هل ينجح بايدن في تحسين صورة أميركا؟
الولايات المتحدة أكثر دول العالم اهتماما بالصورة الذهنية، إذ تدرك أن هذه الصورة تشكل أهم مصادر القوة الناعمة، وقد تطورت دراسات الصورة الذهنية في الجامعات الأميركية، لكن ما سمات الصورة الأميركية في العالم؟ وكيف يمكن أن تؤثر هذه الصورة على مستقبل أميركا؟
لقد أوضح تقرير "مركز بيو للدراسات" (Pew Research Center) عام 2018 أن صورة الولايات المتحدة في العالم لم تكن إيجابية خلال فترة حكم ترامب، وأن الأغلبية في كثير من دول العالم تنظر للولايات المتحدة على أنها لا تراعي مصالح الدول الأخرى، ولا تعمل لحل المشكلات العالمية. وأضاف التقرير أن النظرة السلبية للولايات المتحدة أصبحت تنتشر داخل القارة الأوروبية إذ إن 52% من الأوربيين عبروا عن رفضهم لسياستها الخارجية.
من أهم الأفكار التي طرحت لتحسين صورة أميركا نشر الأفلام والمسلسلات الأميركية في العالم -خاصة في العالم الإسلامي- للتأثير على الرأي العام. ولقد تبنى البيت الأبيض هذه الفكرة ووفر كثيرا من الأموال لتمويل شركات صناعة المضمون والتسلية، ونجحت تلك الشركات في نشر الثقافة الشعبية الأميركية في العالم، وزيادة جاذبية الأفلام الأميركية التي ركزت على تقديم الشخصية الأميركية بصورة إيجابية.
ومنذ وصول ترامب للسلطة ساءت صورة الولايات المتحدة في أميركا الشمالية وفي آسيا، لكن كيف يمكن أن تسوء صورة الولايات المتحدة وهي تسيطر على النظام الإعلامي العالمي وتستخدمه في التأثير على وعي الشعوب؟ وهل يمكن أن يفتح ذلك المجال للتفكير في تأثير عوامل أخرى متعددة على عملية بناء الصورة الذهنية؟
استخدام صناعة التسلية
لقد بذلت الولايات المتحدة كل ما تستطيع منذ عام 2001 لتحسين صورتها في العالم، ولتحقيق ذلك قام صناع السينما والمضمون الدرامي والتسلية بعقد اجتماعات أشرف عليها كارل روف مساعد الرئيس بوش، لمناقشة كيفية استخدام صناعة التسلية في تحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج.
وكان من أهم الأفكار التي طرحت لتحسين صورة أميركا نشر الأفلام والمسلسلات الأميركية في العالم -خاصة في العالم الإسلامي- للتأثير على الرأي العام. ولقد تبنى البيت الأبيض هذه الفكرة ووفر كثيرا من الأموال لتمويل شركات صناعة المضمون والتسلية، ونجحت تلك الشركات في نشر الثقافة الشعبية الأميركية في العالم، وزيادة جاذبية الأفلام الأميركية التي ركزت على تقديم الشخصية الأميركية بصورة إيجابية.
بالرغم من كل ذلك، فإن تيم أرانجو كتب مقالا في "نيويورك تايمز" يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، قال فيه: "إن الشعبية الثقافية الأميركية لم تتم ترجمتها إلى أصدقاء"، واستند في ذلك إلى استطلاع رأي -أجراه مركز بيو- أوضح أن صورة الولايات المتحدة ما زالت سلبية في 24 دولة تم إجراء الاستطلاع فيها.
هذه الحملة القوية التي قامت بها الولايات المتحدة عقب 11 سبتمبر/أيلول 2001 لم تحقق سوى القليل من النجاح، لرغم ما يطلق عليه أرانجو "الشعبية الثقافية"، فلماذا لم تحقق الحملة هذه الأهداف المرجوة منها؟ وكيف يمكن أن تفشل حملة تستخدم كل التقدم التقني وعوامل الإبهار والأفكار الإبداعية في تحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية؟
أوباما يعمل للتحسين
بنى أوباما حملته الانتخابية بشكلٍ رئيسي على فكرة أنه سيعمل على تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم قائلا: إن هذه ليست أياما جيدة بالنسبة لسمعة الولايات المتحدة. لكن ما مدى نجاح أوباما في تحقيق هذا الهدف؟ أشار استطلاع أجرته جامعة ميريلاند إلى أن صورة الولايات المتحدة تحسنت بشكل قليل خلال فترة حكم أوباما، حيث توقع 46% من الذين شاركوا في الاستطلاع في 22 دولة أن أوباما سيقوم بتحسين علاقات أميركا بدول العالم.
