفير فرص عمل واحتكاك للمواهب المحلية مع الخبرات العالمية من جهة، وتوفير مصادر دعم غير تقليدية للإنتاج السينمائي المحلي من جهة أخرى. فإحدى الأزمات التي يعانيها القطاع الثقافي بوجه عام في العالم العربي والسينمائي بوجه خاص هي أزمة التمويل والدعم، والأنظار كانت وما زالت تتجه نحو الدعم الحكومي لهذا القطاع. وقد كان هذا الدعم ممكنا في سنوات مضت لأسباب كثيرة منها ما هو أيديولوجي ومنها ما هو سياسي، لكن مع التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية المختلفة في العالم العربي، انحسر هذا الدعم، فتراجع دعم المواهب الثقافية والفنية في مختلف المجالات.
وبعيدا عن الفوائد الاقتصادية والإبداعية المباشرة، فإن الانخراط في الصناعة السينمائية الثقيلة في عالم اليوم لم يعد ترفا أو أمرا متروكا للمبادرات الفردية والقطاع الخاص لأن زخم الاستهلاك المحلي للمنتَج السينمائي العالمي قد زاد زيادة غير مسبوقة مع تزايد وتنوع منصات العرض الفيلمية مثل "نتفليكس" و"ديزني بلس" وغيرها. وأصبح هناك ما يشبه التسويق للثقافات المحلية عبر الأعمال السينمائية، وهو أمر محمود يعزز من حوار الحضارات والثقافات، لكنه يعزز من جهة أخرى الاغتراب والانعزال الثقافي والحضاري للشعوب التي لم تلحق بهذا الركب. ولا يشفع وصول فيلم هنا أو هناك إلى تصفيات جوائز الأوسكار أو مهرجان "كان" لأن هذه الجوائز على أهميتها هي إنجاز فردي في المقام الأول.
القلق المشروع الذي يبديه كثيرون من زيادة حجم إنتاج الأفلام التي تتعارض مع الثقافة والعادات المحلية يجب ألا يترجم في اتجاه مزيد من الانعزال والابتكار لسياسات الحجب والمنع، بل ينبغي أن يمتد إلى تطوير إستراتيجيات فنية تتعامل مع المستجدات الجديدة في هذه الصناعة عبر مزيد من الانخراط الإيجابي معها، وإيجاد حلول للتحدي الاقتصادي وهو الشماعة التي تعلّق عليها معظم أسباب الإخفاق في إحراز تقدم في هذه الصناعة.
قد يكون من المبكر الحديث عن إنتاج سينمائي عربي يستطيع أن يصنع ظاهرة مشاهدة عالمية على غرار صناعة الأفلام في الهند أو كوريا الجنوبية ولهذا حديث آخر، لكن من المفيد على الأقل تعميم تجارب الاستثمار الناجح في هذا القطاع قبل أن يفوتنا القطار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.