السودان.. "فرصة غير مكلفة" لتجميل وجه بايدن

تمثل السودان منطقة رمادية في تصنيف الدول طبقا لعلاقتها مع الولايات المتحدة، فلا هي دولة حليفة ذات أهمية إستراتيجية كما الحال مع المملكة العربية السعودية أو مصر، ولا هي دولة يجمعها عداء مع واشنطن مثل سوريا أو إيران.
وخلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إن أمام العالم خيارين؛ إما التحلي بالقيم الديمقراطية التي يتبناها الغرب، أو تجاهلها لصالح الحكومات الاستبدادية، مؤكدا أن بلاده تتجه نحو حقبة جديدة من الدبلوماسية الدؤوبة لدعم قضايا الحريات وحقوق الإنسان حول العالم.
وقبل ذلك وخلافا لنهج سلفه دونالد ترامب، أكد بايدن -في حملته الانتخابية وفي خطاب تنصيبه قبل 10 أشهر- أن ملفات حقوق الإنسان ودعم عملية الانتقال الديمقراطي حول العالم ستصبح محور السياسة الخارجية لإدارته.
وبعد انقلاب الجيش السوداني على العملية السياسية في بلاده واعتقاله لقادة الحكومة المدنية الانتقالية، وبدء العمل بقانون الطوارئ، لم يتحدث الرئيس الأميركي جو بايدن ولا وزير خارجيته توني بلينكن ولا مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان على الهواء حول الانقلاب، ولم يوجه الرئيس حديثا للأمة الأميركية أو للشعب السوداني، كما كان الحال قبل 8 سنوات عندما ظهر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بعد ساعات متحدثا على الهواء مباشرة عن الوضع في مصر يوم الثالث من يوليو/تموز 2013 عقب انقلاب الجيش المصري على العملية الديمقراطية.
السودان لواشنطن ليس كمصر وليس كالمملكة العربية السعودية من حيث الأهمية الإستراتيجية الخادمة لمصالح الولايات المتحدة الواسعة. والسودان لا تجمعه علاقات عسكرية قوية بالبنتاغون، ولا يشتري أسلحة أميركية بمليارات الدولارات سنويا، ولا يوجد تبادل تجاري ذو شأن بين السودان والولايات المتحدة، ولا ترتبط النخبة العسكرية أو المدنية السودانية بواشنطن.
واستغرق الأمر 5 أيام كاملة كي يخرج بيان رئاسي من البيت الأبيض يدعو فيه بايدن إلى إعادة الحكومة بقيادة المدنيين في السودان. وقال بايدن -في بيانه- "يجب السماح للشعب السوداني بالاحتجاج السلمي وإعادة الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية"، داعيا الجيش إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين وإعادة مؤسسات الحكومة الانتقالية السودانية. وأكد بايدن أن "أحداث الأيام الأخيرة هي نكسة خطيرة، لكن الولايات المتحدة ستواصل الوقوف إلى جانب شعب السودان ونضاله السلمي لدفع أهداف ثورة السودان".
ويشير تعامل إدارة بايدن مع المستجدات في السودان إلى تراجع ومحدودية أهمية السودان في سلم أولويات المصالح الأميركية في المنطق، إلا أن السودان كذلك يوفر فرصة جيدة لإدارة بايدن لإظهار دعمها للتحول الديمقراطي في الوقت ذاته.
فالسودان بعيد كل البعد عن الأولوية الجيوستراتيجية لواشنطن، ولا يعني إخفاق عملية الانتقال الديمقراطي هناك الكثير لمصالحها المهمة، ومن هنا يمكن لبايدن فرض عقوبات قاسية، وحظر دخول لقادته العسكريين للأراضي الأميركية ووقف المساعدات للسودان في كل أشكالها، وعرقلة ومنع تعامل صندوق النقد والبنك الدوليين مع الخرطوم.
