عن الحب في القرن الجديد

رواية الحب في القرن الجديد (الجزيرة)

يبدو لي أننا بحاجة لقراءة الكتاب فعلاً -أعني أيّ كتاب- أكثر من الانقياد وراء طبيعتنا في قراءة أنفسنا ونحن نطالع صفحاته، أيّ البحث عما نريده منه، رغم كل العنت في مخالفة ذلك. أقصد أن الكتب غالبا جيدة بطريقتها، وما يخصم منها لا يكون سوى الجانب الذي يخصنا من عملية القراءة: معارفنا، وتوقعاتنا ومزاجنا قبل كل ذلك. هذه الطريقة ربما تكون كفيلة -في النهاية- بأن تُضيف إلى أنفسنا جديدا بالفعل، عوض الاكتفاء بتأكيد ما لدينا -في الأساس- قبولاً أو رفضا.

خطر لي ذلك، لأني ما إن شرعت في قراءة "الحب في القرن الجديد" للروائية الصينية تسان تُشييه وتجاوزت الصفحات العشرين الأولى، حتى توقفت قليلا لأتخلى عن توقعاتي المسبقة وأنفض ما أبحث عنه، لصالح ما قد ألاقيه بين سطور العمل الصادر هذا العام في نحو 400 صفحة، عن دار "سرد"، بترجمة يارا المصري عن اللغة الصينية مباشرة.

في هذه الرواية يظهر على الدوام أحباء سابقون في غلالة تبعث على التشكّك، ليمنحوا الشخصيات فرصة اختبار المشاعر في زمان ومكان مختلفين. إنه اختبار الذات -بالأحرى- حين تتبدّل، في حين كانت تظن أن الأشياء من حولها هي التي تبدّلت. هي مواجهة محتدمة بين ألم الوعي في الحاضر والبراءة المريحة في الماضي، والمستقبل الكفيل بنسف كل ذلك وإعادة تشكيله.

وبظني أن هذه الطريقة في تسليم نفسي للكتاب -عوض محاولة السيطرة عليه وإخضاعه لتوقعاتي- كانت حيلتي الناجعة لخوض هذه المغامرة اللذيذة والزلقة في آن معا. إذ لا حكاية متصلة يمكن الإشارة إليها في هذا النص، فالروائية باعتقادي لم تكن منشغلة بسياق حكائي متصل بقدر انشغالها بالأفكار والرؤى والمشاعر التي سكبتها في قوالب متناثرة ومتباعدة. لكن يمكن -وبشيء من التمحيص- ردها إلى هواجس بعينها. هذا النوع من الكتابة قد لا يعجب كثيرين، لكنّ المتعة برأيي ليست حكرا على الحكاية، فثمة الكثير مما يجلب الانتباه والتعلق أيضا من دون أن نتبع خيطا يقودنا إلى ما جرى للشخصيات والأحداث آخر المطاف.

هذا نص جوّاني بامتياز، تغوص فيه تسان تشييه عميقا بلغة وأفكار مواربة، تحكي عن شيء لكنها قد تعني ألف شيء آخر. إنه نص مبطّن بالمعاني المضبّبة، وكلما كان القارئ منفتحا في قراءته ومتخليا عن ذاته أمكنه أن يعبّ منه ويمتلئ. لذا، إذا أراد الواحد معرفة موضوع الرواية سيجد كثيرا من الإجابات بعدد الذين قرأوها أو ضاعوا فيها بالأحرى.

يحفل النص بشخصيات عدة بمصائر متشابكة وهواجس متقاطعة من دون أن تفقد أيا منها فرادتها ولو على مستوى الشعور. تهجس الشخصيات مثلا بالبحث عن مسقط الرأس، تلك العبارة التي لم ينج أحد منها لكن كل بطريقته؛ فهناك من يبحث عن المكان فعلا، وهناك من يبحث عن إحساسه به، لذا فهو حين يلاقي حبيبا ملائما يشعر وكأنه في مسقط رأسه، وهناك من ينظر لمسقط الرأس كسفر في الزمن يربّت على حنينه لكل الوقت المنصرم من دون عودة.

في هذه الرواية يظهر على الدوام أحباء سابقون في غلالة تبعث على التشكّك، ليمنحوا الشخصيات فرصة اختبار المشاعر في زمان ومكان مختلفين. إنه اختبار الذات -بالأحرى- حين تتبدّل، في حين كانت تظن أن الأشياء من حولها هي التي تبدّلت. هي مواجهة محتدمة بين ألم الوعي في الحاضر والبراءة المريحة في الماضي، والمستقبل الكفيل بنسف كل ذلك وإعادة تشكيله. تهجس الشخصيات بخشية الفوات، بضغط العمر وهو ينسرب من بين الأيادي، فتغيّر وظائفها البائسة وتعمل في أخرى تمنحها الشعور بذواتها. تفعل ذلك في الربع ساعة الأخيرة لكن في رضا تام رغم الإنهاك والتقدم في العمر وتبدّل الأشياء من حولها.

كما تظل الأشياء هنا على الحوافّ، يصعب الجزم بها، فالكثير من الموتى يعبرون بالشخصيات، يتحدثون ويغضبون ويغنون، دون أن يكون القارئ قادراً تماماً على تحديد أيّ الفريقين بالفعل يعيش على الأرض وأيّهُ في باطنها. تظهر فجأة مدن ومبان وأشجار ويتبدّى الريف والميناء، قبل أني يختفي كل ذلك، في تعميق لفكرة الحافة وتلاشي الحدود والمواربة والاحتمال القائم على الدوام. والروائية تفعل كل ذلك بمنطق يُنجي النص من السذاجة، فدائما ثمة خط للرجعة يُعقلن ذلك كله ويجعله ممكنا. إذ تغيم المسافة بين ما يحدث في ذهن الشخصية من آمال أو مخاوف من جهة، وما هو واقع على الأرض من جهة أخرى. وكم يبدو لافتا قدرة تسان تشييه على فعل كل ذلك في حين كتبت الرواية بدون تخطيط وإنما تركت نفسها تتبع إملاء لحظة الكتابة.

فعلت ذلك واستحضرت المعاني العميقة والمواقف الطريفة والمؤلمة في آن معا. لذا فقد تيقنتُ أن هذا النص درس مهم في الكتابة وفق شروط هذا النوع، ولعل وصول الرواية إلى القائمة الطويلة في جائزة "المان بوكر" دليل إضافي على الفرادة التي تستبطنها.

بقي أن أشيد بقدرة يارا المصري على ترجمة هذا العمل بالوضوح والسلاسة اللازمين رغم تعقيده وحبكاته المتداخلة، وهو أمر بالغ الضرورة دائما لكنه في مثل هذه الروايات يصبح أكثر إلحاحا. وأتخيل أن الخروج من هذا العمل بترجمة جميلة كان وراءه جهد وصبر كبيران. ومرة بعد أخرى، تعجبني إصدارات دار "سرد" على محدوديتها؛ إنه في ما يبدو العمل الدؤوب المتمهل في الاختيار والتنفيذ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.