أميركا أرض الدنيا والدين أيضا

NASSAU, BAHAMAS-September 10, 2018:The interior of the Christ Church Cathedral of Nassau in the Bahamas, built in 1841, features beautiful mahogany pews completed in 1995; Shutterstock ID 1215874939; Department: -
كاتدرائية في البهاما (شترستوك)

كشف استطلاع حديث للرأي أجراه مركز "بيو" (Pew) للأبحاث أن تفشي وانتشار فيروس كوفيد-19 أججت مشاعر الإيمان في نفوس الكثير من الأميركيين. وأشارت نتائج الاستطلاع إلى أن نصف الأميركيين صلوا تضرعا إلى الله للحد من انتشار فيروس كورونا.

ويعتقد البعض أن الولايات المتحدة هي أرض الدنيا بما لديها من ثروات مادية، وبما توفره لساكنيها من ظروف اقتصادية وترتيبات رأسمالية تسمح بفرص النجاح للمجتهد والقوى أكثر من غيرها من الدول. فنصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي بلغ العام الماضي 68 ألف دولار، وهو من أعلى المعدلات في العالم. ويعد هذا الرقم ضخما بالنظر لعدد سكانها البالغ 334 مليون نسمة. ولا يمثل عدد سكان أميركا إلا أقل من 5% من سكان العالم، إلا أنهم يستهلكون 25% من موارد العالم المختلفة، وهي نسبة تمثل 5 أضعاف نسبة سكانها.

إذا كان الرئيس السابق جورج بوش أحد أكثر الرؤساء استشهادا بالنصوص الدينية لتبرير الكثير من موافقه، فإن الرئيس باراك أوباما -المعروف بأنه غير متدين على الإطلاق- هو أول من أسس مجلسا استشاريا لشؤون الأديان في البيت الأبيض.

من ناحية أخرى تعد أميركا الوجهة الأولى المستقبلية للاستثمارات الخارجية "إف دي آي" (FDI) في العالم، حيث وصلت عام 2019 إلى 351 مليار دولار. ولهذه الأسباب وكثيرا غيرها، يعد البعض أميركا أرض الدنيا بسبب أوضاعها المادية.

إلا أن أميركا تُعد أيضا أرض الدين، وللدين تعريف خاص في الولايات المتحدة، فعلى الرغم من علمانية الدولة على المستوى الدستوري، فإن المجتمع الأميركي يعد أكثر المجتمعات الغربية تدينا. ويعتبر الدستور وثيقة علمانية واضحة تبدأ بعبارة "نحن الشعب" ولا تحتوي الوثيقة على أي ذكر لكلمة الرب أو المسيحية، بل إن الإشارة إلى كلمة دين في الدستور اُستخدمت على نحو معاكس تماما للتأكيد على عدم التمييز بين المواطنين على أساس عقائدهم. وتنص الفقرة السادسة من الدستور على أنه ليس من الوارد إجراء اختبار ديني لأي شخص يرغب في شغل أي وظيفة حكومية. كما نص أول تعديل أدخل على الدستور ينص على أن الكونغرس لن يقوم بأي حال من الأحوال بتشريع قانون قائم على أساس ديني.

وتمثل تجربة أميركا نقيضا للحالة الأوروبية في الفصل التام بين الدولة والكنيسة، ويبدو ذلك واضحا في الفارق الذي يخص بعض السياسات الخارجية. ولم يكن جورج بوش هو أول من أدخل الدين إلى السياسة الأميركية ولم يأت باراك أوباما لكي يخرجه منها، واستغل الرئيس دونالد ترامب الدين لمصلحته على الرغم من عدم تدينه، في حين يُعد الرئيس جو بايدن متدنيا كاثوليكيا يحرص على الصلاة صباح كل يوم أحد في كنيسته المفضلة بمنطقة جورج تاون.

وإذا كان الرئيس السابق جورج بوش أحد أكثر الرؤساء استشهادا بالنصوص الدينية لتبرير الكثير من موافقه، فإن الرئيس أوباما -المعروف بأنه غير متدين على الإطلاق- هو أول من أسس مجلسا استشاريا لشؤون الأديان في البيت الأبيض.

