إقليم كردستان العراق ودوامة العنف القادمة
يعتبر النفط أهم مصدر للطاقة في العالم وشريان الحياة للدول الصناعية منذ منتصف الخمسينيات من القرن العشرین لكونه الركيزة الأساسية والمكون الأساسي لتشغيل المصانع والمعامل في المجتمع المعاصر، ويتم استخدامه في وسائل نقل الأفراد والسلع في جميع أنحاء العالم. وقد عرض موقع استعراض سكان العالم بيانات إنتاج النفط على مستوى العالم للعام 2021، حيث تربعت الولايات المتحدة الأميركية على صدارة الترتيب بوصفها أكبر الدول النفطية إنتاجا، وتلتها في المراتب العشر الأوائل كل من السعودية وروسيا والعراق وكندا والصين والإمارات والكويت والبرازيل وإيران على التوالي من القائمة التي تضمنت 88 دولة (1).
وبحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية التي تعتبر الوكالة الرئيسية التابعة للنظام الإحصائي الاتحادي للولايات المتحدة الأميركية، فإن العراق يعرف حاليا بـ"العراق الفدرالي وحكومة إقليم كردستان" والذي يأتي بعد المملكة العربية السعودية كأكبر منتج للنفط الخام في منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" (OPEC)، لكونه يمتلك خامس أكبر احتياطي للنفط الخام المثبت في العالم عند 145 مليار برميل نفط، وهو ما تمثل 17% على مستوى الشرق الأوسط و8% على مستوى العالم (2).
شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة توترات وحروبا وصراعات داخلية وإقليمية ودولية تحت عناوين مختلفة سواء محاربة الإرهاب أو تطبيق الديمقراطية أو انتهاك السيادة أو تطبيق الشرعية أو حقوق الإنسان أو غيرها الكثير، إلا أن جلّها في الحقيقة هي حجج أو خطط معدة مسبقا من قبل مجموعات أو قوى خفية لخلق مشاكل أو أزمات مفتعلة في المنطقة
وقد شهد العقد الأخير زيادة إنتاجية للعراق من النفط الخام ليبلغ المتوسط 4.4 ملايين برميل يوميا (للعراق الفدرالي وإقليم كردستان)، وكانت عائدات العراق من تصدير النفط الخام تشكل حوالي 90% من إجمالي إيرادات الدولة، حسب تقارير صندوق النقد الدولي، وبذلك فإن أي انخفاض في أسعار النفط العالمية يؤدي إلى انخفاض عائدات العراق من العملة الصعبة نتيجة انخفاض إنتاج النفط وفقا لاتفاقية "أوبك بلس" بفعل عاملين:
الأول: انخفاض السعر، والآن خفض إنتاج البترول لتحسين أسعار النفط في الأسواق والذي انعكس سلبا على اقتصاد العراق. وبناءً على آفاق الطاقة في المدى القصير "إس تي إي أو" (STEO) التي تقدم تنبؤات فصلية، فإن إدارة معلومات الطاقة الأميركية تتوقع زيادة إيرادات أوبك بشكل كبير في العام 2021 نتيجة زيادة إنتاج أوبك تماشيا مع انتعاش الطلب العالمي وارتفاع أسعار النفط الخام بعد اكتشاف لقاح كورونا (3).
وفقًا للإحصائيات الموجودة في موقع منظمة أوبك، فإن 79.4% من احتياطات النفط المؤكدة في العالم هي من نصيب الدول الأعضاء في أوبك، وأن 64.5% من هذه الاحتياطات في الشرق الأوسط لكل من السعودية وايران والعراق والكويت والإمارات (4)، في حين أن ما يقارب 2% من احتياطات النفط المؤكدة في العالم هي من نصيب دول نفطية أخرى في الشرق الأوسط كالبحرين وعمان وقطر، وليس لديها صفة عضوية في منظمة أوبك.
وليس بغريب أن تكون معظم التدخلات العسكرية والسياسية، وعدم توفر السلم الأهلي، والتوتر الأمني المستمر والحروب الإقليمية والدولية تتمركز في منطقة الشرق الأوسط للصراع على النفط والسيطرة على منابع الطاقة لتمركز ثلثي احتياطات النفط العالمي فيها.