والسودان لواشنطن ليس كمصر وليس كالمملكة العربية السعودية من حيث الأهمية الإستراتيجية الخادمة لمصالح الولايات المتحدة الواسعة. والسودان لا تجمعه علاقات عسكرية قوية بالبنتاغون، ولا يشتري أسلحة أميركية بمليارات الدولارات سنويا، ولا يوجد تبادل تجاري ذو شأن بين السودان والولايات المتحدة، ولا ترتبط النخبة العسكرية أو المدنية السودانية بواشنطن. ولا تتمتع الجالية السودانية داخل الولايات المتحدة بثقل انتخابي أو وزن اقتصادي ومالي كبير ليكترث بها صانعو القرار في واشطن. ولا يعرف عن النظم السودانية المتعاقبة الاستعانة بشركات اللوبي والعلاقات العامة للتواصل والتأثير على صانعي القرار في واشنطن كغيرها من الدول غير الديمقراطية التي لا تترد في إنفاق ملايين الدولارات لتلميع صورتها داخل دوائر ومراكز القوة في واشنطن.
ولم تفرض إدارة بايدن عقوبات جادة على دول حليفة منتهكة لحقوق الإنسان مثل مصر والسعودية؛ لأن لذلك البديل تكلفة سياسية كبيرة. والعلاقات الأميركية مع الرياض وواشنطن شديدة التعقيد، وفي أحد جوانبها في الحالة المصرية تلعب إسرائيل دورا كبيرا في ضبط رؤية أميركا لسياساتها تجاه القاهرة بالأساس، وفي الحالة السعودية لا تتجاهل واشنطن دور ومكانة الرياض الدينية لأكثر من مليار مسلم حول العالم، ناهيك عن دورها المحوري في تسعير البترول في السوق العالمية.
من هنا لا تتردد إدارة بايدن في توجيه الانتقادات والعتاب إلى حلفائها بسبب سجلات حقوق الإنسان وغياب الممارسات الديمقراطية، لكن بايدن لا يقترب من التفكير في فرض عقوبات أو تحديد العلاقات مع مصر أو السعودية.
فبايدن وكبار مساعديه هم أبناء المدرسة الواقعية في إدارة السياسة الخارجية الأميركية التي تنتصر في النهاية لمصالحها ولو على حساب قيمها ومبادئها.
وفي الوقت ذاته، تستطيع الإدارة الأميركية الإقدام على عكس ذلك في الحالة السودانية، ويمكنها أن تنتصر للقيم والمبادئ على حساب ما يجمعها من مصالح بسيطة مع الخرطوم. وسبق أن ناصبت واشنطن نظام عمر البشير العداء لأكثر من 3 عقود، فقد صنفت الولايات المتحدة السودان دولة راعية للإرهاب عام 1993، وفرضت الكثير من العقوبات التجارية والاقتصادية مرتين عامي 1997 و2006، وخفضت مستوى العلاقات الدبلوماسية، ورفض المسؤولون الأميركيون الاجتماع مع البشير لأكثر من عقد من الزمان، وعزلت واشنطن السودان فعليا عن العالم الغربي. ولن تكلف واشنطن كثيرا العودةُ لنمط المقاطعة وفرض العقوبات كما فعلت لعقود مع النظام السوداني السابق.
لقد أخفقت الأجندة الديمقراطية للرئيس الأميركي جو بايدن بشكل واضح خاصة في منطقة الشرق الأوسط، ففي الوقت الذي تعهد فيه بايدن خلال حملته الانتخابية بالاختلاف عن سلفه الرئيس دونالد ترامب في الاحتفاظ بعلاقات خاصة ومميزة مع دول تقمع شعوبها ولا تكترث بسجلات حقوق الإنسان؛ دفعت مصالح واشنطن ببايدن وإدارته للحفاظ على خصوصية علاقاتها مع دول منتهكة لحقوق الإنسان ولا تتبع أي معايير ديمقراطية حديثة متعارف عليها.
وقبل استضافة بايدن يومي التاسع والعاشر من ديسمبر/كانون الأول المقبل قمةً افتراضية من أجل الديمقراطية سيُدعى إليها رؤساء دول وحكومات ديمقراطية وأعضاء المجتمع المدني -على أمل أن يحسن صورة بلاده بعدما أظهر الرئيس السابق دونالد ترامب تجاهلا كبيرا لقضايا حقوق الإنسان والحريات حول العال- قد تمثل الحالة السودانية للرئيس الأميركي وسيلة يستخدمها لتجديد ادعائه الانتصار للقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان حول العالم.