لماذا تختفي شبه جزيرة قطر من الخرائط التاريخية؟

قطر فعليا هي "هبة البحر" فهي واحة بمياه عذبة ولكن ليس وسط الصحراء كما هو معهود إنما وسط البحر (الجزيرة)

توصف مصر بأنها "هبة النيل"، ويمكننا أن نصف قطر بأنها فعليا "هبة البحر"، فهي واحة بمياه عذبة ولكن ليس وسط الصحراء كما هو معهود إنما وسط البحر، فمن البحر نشأت وتشكلت جيولوجيا وجغرافيا بإيقاع متسارع يعكس التغيرات المناخية والجيوفيزيائية التي جعلت من سواحلها هوية بيئية مميزة شكلت تاريخ ساكني شبه جزيرة قطر على مدار عصور بين الزراعة تارة والصيد تارة أخرى.

وفهم سكان شبه الجزيرة التغيرات الفريدة من حولهم وتكيفوا معها فكان لتأقلمهم مع طبيعتها الدائمة التغيير أثره في تكوين شخصيات قادرة على التحدي وسرعة التأقلم.

مفارقة الخريطة

في أوائل عام 2018 عرض متحف "لوفر أبو ظبي" خلال افتتاحه خريطة تاريخية للخليج العربي كانت شبه جزيرة قطر غائبة فيها، وأثار ذلك موجة بين السخرية والاستياء وردود فعل سلبية في بلدان عديدة اضطر المتحف بعدها لاستبدال الخريطة وتعويضها بخريطة أخرى تبرز دولة قطر حفاظا على مصداقيته الأدبية لرواده من شتى أنحاء العالم في باريس.

لكن الحقيقة أن ما غاب عن تلك الخريطة ليس شبه جزيرة قطر، وإنما هو الفهم العلمي للتغيرات البيئية والمناخية لمنطقة الخليج العربي، خاصة السواحل الرملية الشرقية لشبه الجزيرة العربية، ومنها قصة تحول قطر تدريجيا من خليج يابس إلى شبه جزيرة محاطة بمياه ضحلة.

تغير منسوب البحر بشكل ملحوظ خلال العصر الجليدي الصغير الذي كان تقريبا في الفترة بين عامي 1300 و1800، إذ تراجعت مياه البحر من اليابس بسبب زيادة الكتلة الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي (والتي تعمل كإسفنجة تمتص جزءا من مياه البحر) مما أدى زيادة مساحة اليابسة وصعوبة الوصول للشريط الساحلي وتحديد خواصه بالقياسات البصرية للسفن البحرية الفرنسية والبرتغالية والبريطانية التي رسمت السواحل خلال تلك الفترة

وبالنظر للخرائط التاريخية القديمة سنلاحظ وجود السواحل التي ترسم اليوم حدود كل دول الخليج العربي بشكل واضح عدا شبه جزيرة قطر على الرغم من أن حجمها تقريبا 10 أضعاف حجم دولة البحرين المرسومة بشكل واضح في كل الخرائط.

بالنظر للخرائط التاريخية القديمة سنلاحظ وجود السواحل التي ترسم اليوم حدود كل دول الخليج العربي

وبالنظر إلى منطقة شمال الخليج العربي وتحديدا السواحل الإيرانية سنجد أن كل الخرائط التاريخية دقيقة الوصف لهذه السواحل، أي أن الجزر الموجودة في هذه الخرائط بأحجامها وأشكالها وطول شكل الشريط الساحلي تشبه إلى حد كبير صور الأقمار الصناعية الحالية، فيما عند مقارنة صور الأقمار الصناعية الحالية بالخرائط التاريخية سنجد أن السواحل الموجودة في جنوب الخليج العربي تختلف عن شكل الشريط الساحلي الحالي.

ويكمن سر هذا الاختفاء في أن سواحل شرق شبه الجزيرة العربية -وعلى رأسها قطر- عاشت ولا تزال أحد أكبر وأهم التغيرات البيئية والمناخية في العالم، فالساحل (المكون من مياه ضحلة) من منطقة الكويت إلى منطقة أبو ظبي مرورا بقطر والبحرين شكله متغير تماما بكل المقاييس في جميع الخرائط على مدار الألف سنة الماضية نتيجة صعوبة الوصول إليه من خلال السفن لرسمه وأيضًا نتيجة تغير شكله السريع مع أي تغير طفيف في منسوب البحر.