الثاني: شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة بين الحين والآخر توترات وحروبا وصراعات داخلية وإقليمية ودولية تحت عناوين مختلفة سواء محاربة الإرهاب أو تطبيق الديمقراطية أو انتهاك السيادة أو تطبيق الشرعية أو حقوق الإنسان وغيرها الكثير، إلا أن جلها في الحقيقية هي حجج أو خطط معدة مسبقا من قبل مجموعات أو قوى خفية لخلق مشاكل أو أزمات حقيقية مفتعلة في منطقة الشرق الأوسط سواء في نطاق الدولة الواحدة أو أكثر أو المنطقة برمتها. حيث يلاحظ أن أغلب هذه المشاكل تكون قبل وبعد فترة قصيرة من وصول أسعار النفط إلى الذروة أو مجرد التنبؤ بارتفاع الأسعار، وهذا ما يبدو واضحا للعيان عند دراسة واقع الأحداث عند تسقيط السلاسل الزمنية التاريخية لأسعار النفط في الأشكال البيانية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
والتساؤل الكبير هو هل يمكن القول بأن ارتفاع أسعار النفط إلى مستوى قريب من مئة دولار أو أكثر للبرميل الواحد هو مؤشر على البدء بأحداث غير مرغوبة في منطقة الشرق الأوسط كالتوترات والحروب والتدخلات العسكرية وانتهاك سيادة الدول وظهور الجماعات المتطرفة والإرهاب والصراعات الداخلية الطائفية أو العرقية أو القومية؟ فالأمثلة كثيرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر (5):
- الغزو العراقي للكويت (الثاني من أغسطس/آب 1990) والبدء بعملية عاصفة الصحراء (16 يناير/كانون الثاني 1991): قبل الغزو كان سعر برميل النفط 16 دولارا في يونيو/حزيران 1990، وأصبح 40 دولارا في سبتمبر/أيلول 1990، بنسبة ارتفاع 40%.
- عملية ثعلب الصحراء (16 يناير/كانون الأول 1998): قبل العملية كان سعر برميل النفط 21 دولارا في أكتوبر/تشرين الأول 1997، وأصبح 10 دولارات في نوفمبر/تشرين الثاني 1998، وبنسبة انخفاض 48%.
- انهيار مركز التجارة العالمي (11 سبتمبر/أيلول 2001): قبل انهيار المركز كان سعر برميل النفط 32 دولارا في نوفمبر/تشرين الثاني 2000، وأصبح 19 دولارا في نوفمبر/تشرين الثاني 2001 وبنسبة انخفاض (59%).
- الأزمة المالية (26 سبتمبر/أيلول 2008): قبل الأزمة كان سعر برميل النفط 139 دولارا في يونيو/حزيران 2008، وأصبح 41 دولارا في يناير/كانون الثاني 2009، وبنسبة انخفاض 30%.
- إعلان "الخلافة الإسلامية" (داعش) يوم 29 يونيو/حزيران 2014: قبل "الخلافة" كان سعر برميل النفط 105 دولارات في يونيو/حزيران 2014، وأصبح 48 دولارا في يوليو/تموز 2015، وبنسبة انخفاض 46%.
- ظهور فيروس كورونا في 31 ديسمبر/كانون الأول 2019: قبل كورونا كان سعر برميل النفط 62 دولارا في أبريل/نيسان 2019، وأصبح 18 دولارا في أبريل/نيسان 2020، وبنسبة انخفاض 29%.
هناك العديد من المعادلات والحسابات الأخرى كالربيع العربي، وعاصفة الحزم ضد اليمن، وتدخل تركيا وإيران في كل من العراق وسوريا، وحرب الأسعار بين روسيا والسعودية وغيرها، ما هي إلا عوامل مساعدة لتهيئة البيئة أو الحاضنة التي تسرع من وقوع الأحداث، وعادة تعد الدول المستهلكة للنفط هي الجهة الوحيدة المستفيدة من الانخفاض الحاصل في أسعار النفط بعد وقوع الأحداث مباشرة، وهذا ما يوثق عند تحليل السلاسل التاريخية لأسعار النفط قبل وبعد هذه الأحداث في منطقة الشرق الأوسط والعالم للفترة من 1990 إلى 2020، ولذلك فإن الأمثلة السابقة خير دليل على أن التحكم في منابع النفط لا يتم إلا بإثارة الصراعات والمشاكل في منطقة الشرق الأوسط.