ولا يعد التدين في أميركا متعارضا مع رأسمالية المجتمع، ويخضع التدين كغيره من الظواهر لآليات السوق ومعادلة العرض والطلب. من هنا يأتي الاختلاف بين التدين الأميركي والتدين في بقية العالم بسبب ظاهرة الهجرة. وتستقبل أميركا أكثر من مليون مهاجر سنويا، يأتي على رأسهم مهاجرون من الدول النامية التي يلعب الدين دورا رئيسيا في حياة أبنائها. وعلى العكس من الكنائس الأوروبية، تتنافس الكنائس الأميركية المختلفة لجذب ومساعدة المهاجرين الجدد. وتمثل الكنيسة مركزا مهما في حياة المهاجرين الجدد للولايات المتحدة، فبالإضافة لما تقدمه من طقوس وممارسات روحية، تقوم الكثير من الكنائس بإنشاء فصول لتعليم المهاجرين الجدد اللغة الإنجليزية، وتوفير حياة اجتماعية للمهاجر ولعائلته، وهنا يأتي نفوذ الكنيسة في صنع السياسات في بلد قام على المهاجرين، حيث إن معظمهم جاء عن طريق الكنيسة في موجات الهجرة الأوروبية الأولى.

وعلى الرغم من استمرار ظاهرة صعود العلمانية في مختلف أقاليم العالم باستثناء أوروبا الغربية، يعد المجتمع الأميركي أكثر المجتمعات المتقدمة المتجهة بسرعة نحو المزيد من التدين الواضح، رغم علمانية النظام السياسي. وعلى الرغم كذلك من أن الأميركيين "ما زالوا متدينين"؛ فإن هناك اختلافا في طبيعة مفهوم الدين في الوقت الحاضر، فالدين الذي تحدث عنه الأنبياء والرسل والذي يدعو إلى رفض الظلم وخلق المجتمع الفاضل، لم يعد موجودا. أما الموجود الآن، فهو مفهوم دين جديد يتمثل في تأسيس علاقة فردية بين الإنسان والمعاني الدينية، فالفرد المتدين ليس له مؤسسة أو مرجعية تحتكر الدين وتفرضه عليه. بل يختار هو ما يريد من المعروض من الأديان، مثلها مثل أي بضاعة استهلاكية. ودخول البعد الاستهلاكي للدين يزيد من عدد من يذهبون للكنائس، فالفرد يختار الدين الذي يعجبه والذي يتناسب مع وضعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ويحقق له التوازن النفسي والروحي، وهو دين في صورة حديثة يتناسب مع ما وصلت إليه المجتمعات الإنسانية من حداثة وتقدم.

وعلى الرغم من علمانية الدولة يظل المجتمع الأميركي واحدا من أكثر المجتمعات العلمانية محافظة وتدينا والأهم أنه أكثرها انقساما. ويفسر هذا حالة الاستقطاب المستمر حول قضايا قديمة يعاد تجديد الصراع حولها مع نهاية كل عام ميلادي أو حلول مواسم الانتخابات.

وتعتبر قضايا مثل قضية استخدام الرموز الدينية في احتفالات أعياد الميلاد (الكريسماس) والإجهاض، وإقامة الصلاة في المدارس العامة، وزواج المثليين، والصراع ما بين الدين ونظرية النشوء والارتقاء لداروين، وإجراء البحوث العلمية ذات الأبعاد الأخلاقية، من أكثر القضايا التي تثير انقساما على المستوى السياسي والثقافي في المجتمع الأميركي خلال السنوات الأخيرة.

إن الجدل والانقسام والاختلاف في المشهد الثقافي والاجتماعي يؤكد أن الانقسام داخل المجتمع الأميركي أعمق من كونه سياسيا رغم كل الصخب في قاعات الكونغرس وعلى صفحات الجرائد وشاشات التلفزيونات بين الجمهوريين والديمقراطيين

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان