المارشال ليوطي.. المستعمر الفرنسي الذي وقع في عشق المغرب
"هنا يرقد لويس هوبير ليوطي، أول مقيم عام (سفير) لفرنسا في المغرب، المتوفى في رحم الديانة الكاثوليكية، حيث حصل لويس في إطار إيمانه العميق بها على آخر الأسرار المسيحية، والذي كان يحترم بعمق تقاليد الأسلاف والدين الإسلامي الذي حافظ عليه ومارسه سكان المغرب، حيث أراد أن يرقد، بين رحابهم، في هذه الأرض التي أحبها بشدة". ليست هذه شهادة في حق المارشال الفرنسي لويس هوبير ليوطي من طرف مَن اشتغلوا إلى جانبه، بل هو النص الذي أوصى ليوطي نفسه بكتابته على شاهد قبره الذي كان موجودا بالمغرب، قبل أن يطلب الجنرال شارل دوكول إعادة جثمانه إلى فرنسا سنة 1961 ودفنه في باريس.
يعكس شاهد قبر ليوطي ازدواجية قد تبدو غير منطقية في شخصية القادة الاستعماريين، فلا يتعلق الأمر بباحث أنثروبولوجي أو رجل دين أو تاجر احتك بمجتمع آخر وأعجب بأهله وعاداتهم وتقاليدهم، بل يتعلق الأمر بقائد عسكري لجيش مهمته الأولى احتلال بلد آخر وإخضاع شعبه واستغلال خيراته، تحت غطاء قانوني متمثل في معاهدة الحماية التي تم توقيعها بين السلطان المغربي عبد الحفيظ والسفير الفرنسي رينو سنة 1912. لذلك، تظهر مشاعر ليوطي تجاه المغرب متعارضة مع الغرض الذي عينته فرنسا من أجله، وتدفعنا هذه المشاعر إلى الاقتراب أكثر من شخصية ليوطي والبحث في الأسباب الثاوية خلف هذه العلاقة التي نسجها مع المغرب والمغاربة.
عارض ليوطي بشدة فكرة "الإدماج" الفرنسية الرامية إلى جعل شعوب المستعمرات الفرنسية في أفريقيا وآسيا وجزر بحار الجنوب فرنسيين بالثقافة، ويبدو حرص ليوطي على هذه الفكرة كأنه غيرة على ثقافة هذه الشعوب، لكنه في حقيقة الأمر كان يربط أهمية طرحه بالكلفة التي يستوجبها تسيير هذه المستعمرات
ليوطي.. من تلال نانسي إلى قيادة المستعمرات الفرنسية
على الضفة الشمالية لنهر فيورث الفرنسي، وبالضبط في مدينة نانسي الصغيرة شمال شرق فرنسا، رأى لويس هوبير غونزالوف ليوطي النور في أحد أيام شتاء نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1854، حيث تلقى تعليمه إلى حدود حصوله على شهادة الباكالوريا سنة 1872، وكان لهزيمة فرنسا أمام ألمانيا سنة 1870 -وما نجم عنها من فقدان للألزاس واللورين- دور كبير في توجه ليوطي نحو المجال العسكري، فالتحق بالمدرسة العسكرية الشهيرة في "سان سير" سنة 1873، وبعدها انضم لمدرسة الأركان العليا للجيش سنة 1876.
استطاع ليوطي أن يرسم لنفسه مسارا عسكريا متميزا، إذ انضم إلى سلاح الفرسان، ثم تولى قيادة أركان فرقة السلاح "رقم 07″، وبعد ذلك شغل منصب قائد الوحدة العسكرية الأولى من الفوج الرابع من فرسان السلاح سنة 1887. ولم يكن لهذا المسار المتميز أن تخطئه عيون القادة العسكريين الفرنسيين الذين كانوا في حاجة ماسة إلى أطر عسكرية تسهم في تسيير ممتلكات فرنسا وراء البحار، ومن بين هؤلاء العقيد الفرنسي "جوزيف غالييني" (Joseph Gallieni) الذي حكم مستعمرة الهند الصينية، والذي اقترح على القائد العسكري الشاب الالتحاق به هناك، وهناك سيتقلب ليوطي بين مناصب رئيس أركان الجيش ثم مدير المكتب العسكري ثم المحافظ العام للهند الصينية.