لو افترضنا أن المعادلة تتكون من جانبين، الأول هو المؤثر (النفط) الذي يتم التأثير عليه من قبل الجانب الثاني المتمثل في العوامل والمتغيرات المفتعلة والمخططة لخلق التوترات والصراعات والحروب، فإن من المتوقع أن تبدأ موجة أو دوامة جديدة للعنف والتوترات، لأن أسعار النفط حاليا (أكتوبر/تشرين الأول 2021) قد تجاوزت حاجز المستوى المقبول (85 دولارا) لتحقيق التوازن في السوق (6)، وقد توقع وزير النفط العراقي بلوغ سعر البرميل حاجز 100 دولار لانخفاض المخزون العالمي وقدوم فصل الشتاء في نهاية العام 2021.
كما هو معلوم فإن إقليم كردستان قد دخل الخارطة النفطية العالمية سواء في حسابات أوبك أو إدارة معلومات الطاقة الأميركية، ولو افترضنا صحة ما يشاع من قبل الكثيرين بأن الإنتاج النفطي للإقليم قد تجاوز المليون برميل يوميا (7)، وتعاملنا مع الإقليم كدولة في الخارطة النفطية لجاء في ترتيب الـ21 من مجموع 88 دولة حسب قائمة بيانات إنتاج النفط على مستوى العالم للعام 2021، حسب موقع استعراض سكان العالم، وبذلك سيتقدم على الكثير من الدول منها -على سبيل المثال لا الحصر- سلطنة عمان وفنزويلا وأذربيجان وماليزها وغيرها (8). وكذلك استطاع الإقليم أن يكون له مستوى مخاطر أمنية متوسط، وهي ميزة تجاه دولة العراق الفدرالي التي وقعت في مستوى مخاطر سياسية عالية وعالية جدا في العام 2021، حسب تقرير مؤسسة رقابة المخاطر (Control risk) المتخصصة في تقييم المخاطر بوضع خريطة العالم للمخاطر السياسية والأمنية.
وازدادت حساسية الإقليم بعد اتفاق المركز مع الإقليم على تحديد سقف لإنتاج الإقليم في حدود 450 ألف برميل يوميا باعتبار أي زيادة ستؤثر على حصة العراق في تحالف أوبك بلس باعتبار حجم التصدير بلغ 4.5 ملايين برميل يوميا وحجم التصدير المخطط للعراق هو 3.88 ملايين فقط، وبذلك دخل الإقليم إلى المعادلات النفطية ضمن محور أوبك في مسألة زيادة أو تخفيض الإنتاج وتصديرها من أجل التحكم في الأسعار وضمان استقرارها وتجنب هبوطها الحاد.
ولهذا فإن إقليم كردستان على الرغم من أنه ما زالت له خصوصيته وليس بمثابة دولة مستقلة، فإنه أصبح جزءا يؤخذ بنظر الاعتبار في السياسات الدولية والإقليمية في المدى القصير والبعيد من قبل الدول المنتجة أو المستهلكة للنفط. وتعتبر تجربة الإقليم في دخوله وتحالفه مع المجتمع الدولي في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أول علامة على أن الإقليم لن يكن بعيدا عن الصراعات المستقبلية القادمة في الشرق الأوسط.
وفي الختام، فإن الحفاظ على ميزة الاستقرار السياسي والأمني في الإقليم، ودخوله إلى سوق النفط العالمي، يستوجبان توسيع الأفق لدى متخذي القرار فيه، وأن يكون لديهم تفكير إستراتيجي وبعدُ نظر وإدراك للمعادلات والحسابات الإقليمية والدولية لاستبعاد الإقليم من أي دوامة عنف قادمة إلى منطقة الشرق الأوسط بعد تجاوز سعر النفط المستوى المسموح، وذلك عن طريق البدء بالحوار الجدي لتقليل الخلافات التي بدأت بين بغداد وأربيل حول إدارة الثروة النفطية منذ العام 2013 لقيام الأخير بتصدير النفط بشكل منفرد وسط معارضة المركز، وكذلك تخفيف العبء على كاهل المواطنين في الإقليم نتيجة ارتفاع أسعار السلع والخدمات نتيجة انخفاض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار وزيادة الضرائب والرسوم عليهم لمواجهة الأزمة المالية التي تعاني منها حكومة الإقليم، وكلها عوامل تدخل في خانة تجنب جعل الإقليم حاضنة لدوامة العنف القادمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.