وقد تغير منسوب البحر بشكل ملحوظ خلال العصر الجليدي الصغير الذي كان تقريبا في الفترة ما بين عامي 1300 و1800، إذ تراجعت مياه البحر من اليابس بسبب زيادة الكتلة الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي (والتي تعمل كإسفنجة تمتص جزءا من مياه البحر)، مما أدى لزيادة مساحة اليابسة وصعوبة الوصول للشريط الساحلي وتحديد خواصه بالقياسات البصرية للسفن البحرية الفرنسية والبرتغالية والبريطانية التي رسمت السواحل خلال تلك الفترة.

وظهرت قطر بشكلها المعروف اليوم كشبه جزيرة لأول مرة على الخرائط في أواخر القرن الـ16، وهذا لا يعني أنها كانت مختفية قبل ذلك، خاصة أن منطقة الخليج العربي كانت أحد أهم الطرق البحرية في العالم القديم وحتى يومنا هذا، ولا يمكن أن تختفي فيه مناطق أو مدن دون تأريخ مدوّن.

قطر بشكلها المعروف اليوم كشبه جزيرة لأول مرة على الخرائط في أواخر القرن الـ16 وهذا لا يعني أنها كانت مختفية قبل ذلك

ولكن السر يكمن في طبيعة سواحل قطر التي تتميز بأنها شديدة الانخفاض لدرجة أنه يمكن رؤية قاع البحر والكثبان الرملية المدفونة تحت المياه بوضوح من خلال صور الأقمار الصناعية، فهذه السواحل التي تحيط بها مساحات شاسعة من المياه الضحلة المليئة بالشعاب المرجانية، خاصة في المناطق الشرقية والجنوبية، بالإضافة إلى غياب تضاريس تجعل عملية رسم الخرائط وتحديد موقع الشريط الساحلي صعبة على المستكشفين القدامى بسبب عدم القدرة على تحديد الاتجاهات ورسم اليابسة نظرا لصعوبة الوصول إليها وصعوبة رسم المناطق البحرية الضحلة التي لم تستطع السفن الكبرى الإبحار فيها، وبالتالي رسموا قطر قديما على شكل ساحل وهذا ما يفسر كتابة اسم "كتارا" (katara) في الخرائط التاريخية على هذا الساحل القديم وليس على شبه جزيرة قطر بشكلها الحالي.

ويتم حاليا دراسة سبب التغير المستمر والسريع في شكل السواحل القطرية الذي ترصده الصور الجوية منذ عام 1947 وصولا إلى صور الأقمار الصناعية الحالية عالية الدقة في تعاون بين مؤسسة قطر وجامعة جنوب كاليفورنيا ومعهد علوم البحار التونسي، فقطر من الدولة القليلة في العالم التي عاشت -ولا تزال- تغيرات بيئية على مستوى مساحة الدولة بالكامل وليس فقط بجزء منها.

من خليج يابس لشبه جزيرة

منذ عبَر الماء مضيق هرمز قبل ما يقارب 18 ألف سنة بعد آخر عصر جليدي وبدء تكوّن بحر الخليج العربي بدأت المياه تغمر تدريجيا المنطقة التي كانت عبارة عن منخفض به أنهار وبحيرات عذبة نتيجة ذوبان ثلوج العصر الجليدي، وتراجعت الحضارات البدائية التي كانت تعيش في هذا الحوض نحو السواحل المحيطة بالخليج حيث حصل الغمر التام لهذا المنخفض، وتكوّن الخليج كما نعرفه اليوم منذ 8 آلاف سنة تقريبا، ومنذ ذلك الوقت بدأ ساحل قطر سلسلة تحولات من ساحل مياه ضحلة إلى شبه جزيرة وما زالت هذه التغيرات جارية حتى اليوم.

وتشير الدراسات الأولية إلى وجود 4 عوامل محتملة تسبب التغير المستمر في شكل سواحل قطر، أولها التغير في ارتفاع منسوب مياه الخليج، وهو عامل مرصود بشكل واضح، وهذا التغير كان أقل من متر في الألف سنة الماضية، بالإضافة الى انخفاض الأرض حديثا في آخر 3 عقود في المنطقة الساحلية الشمالية بسبب حركة المياه الجوفية، والعامل الثالث هو حركة الفوالق التي تقوم برفع السواحل أو خفضها ثم أخيرا نحر الشواطئ بسبب قلة الأمطار.