لم يفوت ليوطي فرصة توليه المناصب القيادية في المستعمرات الفرنسية، وخصوصا في تونكان الفيتنامية؛ حيث أظهر كفاءته وحنكته في إدارة المستعمرة الآسيوية، وبلور فيها ملامح خطته المعروفة بـ"بقعة الزيت"، الشيء الذي دفع الحكومة الفرنسية إلى تعيينه حاكما لجزيرة مدغشقر المستعمرة الفرنسية في المحيط الهندي سنة 1897، وهناك كرس ليوطي مهارته وحنكته في تدبير المستعمرة، مما دفع فرنسا إلى نقله نحو أحد أهم مستعمراتها في شمال أفريقيا وبالضبط في الجزائر التي كانت تعتبرها فرنسا مقاطعة فرنسية منذ احتلالها سنة 1830، وانطلاقا من أكتوبر/تشرين الأول 1903 سيعين ليوطي حاكما لجنوب وهران على الحدود المغربية تحت قيادة الحاكم العسكري العام للجزائر الجنرال "جونار" (Jounnar)، وبسبب القواسم المشتركة العديدة بين المجتمعين الجزائري والمغربي، والخبرة التي اكتسبها ليوطي في تدبير المستعمرات، لم يكن للقيادة الفرنسية أن تفكر في غيره لشغل منصب أول مقيم عام فرنسي بالمغرب بعد توقيع معاهدة الحماية سنة 1912.
سياسة ليوطي الاستعمارية.. بين الحب والحرب
عارض ليوطي بشدة فكرة "الإدماج" الفرنسية الرامية إلى جعل شعوب المستعمرات الفرنسية في أفريقيا وآسيا وجزر بحار الجنوب فرنسيين بالثقافة، ويبدو حرص ليوطي على هذه الفكرة كأنه غيرة على ثقافة هذه الشعوب، لكنه في حقيقة الأمر كان يربط أهمية طرحه بالكلفة التي يستوجبها تسيير هذه المستعمرات، لأن تحقيق الحماية بالشراكة مع الهيئات الحاكمة السابقة وليس ضدها أو إقصائها، سيؤدي إلى إخضاع هذه البلدان "بتكلفة أقل ونجاح أكبر مما لو اجتمعت فيالقنا العسكرية كلها على ذلك" وفق قوله، ولا يعني ذلك في نظر ليوطي تخلي فرنسا عن الإمساك بزمام الأمور في تلك المستعمرات، وذلك لب فلسفة الحماية في نظره.
"حماية لا حكم مباشر، احكم مع أهل البلاد لا ضدهم، لا تقم بالإساءة إلى أي تقليد ولا تبدل أي عادة، وحّد بين طبيعة الحكام ومصالحنا، احكم مع المخزن"؛ بهذه العبارة يحاول ليوطي اختزال جوهر سياسته الاستعمارية في المغرب، وإن كانت متعارضة تماما مع طريقة عمل قادة المستعمرات الفرنسية التي كانت تقوم على الحكم المباشر وقطع الطريق على أي مشاركة للنخب المحلية في تسيير المستعمرات، وبدا ليوطي مصرا على الوفاء لروح معاهدة الحماية الموقعة مع المغرب، والتي حاولت فرنسا أن تجعلها مجرد غطاء قانوني لعملية احتلال البلاد، لكن ليوطي الذي اكتسب تجربة تسيير مستعمرات فرنسية في مناطق مختلفة من حيث طبيعة المجتمعات والنخب الحاكمة فيها، أدرك جيدا بأن حالة المغرب متفردة وتستوجب سياسة استعمارية خاصة.
ترجم ليوطي أفكاره هذه في مختلف المناسبات والخطب التي كان يلقيها في الحكام المحليين، ففي إحدى خطبه، توجه إلى وزراء السلطان وقواد القبائل وعمال المدن المغاربة في سنوات الحماية الأولى قائلا "إنكم تعلمون كم كنت حريصا على أن يبقى كل واحد وكل شيء في مكانه التقليدي وأن تبقى الزعامة بيد أصحابها الطبيعيين فيحكمون ويطاعون". ويذهب بعض المؤرخين إلى أن حرص ليوطي على عادات ومعتقدات الشعب المغربي لم تنبع فقط من أفكاره الاستعمارية، بقد ما كانت "تعلقا عاطفيا صادقا بعيد الأغوار وليس خفضا للجناح الذي فرضته الضرورة".