وكان من الواضح أن الشعب الأميركي قد أدرك خطورة الصورة السلبية للولايات المتحدة في العالم، فانتخب أوباما بهدف تحسينها، حيث يمكن تقديم أوباما على أنه رجل سلام في مقابل بوش رجل الحرب، وأن أوباما -بلون بشرته- دليل على أن أميركا لا تقوم على سيطرة البيض، ولكنها مجتمع متنوع الأعراق، يمكن أن يجد كل فرد فيه فرصته حتى في الوصول إلى رئاسة الدولة.
ولقد كانت الفكرة جيدة، ويمكن أن تجذب الشعوب التي بدأت تنظر لأوباما بإعجاب، وتتناقل القصص عن اجتهاده، وقدرته على العمل لساعات طويلة، وحديثه المستمر عن السلام والديمقراطية.
لكن بعد وقت قليل، أدركت شعوب العالم أن أوباما لم يكن يحكم أميركا، وأنه مجرد صورة يتم تقديمها للعالم، في وقت تتحكم فيه المؤسسات -خاصة وزاراتي الخارجية والدفاع- في صنع السياسة الخارجية، وأن أوباما لم يستطع أن يغير شيئا في علاقات أميركا بدول العالم.
تأييد الدكتاتورية
دراسة صورة أميركا توضح أن أهم السمات التي أثارت إعجاب الشعوب هي الديمقراطية، فقد استغلت أميركا سقوط الاتحاد السوفياتي، وقدمت نفسها لدول أوروبا الشرقية على أنها تساند كفاحها لتحقيق الديمقراطية ، وبذلك نجحت في بناء صورة إيجابية لنفسها في تلك الدول التي كانت تتطلع لبناء مستقبلها على أساس الديمقراطية.
لكن أميركا لم تستطع أن تطور تلك السمة، أو تستخدمها لبناء صورتها في دول أخرى، فقد كان من الواضح أن أميركا أسهمت في إسقاط نظم حكم ديمقراطية منتخبة عندما رأت أن هذه النظم تعمل لكسر التبعية للولايات المتحدة الأميركية، وتعمل لتحقيق الاستقلال الشامل، وأن أميركا أيدت نظما عسكرية دكتاتورية وساندتها في انتهاك حقوق الإنسان، لأنها تعمل لتحقيق المصالح الأميركية، وتضمن أمن إسرائيل.
كانت هذه السمة واضحة حتى في عهد أوباما، ومن المؤكد أن تأييد أميركا للنظم الدكتاتورية العسكرية يؤدي إلى زيادة كراهية الشعوب وعدائها لأميركا، وأن صورة أميركا ستظل سلبية في أذهان شعوب ترى أن أميركا تشكل العقبة الرئيسية التي تمنع تحقيقها لأهدافها في الحرية والديمقراطية والاستقلال الشامل.
ولقد شهدت فترة رئاسة ترامب وضوح سمة التأييد الأميركي للدكتاتورية، وأنها تعمل لتحقيق مصالحها الخاصة، ولا تتمسك بمبادئها، وتعادي الديمقراطية إذا استخدمتها الشعوب لتحقيق استقلالها.
في مواجهة الآخر
اعتمدت الولايات المتحدة في تشكيل صورتها بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول على أن الآخر "الإسلامي" هو الذي يكرهنا، لأننا ديمقراطيون ورائعون ومتقدمون، وهذا الآخر إرهابي يريد أن يدمر الولايات المتحدة.
ونجحت تلك الصورة في دفع الشعب الأميركي إلى تأييد شن العدوان على أفغانستان والعراق، حيث ركزت صناعة التسلية الأميركية على سمات الأميركي المتحضر المتقدم في مواجهة المسلم المتخلف الإرهابي.
لكن تلك الصورة أدت إلى زيادة حدة الكراهية والعداء لأميركا، فالشعوب شاهدت الأميركي المتحضر وهو يرتكب المذابح في أفغانستان والعراق، ويدمر المدن ويخرب العمران.
إن الشعوب يمكن أن تتذكر جمال بغداد وحضارتها، وأدركت زيف الدعاية الأميركية عن أسلحة الدمار الشامل التي استخدمتها مبررا لتدمير حضارة بغداد وقتل أكثر من مليون عراقي.
ولكي نتعرف على تأثير صورة أميركا على بناء علاقاتها بدول العالم، يمكن أن نلاحظ بوضوح حالة الفرح في العالم الإسلامي بهزيمة أميركا في أفغانستان، والإعجاب بكفاح طالبان التي نجحت في تحقيق النصر وطرد الأميركيين.
لكن هل ينجح بايدن؟
هناك مؤشرات على أن الشعوب تعلق الآمال على بايدن في أن يعيد بناء علاقات أميركا بدول العالم طبقا للمبادئ والقيم الأميركية، وليس على أساس المصالح كما فعل ترامب .
وأسهم في ذلك قيام بايدن بسحب قواته من أفغانستان، وهذا القرار تؤيده أغلبية الأميركيين التي تشعر بأن أميركا فقدت آلاف الأرواح، وأنفقت تريليونات الدولارات بدون مبرر، وأن الحرب ضد أفغانستان والعراق كانت خطأ.
وفكرة تصحيح أخطاء أميركا يمكن أن تنتقل من الشعب الأميركي إلى الشعوب الأخرى التي تتطلع إلى أن يصححها بايدن، خاصة في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن أهم تلك الأخطاء التي أدت إلى تشويه صورة أميركا تأييدها للنظم الدكتاتورية، ومنع الشعوب من تحقيق الديمقراطية. وحتى الآن يمكن أن نلاحظ تحسنا في صورة أميركا منذ وصول بايدن للحكم في 14 دولة منها ألمانيا والمكسيك.
لكن بدأت آمال بعض الشعوب في بايدن تتحطم، فحتى الآن ما زال بايدن يتعامل مع النظم الدكتاتورية بالأساليب نفسها التي استخدمها ترامب، ولم يقم بايدن بجهد يذكر في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم يعلن تأييده لحقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية.
لقد ورِث بايدن صورة سلبية لأميركا، من أهم سماتها أن أميركا دولة لا تتمسك بالمبادئ والقيم، وأنها تحرص فقط على تحقيق مصالحها، وأنها من أجل ضمان أمن إسرائيل وهيمنتها على الشرق الأوسط تتخلى عن كل المبادئ والقيم الإنسانية وتضطهد الشعوب. فهل يستطيع بايدن أن يغير تلك الصورة، ويثبت أنه يستطيع الدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب؟
ولكي يستطيع بايدن أن يفعل ذلك، يجب أن يدرك أن شعار "أميركا أولا" الذي رفعه ترامب لا يمكن أن يحسن صورة أميركا، فهو يشير إلى الأنانية والجشع والتخلي عن المبادئ من أجل تحقيق المصالح، واستخدام القوة الصلبة في مواجهة شعوب تسعى للتحرر من الهيمنة الأميركية.
بدلا من سياسة الصقور
من أهم التفسيرات لتحسن صورة الولايات المتحدة في بعض الدول الأوربية أن أوروبا تكره سياسة الصقور التي تميز بها ترامب، وأن بايدن سيعتمد على الدبلوماسية في بناء علاقات أميركا بدول العالم بدلا من استخدام القوة الصلبة، وأنه سيضع نهاية لفكرة "أميركا أولا"، وسوف يبني سياسة تعاونية موالية للديمقراطية.
يقول ستورر رالي: إن أهم التحديات التي يواجهها بايدن تحسين صورة أميركا، وأن أهم فكرة يمكن أن يستخدمها لتحقيق هذا الهدف هي أن الديمقراطية الأميركية تعرضت للعدوان لكنها تمكنت من التغلب عليه والخروج منه أقوى، وهو يشير بذلك إلى الاعتداء على الكونغرس الأميركي.
ويبدو أن اقتراح رالي جيد لكن إذا كانت أميركا نجحت في إنقاذ ديمقراطيتها، وهذا يشكل أهم سمات صورتها الجديدة فإن أميركا يمكن أن تحسن صورتها في الخارج بإثبات احترامها لحق الشعوب في الديمقراطية، وكفاح هذه الشعوب لمواجهة العدوان على ديمقراطيتها.
فالدولة التي يمكن أن تفخر بنجاحها في الدفاع عن ديمقراطيتها ضد اعتداء البلطجية على الكونغرس، لا يجوز لها أن تدعم البلطجة التي تمثلت في انتهاك حقوق الشعوب الأخرى في الديمقراطية، واختيار النظام الذي يعبر عن آمالها في الحرية والديمقراطية، ويقود كفاحها لتحقيق الاستقلال الشامل، وكسر الهيمنة الأميركية.
ولكي ينجح بايدن في بناء صورة إيجابية لأميركا، يجب أن يعيد تقييم علاقاتها الخارجية بدول العالم، وإعادة بناء هذه العلاقات على أساس احترام حقوق الشعوب في الاستقلال والحرية والديمقراطية والعدالة، وأن يدافع عن الديمقراطية في كل دول العالم ، وليس في أميركا فقط. فهل يمكن أن ينجح بايدن؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.