حيل إنقاذ الرواية المغرضة

قراءة رواية "أمريكانا" للروائية النيجيرية تشيمامندا نغوزي أديتشي (الجزيرة)

حين تتكئ الرواية على خطاب سردي رنّان وثقيل الحضور أو تنطلق منه بحيث يبدو الغرض الذي جاءت من أجله الكتابة شديد الأهمية؛ تتزايد احتمالات سقوط العمل في فخاخ التقريرية والمقالية أو الفتور والإملال في أحسن الظروف. وهنا تكبر الحاجة للوعي بالحِيل اللازمة لإنقاذ الرواية من الفشل مع احتفاظها بخطابها.

الحديث هنا عن الخطاب عالي النبرة، وإلا فإن لكل رواية خطابها مهما بدا خافتًا أومستترًا، حتى تلك التي يزعم أصحابها ألا رسالة تستبطن أعمالهم، لأن غياب الرسالة هو في حد ذاته رسالة بطريقة من الطرق.

موضوع مثل الهجرة لم يحضر في صورته المألوفة التي تمتلئ بها نشرات الأخبار من عبور وتسلل الحدود للنجاة من حروب ومجاعات، وإنما كان أبطاله أناسا من طبقة متوسطة، لم تكن بلدانهم جيدة بما يكفي فاستخرجوا تأشيرة وغادروا لتبدأ معاناتهم الحقيقية بعد الوصول.

خطر ببالي هذا الأمر بمجرد أن فرغت من قراءة رواية "أمريكانا" للروائية النيجيرية ذائعة الصيت تشيمامندا نغوزي أديتشي، التي صدرت نسختها العربية مؤخرًا عن دار روايات في نحو 560 صفحة بترجمة السورية بثينة الإبراهيم.

تنطلق تشيمامندا في كل أعمالها -حسب ظني- من خطاب سردي شديد الوضوح والوطأة، غير أنها تمتلك في المقابل مهارة نافذة وحيلا متعددة لتنقذ نصوصها من الفشل، كما هي الحال في رواية "أمريكانا" المحتشدة بقضايا وهواجس فاقعة مجلوبة من عوالم السياسة والاقتصاد والتاريخ والثقافة، كمشكلة الهجرة والعنصرية وفساد الطبقة الحاكمة وعلاقة الشمال بالجنوب والفقر والنسوية إلى آخر ما تناوله العمل من مواضيع بتفاوت في الاهتمام والمساحة.

أولى تلك الحِيل التي أذابت "القضايا" في نهر السرد تكثيف الحالة الإنسانية، والحديث عن الفرد وعن تفاصيله الصغيرة بدل استدعاء الحشود. فموضوع مثل الهجرة لم يحضر في صورته المألوفة التي تمتلئ بها نشرات الأخبار من عبور وتسلل للحدود للنجاة من حروب ومجاعات، وإنما كان أبطاله أناسا من طبقة متوسطة، لم تكن بلدانهم جيدة بما يكفي فاستخرجوا تأشيرة وغادروا لتبدأ معاناتهم الحقيقية بعد الوصول. وهي معاناة خفيضة الصوت لا تلفت انتباه المارة من حولهم، لكنها كانت كفيلة بإعادتهم إلى نقطة الصفر روحيًّا وماديا. نقترب هنا من مأساة العيش في بلاد الآخرين مع ما يتطلبه ذلك من طأطأة للرأس والطموح وحتى الغضب.

في قضية العنصرية ضد السود، ولأن الروائية كانت بحاجة للذهاب أبعد وتسمية الأشياء بمسمياتها، فقد لجأت إلى حيلة المدونة التي تملكها الشخصية الرئيسية، التي ترصد حال السود في أميركا. هذا الأمر جعل كل الكلام المباشر والأحكام والإحصاءات مقبولة ومتضمنة في جسد السرد طالما أنها ترد في المدونة وبالتالي هي جزء من القصة وليست أمرًا نافرًا عنه. هنا كان من الضروري لتنجح الحيلة أن تبدو المدونة حقيقية بكل تفاصيلها، وهو ما برعت فيه تشيمامندا؛ حتى أن القارئ كان يجد أمامه سطرًا يطلب منه النقر على الرابط أعلى الصفحة، إضافة إلى لغة التدوين المحتفظة بمسافة عن لغة السرد السائدة.

ولأن الموضوع لا يصح تناوله والحكم عليه من خلال وجهة نظر قاصرة فقد اختارت الروائية شخوصها بعناية، حيث تحضر فئات متعددة من المجتمع الواحد. هذه الحيلة كانت ستفشل لو بدا ذلك الحضور غير طبيعي أو متكلّف، أو لو افتقدت الشخصيات لأصواتها الخاصة في سبيل تمرير أفكار الكاتبة. كما كانت تشيمامندا منتبهة حين ترد جمل مصقولة وحكيمة على لسان إحدى الشخصيات، فتسارع لإتباعها بتهكم يُعيدها إلى مسار السرد، بل ويجعلها تُضيف إليه بدل الخصم منه في حالتها منفردة.

وأعلتْ الروائية من مكانة قصة الحب على طول العمل ليرطّب ويخفّف حدة "القضايا" المتناولة. هذا الإعلاء لم يكن من حيث المساحة وحسب، بل شمل الأسلوب؛ فقصة الحب لم تكن مبتذلة بحيث تصبح عبئا على النص، وإنما علت تفاصيلها طبقة رقيقة من الارتباك والحيرة وحتى الضجر وسمت سلوك الشخصيات تجاه بعضها البعض فكانت تستحق التوقف عندها تفكيرًا وشعورًا بحيث يغادر القارئ فعلا تلك المنطقة الثقيلة المرتبطة بالخطاب السردي، رغم كون قصة الحب على هامش السرد وليست في قلبه.

وكان ملفتًا لجوء تشيمامندا إلى "إكسسوارات" سردية لطيفة إذا صحّ الوصف، فطوال النص تحضر على سبيل المثال تسريحة الشعر التي تختصر العِرق وتدلّ عليه، فالشعر الأجعد القصير حين تسعى صاحبته بكل الطرق لجعله يبدو مملّسا يشرح كثيرا من العقد والالتباس بقليل من الكلمات.

ثمة حيلة أخرى قد تكون الروائية لجأت إليها، لكنني احترت في مدى جدواها؛ إذ لا علاقة مباشرة لها بالسرد بمثل تعلّقها بحسابات أخرى، فبقدر ما كانت تشيمامندا جريئة في موضوعها حين ذكرت رؤساء ومسؤولين في سياقات هجائية، فقد خفّف من ذلك انتقادها للجميع، فالكل مدان؛ الأميركي الأبيض والأسود، والمسؤول في الشمال ونظيره في الجنوب، والفقراء بقدر الأغنياء. صحيح أنها فعلت ذلك بذكاء، لكنه فعل قد يرى فيه البعض إمساك بالعصا من منتصفها، وتلطيف للطريقة التي قد يستقبل بها القارئ العمل في أكثر من مكان في الآن نفسه.

كل تلك الحِيل وغيرها تجري بالتواطؤ مع القارئ الذي يقبلها ما دامت محكمة ومقنعة. الأمر يُشبه حركة الممثلين على المسرح، بقدر ما نعرف أنهم يؤدون أدوارا بقدر ما نغض الطرف عن ذلك ونستمتع بالأداء الرفيع.

أخيراً من المهم الإشادة بتوجه دار روايات لترجمة الأدب الأفريقي، وقد توالت إصداراتها المهمة في هذا الصدد مؤخرًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.