السودان.. مسار الانتقال والعثرات والفرص

حمدوك في مؤتمر صحفي أعلن خلاله آلية تنفيذ المبادرة في 15 أغسطس/آب الحالي (الجزيرة)

(1)

4 قواعد تتحكم في العلاقة بين أطراف الحكم في السودان (المكون المدني والمكون العسكري وشركاء السلام)، ومنذ توقيع الوثيقة الدستورية، ثم توقيع اتفاق السلام بجوبا (أكتوبر/تشرين الأول 2020) تتأرجح هذه الشراكة صعوداً وهبوطاً، إلى أن تبلور شكل جديد أدت المحاولة الانقلابية في 11 سبتمبر/أيلول 2021 لتسريع وتيرته.

وأولى القواعد هو تأثير الحشود، من المواكب والتتريس والوقفات الاحتجاجية، فالحكومة التي لم تختبر إرادة الشارع بالانتخاب المباشر، ظلت أطرافها تتنازع حول فاعلية الشارع، وقد كانت مواكب ما بعد فض اعتصام القيادة العامة في يونيو/حزيران 2019 ذات تأثير كبير في موازيين القوى، قادته القوى المدنية والحزبية بنجاح حينها، وربما كانت نتائج مواكب 30 سبتمبر/أيلول 2021 أكثر محفز للمكون العسكري أو شركاء السلام لاتخاذ خطوة جديدة دون خوف كبير من تأثيرات ذلك.

أما القاعدة الثانية فهي المجتمع الدولي وتفاعله مع مجريات الأحداث في السودان ودعمه للانتقال المدني للحكم، وتبلور ذلك في إقرار الكونغرس الأميركي 11 ديسمبر/كانون الأول 2020 (قانون دعم الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية للعام 2020)، وسبق ذلك طلب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في يناير/كانون الثاني 2020 تشكيل قوة أممية، وهو طلب أثار حفيظة المكون العسكري وانتهى الأمر بتشكيل "اليونتاميس"، ومما لا شك فيه أن لكل طرف خيارات خارجية وأطراف داعمة.

وثالث القواعد هو إدارة ملف السلام وإنهاء الحرب، وقد كان توقيع اتفاق السلام بجوبا أكتوبر/تشرين الأول 2020 إيذاناً بتشكل جديد وقوة سياسية بأجندة جديدة ودماء جديدة.

وقد تعاملت قوى الحرية والتغيير مع هذا الاتفاق ببرود وعارضه صراحة الحزب الشيوعي السوداني، ولاذت بعض القوى السياسية بالحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور لتأسيس منبر مغاير، يتجاوز قضايا التهميش والمطالب المنطقية لطرح مشروع سياسي جديد (السودان العلماني)، وربما كان الطرح وأبعاده الفكرية أكبر من أن يتقبله الشارع السوداني المحافظ وأعلى من مهام حكومة انتقالية.

لم يكن الأمر مجرد اختبار قوة مفاجئ، وإنما سلسلة من المواقف والقرارات والتوجهات، ففي يناير/كانون الثاني 2021 لوح الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي بتشكيل حكومة طوارئ، وذلك بعد تأخر القوى السياسية في تشكيل الحكومة والمماطلة، وتبلورت المواقف أكثر في مايو/أيار ويونيو/حزيران من هذا العام

والقاعدة الرابعة، هو إدارة ملف الخطاب الإعلامي وتحديداً الإعلام الاجتماعي والمنصات الفاعلة والمؤثرة على قطاعات الشباب، لقد كان واضحاً أن هناك عزوفاً شعبياً عن إسناد الحكومة والتعاطف معها، فقد تم تحميلها كل ضائقة المعيشة وتدهور الخدمات وغياب الكفاءة وتشكيك في نزاهة الحكم وعلو المحاصصة الحزبية.

بل تصاعدت مظاهر ابتعاد القواعد الشعبية، واليوم كل الشرق مغلق من خلال مجلس البجا والحلفاء في تنسيقية الشرق ومجموعة أخرى في الشمال وثالثة في منطقة البترول ورابعة على طريق الصادرات، دون أن ننسى أن السيد مني أركو مناوي حاكم دارفور أحد الداعمين المؤثرين في التحالف الجديد وفى الخرطوم تتصارع المجموعات المدنية فيما بينها، صحيح أن الحكومة تسيطر على الإعلام الرسمي ولكنها فشلت في تحييد أقلام مؤثرة، وهذا مجال لم يفلح العسكر والشركاء في استثماره وتوظيفه.

(2)

لم يكن الأمر مجرد اختبار قوة مفاجئ، وإنما سلسلة من المواقف والقرارات والتوجهات، ففي يناير/كانون الثاني 2021 لوح الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي بتشكيل حكومة طوارئ، وذلك بعد تأخر القوى السياسية في تشكيل الحكومة والمماطلة، وتبلورت المواقف أكثر في مايو/أيار ويونيو/حزيران من هذا العام، حين أصدرت مجموعة من الأكاديميين والخبراء وأساتذة الجامعات ورموز مجتمعية بياناً أسموه (العودة لمنصة الانطلاق).

ووقع على البيان نحو 54 من القوى حزبية وشخصيات وكيانات، وفى 14 مايو/أيار 2021 شهدت دار حزب الأمة القومي تكتلا حزبيا آخر، لتوحيد القوى السياسية وجمع الكثير من قوى الحرية والتغيير ما عدا الحزب الشيوعي السوداني، وجاءت مبادرة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في يونيو/حزيران 2021 تتويجا لاتصالات سياسية ولقاءات.

وقد تحدثت المبادرة بوضوح حول خلافات مدنية-مدنية، وعسكرية-عسكرية، ومدنية-عسكرية)، وخلاصة المشهد أن ثمة حركة سياسية للخروج من حالة الالتباس السياسي وتخفيف حدة الاحتقان والاستقطاب الذي تبدو مظاهره في ملامح بارزة، أولها فشل الحكومة في إدارة الشأن العام والركون للمخصصات الحزبية وتنامي ظاهرة المطالب المنطقية، وذلك نتيجة ضعف الحكومة المركزية وقلة كفاءة الحكام في بسط سلطة الدولة وإقناع القواعد الشعبية.

وثانيها حالة التنازع بين القوى السياسية وتحديداً الحاضنة الحاكمة، والتركيز على القضايا الانصرافية دون اهتمام بالقضايا الكلية (المعاش والأمن والصحة والخدمات)، وثالثها بروز قصور في الكفاءة الإدارية مع نزوع لتصفية الحسابات الحزبية في الخدمة المدنية، مما زاد من حالة السخط العام، ورابعها تأخر نفاذ وعود المجتمع الدولي وتعهداته المالية والاقتصادية. وبرز كل هذا في لحظة واضحة وكانت نقطة الصفر للمحاولة الانقلابية الفاشلة في 11 سبتمبر/أيلول 2021 بداية لمشهد جديد، تصويره كالآتي:

  • دعوة من قيادات مجلس السيادة الانتقالي (المدنيين) للمواطنين لحماية الثورة من الانقلاب.
  •  بيان من مجلس الوزراء الانتقالي يشيد بوعي قوى الحرية والتغيير وبعض منسوبي القوات النظامية في إفشال المحاولة الانقلابية.
  • القبض على ضباط ومدنيين.. ودعوة لتقييم أداء الحكومة الانتقالية وإصلاح وهيكلة الأجهزة العسكرية.
  • زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي والقائد العام للقوات المسلحة والفريق محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة وقائد الدعم السريع لسلاح المدرعات وحديث عن فشل القوى السياسية وتحديداً الحاضنة السياسية، وتقديم رؤية جديدة عن انتقال ديمقراطي وإنهاء حالة الاختطاف وانتقاد عنيف لدعوة القيادات المدنية (هبوا لحماية ثورتكم) وأن القوات المسلحة والقوات النظامية هي الوصية والحارسة للانتقال.
  • تصاعد حدة التنازع والخطاب الإعلامي ومن الواضح أن المكون المدني لم يتحسب لردة فعل المكون العسكري وشركاء السلام، لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر. لقد كان واضحاً أن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك قد أحاط نفسه بعدد من المستشارين غايتهم إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية، كما استقوى بالمجتمع الدولي لتعزيز فرص انتقال آمن في مواجهة الطرف الآخر.

(3)

ومع العنف اللفظي والاتهامات المتبادلة، فإن فرص المناورة لم تعد كثيرة، والأمر الذي بدأ وكأنه ضغط لتحديد أوزان سياسية، سار في اتجاه تباعد دون كوابح واضحة، وتبقى الخيارات قليلة، وأمام المكون العسكري وشركاء السلام فرصة توسيع المشاركة السياسية وإقناع المجتمع الدولي والإقليمي بالتزامهم السياسي بإجراء انتخابات، ولا أظن أن للقوى المدنية قدرة على تحريك الشارع مع تراجع الزخم السياسي، ويبقى دورهم في الضغط على المجتمع الدولي للتأثير على الفاعلين الجدد، والتشكيك في نواياهم، وهو أمر قد يقود لخطوة ثانية وهي حل الحكومة أو استقالتهم لامتلاك القرار التنفيذي وإعادة توظيف منبر الدبلوماسية ومنصات الإعلام الرسمي.

ويبقى سؤال مهم: أين التيار الإسلامي أو الحكومة السابقة؟ بالتأكيد فإن قوى سياسية كثيرة ستصبح داعمة للتحالف الجديد، ومع أن كثيرا من أعضاء النظام السابق متعاطف مع التغيير، فإن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، فكل الأطراف تبتعد خطوة عن أي علاقة تصالحية، وأبعد من ذلك فإن شرط قوى إقليمية تحجيم "الإسلام السياسي" إن لم نقل تصفيته، ومن الأفضل للإسلاميين دعم خيارات الانتقال الديمقراطي بغض النظر عن مواقف الآخرين.

هذه المرحلة شديدة الحساسية ومن الواضح أن التخطيط والصبر على أجندته تقوده جهات ذات خبرات واسعة، وما لم تنتبه الأطراف السياسية فإن أي التباس أو شد سيقود لنتائج وخيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.