بين هذه القوى الأربع تشكلت وتغيرت السواحل القطرية بهذا الشكل المهم، وقصة سكان شبه الجزيرة هي قصة تعايشهم وفهمهم الفطري لهذه التغيرات، لذا لم تكن تشيد المباني على السواحل مباشرة بل تبنى في المناطق المرتفعة نسبيا وغير الملامسة للبحر عكس المدن الساحلية في مناطق أخرى من الخليج.

قطر هبة البحر أو (مياه "حلوة" وسط البحر)

شكلت المياه الضحلة الدرع الطبيعي الواقي الذي حمى سكان شبه جزيرة قطر القدامى من غزوات كثيرة لثقافات متعددة كالبرتغاليين وغيرهم من الذين كانت تغرق سفنهم الكبرى في المياه الضحلة نتيجة وجود الشعاب المرجانية بكثافة.

وكان البحارة الذين يقطنون في شبه الجزيرة يعرفون كيفية الملاحة في تلك المناطق الضحلة الغنية بالثروة السمكية، واستطاعوا تشييد مراكب خفيفة يمكنها أن تطفو فيها، فكان فهم السكان ودرايتهم بالبيئة المحيطة بهم أقوى سلاح في الدفاع عن النفس من قوى كبيرة حاولت غزو تلك المنطقة لكثرة ثرواتها البحرية ووجودها في طريق ملاحي مهم، ففي غياب تضاريس لتحديد الاتجاهات كان الاعتماد على قاع البحر للتوجه فريدا من نوعه ولم يدون أو يدرس بشكل كافٍ حتى يومنا هذا.

هذا الإرث البيئي النادر خلق تنوعا مهما في الموارد وسط هذه البيئة الصحراوية الفريدة، مما جعل السكان يرتبطون بتلك المنطقة لقرون رغم التغير البيئي والمناخي المستمر، وأحد أهم تلك الموارد المميزة ينابيع المياه الحلوة "العذبة" التي كانت ولا تزال تنبع في اليابسة وحتى وسط البحر في المنطقة الشمالية لقطر وبين قطر والبحرين.

ولأنها أخف وزنا وكثافة من المياه المالحة فكانت تطفو على السطح (مثل بقع الزيت)، وكان البحارة القدامى يميزونها عن طريق شكل الأمواج ويتجهون مباشرة إليها خلال رحلاتهم ليشربوا منها، وهذا هو البحر الوحيد الذي يمكن أن تأكل وتشرب منه في آن واحد، ومن هنا أطلق على أقرب يابسة له في ما بعد اسم البحرين، لأنهم تخيلوا قديما وجود بحرين فوق بعضهما البعض، أحدهما عذب والآخر مالح.

وبالإضافة إلى ذلك فإن شبه جزيرة قطر هي منطقة مصب لمنظومة خزانات المياه الجوفية لمنطقة شرق شبه الجزيرة العربية، وبالتالي فمواردها المائية تعكس كل التغير البيئي والمناخي الذي حدث في عمق شبه الجزيرة العربية من آلاف السنين، وأيا كانت الحدود الموجودة بين الدول فالمياه الجوفية تعبر من تحت الأرض ولا تعرف حدودا.

كما تتميز قطر بوجود مئات المنخفضات (تشبه فوهات النيازك على سطح القمر) التي تتجمع فيها الأمطار الموسمية مع المياه الجوفية، وهي مناطق صالحة جدا للزراعة، وهناك بالفعل أبحاث يتم دراستها اليوم في قطر بشأن استصلاح الأراضي وإمكانية زراعتها كما كانت قديما.

هوية تتحدى المتغيرات

وكما كان لنهر النيل أثر عميق على هوية مصر وشعبها، ومثلما أثرت جبال الأطلس على هوية الشعب المغربي أثرت كذلك سواحل قطر المتغيرة على الشخصية القطرية التي ترتبط بالبحر تارة والبر تارة أخرى، مما أكسبها هوية بيئية مميزة هي القدرة على التأقلم والتكيف والاستعداد للتحدي.