إن ذكاء ليوطي في تعامله مع خصوصيات المجتمع المغربي، جعلت صورته ترتبط بالحرص على الدين والتقاليد المحلية واحترام الأعراف القبلية، وكان يجسد صورة الموظف المتعاطف مع أهالي البلاد المستعمرة، ويستند الصحفي البريطاني وولتر هاريس -في تبني هذه الخلاصة- إلى إحدى مشاهداته رفقة ليوطي عند زيارة أحد القبائل المستسلمة بعد فترة "التهدئة" (Pacification)، خصوصا عندما يصف الحشود التي جاءت لمقابلة ليوطي ومشهد النساء اللواتي تزينّ بالحلي الفضية وتقبيل الأطفال ليده. هل يتعلق الأمر بدعاية استعمارية ترمي إلى تصوير ليوطي في شخصية العطوف على أهل البلد، ومحو ما يرتبط بالقادة الاستعماريين من تعطشهم إلى قمع وإبادة الأهالي المحليين لترسيخ سلطة الدولة المستعمرة؟
يدفعنا ذلك إلى رصد ملامح سياسة ليوطي الاستعمارية لنقف على أن خيار القوة آخر ما كان يعرضه ليوطي، فهو جمع بين إظهار الحب للأهالي واحترام خصوصياته وعاداته وتقاليدهم، وإشهار سلاح الحرب في المناطق التي لا تنفع معها سياسته الأهلية، ورغم تعرض ليوطي للعديد من الضغوطات التي اعتبرت سياسته غير ناجحة في المغرب، فإنه تشبث بضرورة الحفاظ على ثوابت البلاد وأهميتها في ترسيخ الوجود الفرنسي، وقد نجح إقناع القيادة الفرنسية بسياسته، بعدما استطاع إخماد معظم حركات المقاومة المسلحة المغربية مطلع العشرينيات من القرن الـ20 الماضي.
السياسة الأهلية والإسلامية.. طريق ليوطي نحو قلوب المغاربة
كان ليوطي يدرك جيدا حجم المكانة التي يحتلها الدين الإسلامي وكل ما يرتبط به في المجتمع المغربي، ودفعه حرصه البالغ على إظهار احترام الديانة الإسلامية لأنْ يضع مجموعة من التدابير فيما وصف بـ"السياسة الإسلامية"، الرامية إلى الحفاظ على مشاهد الحياة اليومية بحيث لا يشعر المغاربة بأنهم أجانب داخل بلادهم، وذلك عبر مجموعة من الإجراءات على رأسها بناء مدن جديدة خارج "المدينة العتيقة" وإصلاح هذه الأخيرة حتى تصبح نوعا من "الحرم" الذي لا تمتد نحوه أعين الأوروبيين ولا يمسها جشعهم. ولقد أدرك ليوطي أن المدينة الإسلامية تكون فيها الشهادة هي الهندسة المعمارية، على حد تعبير لويس ماسينيون، المستشرق الكبير الذي كان أحد مستشاري ليوطي. كما سعى ليوطي إلى حماية السكان الأصليين مما وصفه دانييل ريفي بـ"القرحة الأوروبية"، وتوقيف عملية فرنسة البلاد، لأن مغربيا مفرنسا هو إنسان له القدرة على العمل ويمثل خسارة بالنسبة لبلده كما بالنسبة إلى الحماية. وقد انتقد معارضو ليوطي هذه القرارات بدعوى أن الحرص على تفادي اصطدام الحضارات ربما يؤدي إلى سجن المغاربة في خصوصياتهم المحلية وتقسيم المغرب إلى فضاءين، وكأننا أمام مسرحية يلعب فيها المحليون دورا كتبه لهم مخرج أجنبي مع الحفاظ على جرعة من المقدس في حياة الناس، لأن ليوطي كان يعتقد بحدسه أن المقدس إذا كثر أصبح مدنسا وغابت عنه قدسيته.
