اخلعوا جلابيبكم الحزبية أمام ثوابت الوطن لتسعدوا شعب السودان

رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان أثناء إلقائه كلمة خلال تدريبات عسكرية بولاية نهر النيل (الصحافة السودانية)

فى ضوء دعوة سفير السودان لدى الولايات المتحدة نور الدين ساتي إلى ضرورة إصلاح العلاقة بين العسكر والمدنيين وإنهاء العداء بينهما، وعلى ضوء مقولة الراحل الشيخ محمد سيد حاج "خلافات السياسيين تشقى بها شعوبهم"، أوجه دعوتي أيضا إلى المكون المدني (بما فيه الحركات المسلحة) والمكون العسكري (خاصة المنتمي منه للمؤتمر الوطني): اخلعوا جلابيبكم الحزبية مؤقتا واتفقوا على ثوابت الوطن لتسعدوا شعب السودان المغلوب على أمره (مع احتفاظ كل منكم بتوجهه وكيانه الخاص في الأمور الأخرى التي تخص التنافس الحزبي الديمقراطي وممارسة العمل السياسي).

إليكم الدليل في إسعاد شعب السودان:

الدليل هو الأسلوب الفريد الذي انتهجه قادة اتحاد مزارعي جبال النوبة في السابق في توحيد أبناء جبال النوبة، بمختلف أعراقهم وتوجهاتهم السياسية، وتحقيق أهدافهم في مسيرة امتدت لما يقارب الثلاثين عاما. فما هو هذا الأسلوب الفريد؟

خلع الجلباب الحزبي من أجل المصلحة العامة

يقول السيد عبد الرحيم الماظ، أحد القادة المؤسسين لاتحاد مزارعي جبال النوبة، في مقابلة معه: "كان الاتحاد يضم في قيادته كافة الأحزاب السياسية، إلا أن رئيس الاتحاد المرحوم أحمد مالك كان يصر دائما على أن "يخلع كل عضو منهم جلبابه الحزبي خارج مبنى الاتحاد"، ويدخل إلى دار الاتحاد باعتباره مزارعا فقط (كأنه يدخل بعرّاقي وسروال المزارع) ويناقش قضية محددة هي قضية المزارعين". وبهذا الأسلوب ساد اتحاد مزارعي جبال النوبة وضعٌ مميز لم تظهر فيه الميول السياسية على الإطلاق، وأضحت هذه صفة مميزة لاتحاد مزارعي جبال النوبة.

الأسلوب الفريد الذي انتهجه قادة اتحاد مزارعي جبال النوبة هو: تقديم المصلحة الوطنية العامة على المصلحة الحزبية الضيقة

منجزاتهم بهذا الأسلوب:

قبل رفع سعر القطن، دخل الاتحاد قبل تسجيله عام 1956 -إبان الحكم الاستعماري- في إضراب عن بيع القطن حتى يتم رفع سعره، واستمر الإضراب لمدة ثلاثة أيام، تم بعده رفع أسعار القطن من 42 قرشا للقنطار إلى 320 قرشا، وسمى المزارعون تلك السنة "سنة خمي" للارتفاع الكبير والمفاجئ في الأسعار والربح الوفير الذي جنوه.

ومن المنجزات التي تحققت من ارتفاع أسعار القطن معرفة المزارعين حقوقهم، إذ تمكن الاتحاد من الدخول في شراكة مع الحكومة في أرباح القطن، وتنفيذ مشاريع التحديث الزارعي في فترة الخمسينيات، فضلاً عن مساهمة الاتحاد في دفع مسيرة مؤسسة جبال النوبة الزارعية.

أيضا من المنجزات، كما يقول الراحل الفاتح النور رائد الصحافة الإقليمية في السودان في كتابه عن جريدة كردفان بعنوان "كردفان خلف الأخبار والحوادث"، زيادة الوعي الاقتصادي بين المزارعين وتنامي وحدتهم، فكان انزعاج المفتش الإنجليزي من الاتحاد بسبب الوعي الاقتصادي الذي أوجده الاتحاد وسط المزارعين، إضافة إلى توحيده المزارعين حول قضية واحدة وكيان واحد، وهو عكس ما كان يقوم به المفتش الإنجليزي، إذ كان يتعامل مع مزارعي كل منطقة على حدة، وبالتالي أصبح تخوفه من تحول الأمر من وضع زارعي اقتصادي إلى وضع سياسي. لكل هذا سعى المفتش إلى تعطيل الاتحاد من القيام بهذا الدور، إلا أنه فشل في ذلك.

ومن المنجزات توحيد قضية المزارعين على مستوى السودان، وتأسيس اتحاد مزارعي السودان بناءً على اقتراح من المرحوم أحمد مالك، وكان ذلك بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964.

كذلك من المنجزات تأسيس الاتحاد العام للفلاحين العرب استجابة لفكرة من السيد أحمد مالك طرحها في لقاء مع جريدة الرأي العام في 1969، إذ أشار إلى ضرورة قيام اتحاد عام للمزارعين في الأقطار العربية والأفريقية. وقد تبنت تنظيمات المزارعين في العراق هذا المقترح، ووجهت دعوة مباشرة لأحمد مالك بكادقلي لزيارة العراق، وتمت الزيارة في العام نفسه، التي تم فيها الاتفاق على قيام تنظيمات مزارعين في كل دولة، وبعدها تم تكوين الاتحاد العام الفلاحين العرب.