وكل الشعوب التي عاشت تحديات مع الطبيعة طورت قدرتها النفسية والبدنية والتقنية لخوض معارك مع التحديات الأخرى، وسكان شبه جزيرة قطر عاشوا الصراع بين الشاطئ واليابس وبين المياه والتصحر وتكيفوا مع هذه التغيرات البيئية والمناخية بشكل غير معهود آنذاك ولا يزال محط دراسة وفهم

اليوم وقد لا يعرف الكثير منا هذا التاريخ، من الضروري التذكير بهذا التاريخ البيئي والمناخي المميز لهذا البلد، لأنه يمثل ويترجم تاريخ التحدي والفهم الذي عاشه سكان هذه البقعة من الأرض ويسهم في تكوين وعي عربي بأهمية التغيرات البيئية والمناخية المحيطة بنا، حيث تحتل هذه القضايا حيزا مهما ومتزايدا في اهتمام الشارع العربي والمجتمع الدولي، كما يساعدنا هذا الفهم في تفسير سبب عدم وجود آثار قديمة في اليابس الذي يمثل الحدود الحالية للدولة، لأن هذه الآثار ببساطة قد تكون مدفونة اليوم في المناطق المغمورة بالمياه كما تشير له عدة أبحاث منشورة.

لكن يبقى جزء كبير من منظومة قطر البيئية المميزة كالمياه الجوفية مثلا بحاجة إلى المزيد من الدراسات كونها جزءا من التوازن البيئي وأحد الموارد الاستثنائية الإستراتيجية لقطر والعامل المهيمن على تطور سواحلها.

تغير السواحل القطرية بهذه الوتيرة حالة فريدة، وفي التراث ما يؤكد ذلك، فمن زمن ليس ببعيد كان الناس يتحركون بين قطر والبحرين مشيا على الأقدام قبل أن تتحول المنطقة بينهما إلى بحر مغمور بالمياه

قطر بعد 200 عام

يمكن لمياه البحر أن تدخل في بعض المناطق مسافة ما بين 10 إلى 50 مترا في اليابس خلال عام، وخريطة قطر بشكلها الحالي تتغير تقريبا بنسبة تقارب 1% كل 20 سنة، حيث يوجد نحر وتآكل للسواحل الشمالية والشرقية لشبه الجزيرة بسبب دخول مياه البحر فيها لبضعة أمتار في العام الواحد، أما في المناطق الجنوبية عند "خور العديد" فهناك زيادة في مساحة شبه الجزيرة نتيجة الكثبان الرملية التي تصب في البحر.

وهذا يعني أنه بعد 200 سنة من الآن ووفقا للمعدلات المرصودة فإن السواحل القطرية الشمالية قد تتآكل بعض الكيلومترات من ناحية الشمال، فيما سوف تزداد مساحة الدولة من ناحية الجنوب مسافة بضعة كيلومترات، وقد يتغير شكل خريطة قطر نسبيا لكنها ستظل رغم ذلك شبه جزيرة، فنحن بالفعل أمام خريطة ساحلية متغيرة بنسبة 100% تقريبا على مدار ألفي سنة.

وتغير السواحل القطرية بهذه الوتيرة حالة فريدة، وفي التراث ما يؤكد ذلك، فمن زمن ليس ببعيد كان الناس يتحركون بين قطر والبحرين مشيا على الأقدام قبل أن تتحول المنطقة بينهما إلى بحر مغمور بالمياه.

والخلاصة هي أن شبه جزيرة قطر بمثابة "واحة بحرية" مليئة بالأسرار لا تزال بحاجة لمزيد من الدراسة، وهذا ما كشفته أول دراسة ميدانية لفريقنا العلمي في صحراء قطر قبل أعوام والتي ستنشر الشهر المقبل في المجلة الجغرافية العريقة "ISPRS- Journal of Photogrammetry and Remote Sensing".

واليوم، ونحن العرب نتحدث عن التغيرات المناخية والتي ما زال العديد منا لا يؤمن بها نرى أن منا من جعلوا أو شكلوا من هذه التغيرات هويتهم الوطنية، فكانت المعرفة بها أساس البقاء والدرع الأول للدفاع عن شبه جزيرة قطر لآلاف السنين، ولعل لنا في ذلك عبرة أن أقوى الأسلحة ما هو إلا العقل البشري وقدرته على إدراك متغيرات بيئته، قدرة ما إذ فقدناها فقدنا جزءا من آدميتنا.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.