كان ليوطي يعي جيدا أنه لا سلطة على المغاربة أقوى من سلطة المقدس، وأن الروابط الموجودة بين الحاكم والمحكوم تفقد متانتها ما لم تكن لها جذور في الدين والشرف. لذلك، حرص ليوطي على التقرب من السلطان لأنه حجر الزاوية ورأس الهرم في بناء المجتمع المغربي، وكان هذا التقرب في البداية خيارا تكتيكيا ثم تحول إلى شغف شديد عند ليوطي الذي رغب في أن يظهر بمظهر "خادم سيدنا"، بل كان يمسك بقدمه بكل تواضع عندما ينزل فوق حصانه، وكان يحث السلطان المولى يوسف على أن يلعب جيدا دور السلطان ويرتب المجتمع المغربي ترتيبا عموديا انطلاقا من رأس هذا المجتمع وهو أمير المؤمنين، ثم بعده القصر ووجهاء المدينة وكبار العلماء وشيوخ الزوايا، ثم كبار القادة الذين حرص على شراء ولائهم، ثم عامة الشعب من العمال والفلاحين، وقد كان ليوطي يتأمل تنظيم المجتمع المغربي في مرآة البيعة التي تربط السلطان بباقي الرعايا ويعتبرها أكثر شرعية من التعاقد الاجتماعي بالمفهوم الحديث، ويرسخ بذلك الطابع المقدس للملكية المطلقة في المغرب وفي أذهان المغاربة.
وكان الضباط العسكريون -الذين يشتغلون إلى جانب ليوطي- مقتنعين تماما بأفكاره ويجتهدون في تطبيقها، ومن أبرزهم الكولونيل بيريو أحد الضباط المخلصين لليوطي إلى درجة اعتباره الأب الروحي سياسيا وإداريا وأمنيا. وقد شغل بيريو منصب المسؤول عن القسم السياسي والإداري والمخابراتي بالمغرب منذ سنة 1912، وتوفي بسبب نزلة برد حادة سنة 1918، ومما قال في حقه ليوطي "كان الكثيرون يتقنون إما تمحيص الملفات أو حسن تأويل المعطيات أو معرفة دقيقة باللغات المحلية والأدبية (وهذه كلها أمور مجتمعة فيه)، لكن ولا واحد منهم، امتلك تلك القدرة على التفهم العاشق للجنس المغاربي. ولأن الناس أحست ذلك الشغف وذلك الحب، فإنها، هنا، بالشمال الأفريقي، لم تتردد في أن تبادله ذات الإحساس بصدق، فالجميع من القادة إلى "الكوم" في الجزائر، ومن السلطان مولاي يوسف إلى أعضاء المخزن هنا بالمغرب، وصولا إلى أبسط الناس الذين كان بعضهم يبكي بحرقة على جثته، كلهم كانوا يرون فيه صديقا ولهم فيه ثقة عمياء".
تعكس شهادة ليوطي في حق ضابطه بيريو قناعته بكون السياسة الأهلية لإدارة الحماية ليست مجرد طريقة لإدارة المستعمرات، بقدر ما هي قناعات تفرضها طبيعة المجتمع المحلي ومدى تجذر قيمه وتقاليده، ولا يمكن لقائد استعماري أن يكون ناجحا دون أن يتبنى هذه القناعات، لذلك كان ليوطي واضحا بخصوص سياسته التي سيتبناها في المغرب، حيث قال في إحدى المناسبات "لقد عدت من باريس باليقين الواضح، المعبر عنه من قبل جهات نافذة، أنه لا يمكن المس بها أو مناقشتها، فنظام الحماية ليس مسألة رأي، لا شخصي ولا محلي ولا فرنسي. إنها واقع تحدده مواثيق واتفاقيات وهي مضمونة من قبل مواثيق دولية لا سلطة لأي واحد منا أو للحكومة لتعديلها، والنتيجة هي أن المغرب دولة مستقلة تحميها فرنسا وأنه تحت سلطة السلطان بنظامه الخاص، ومن الشروط الأولى لولايتي، هي أن أضمن وحدة نظامه السياسي واحترامه".
(يُتبع)
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.