بناء اللبنات الأولى للعلاقة الرسمية بين السودان والصين

يقول الراحل أحمد مالك في مذكراته: "في الفترة ما بين 1958-1965 بعد أن أعلن قيام الاتحاد العام لمزارعي السودان (الاتحاد الأول)، بادر اتحاد النقابات الصيني بدعوة الاتحاد العام لمزارعي السودان لأول مره في التاريخ لزيارة جمهورية الصين الشعبية. تمت الزيارة بوفد برئاستي وعضوية 5 آخرين، واستغرقت الزيارة 40 يوما".

وبانتهاج الاتحاد أسلوب "خلع الجلباب الحزبي" نخرج بعدة دروس منها:  

الشجاعة في المطالبة بالحقوق:

يقول الفاتح النور: "كانت منطقة جبال النوبة في عهد الاستعمار من المناطق المقفولة كجنوب السودان تماما! والرقابة على الأعمال النقابية شديدة ودقيقة، والعقوبة مجهولة، إلا أن اتحاد المزارعين ظل يعمل مناكفا لحكومة الاستعمار، متحدياً لها رغم الاعتقالات التي تمت بين قادته، ثم السجن والغرامات دون أن يتصدع".

المحافظة على وحدة السودان:

"ومما لا يعرفه الكثيرون.."، يقول الراحل الفاتح النور، "أن اتحاد مزارعي جبال النوبة كان له فضل عظيم في وحدة البلاد. فقد كان التخطيط الاستعماري ضم الجبال إلى الجنوب. ورسم كل شيء على تحقيق ذلك، ولكن بتكوين اتحاد المزارعين، ذلك الاتحاد الذي ربط مصالح المزارعين حتى جنوا ثماره نقداً يسيل بين أيديهم وخيرا ينمو في مجتمعهم ومودة صادقة تربط بينهم، فسد التخطيط تماما! وقد كانت آخر محاولة مكشوفة للاستعمار لتحقيق التفرقة بين الجبال والشمال قام بها مستر كرول آخر باشمفتش لجبال النوبة قبل استقلال السودان عندما عقد اجتماعا كبيراً لعلية القوم في منطقة "جبال الريكة" وحضره وأداره بنفسه.

وطلب من الحضور التخلي عن "اتحاد مزارعي جبال النوبة" لأنه "بتاع أولاد الجلابة"، وقال إنه مستعد لمساعدتهم بإنشاء اتحاد جديد للمزارعين يكون من أبناء النوبة (أهل البلد)! ولكن أحد أبناء النوبة (ضابط معاش) رد عليه وقال: (اتحاد المزارعين ما ضرانا بشيء بل زاد ثمن القطن وجمع كلمة المزارعين وحقق الأخوة بينهم، وكيف تدعونا الآن بعد أن حفرنا بئره ولمسنا بأيدينا إدارر الماء لنتركه ونحفر بئرا أخرى؟). وانفض الاجتماع بعد فشله وتوعّد مستر كرول بالانتقام، إلا أن انتفاضة الاستقلال سبقته".

مسامحة الخصوم ودعمهم:

يقول السيد الشيخ توتو، وهو أيضا أحد مؤسسي الاتحاد: "في العام 1979 تم اعتقال قيادة اتحاد مزارعي جبال النوبة بسبب وشاية من مسؤول كبير بمحافظة كادقلي كان ينازع في قيادة الاتحاد. وقد دام الاعتقال لمدة 63 يوما، بعدها تم الإفراج عن قيادة الاتحاد بعد أن تأكدت الجهات الأمنية من براءتهم مما وجه إليهم".

يضيف السيد توتو: "وعلى الرغم مما حدث، فإننا قمنا بعد ذلك بمسامحة من تسبب في اعتقالنا، بل وقفنا معهم في انتخابات الدوائر الجغرافية لمجلس الشعب التي جرت في تلك الفترة بمحافظة كادقلي حتى إن أحد مرشحيهم قال لي: (كيف تقفون معنا بعد الذي فعلناه بكم؟!!) فأوضحت له أننا يهمنا مصلحة المنطقة بصفة عامة".

أخيرا..

الدعوة موجهة للمكونين المدني والعسكري بتطبيق قاعدة "خلع الجلباب الحزبي أمام ثوابت الوطن".

وحيث إن ثوابت الوطن حاليا هي تثبيت الحكم الديمقراطي، وهو ما ثبت على المكون المدني سعيه له بعكس المكون العسكري، الذي ثبت بانقلابه الأخير، وقراراته بعده وخاصة ما يتعلق منها بلجنة إزالة التمكين وإعادة مفصولين للخدمة، أنه يسعى إلى إرجاع السلطة إلى النظام السابق المرتبط به، فإن هذه الدعوة توجّه بشكل خاص للمكون العسكري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.