التعددية والحرية الدينية بين المعتقد والسياسة.. مقاربات الرعيل الأول للنهضة العربية (1-3)

midan - الإمام محمد عبده
الإمام محمد عبده (الجزيرة)

عمل الفكر الإصلاحي للرعيل الأول للنهضة العربية، في مساره الفكري المتقلب على أطوار ومراحل، في تقديم لبوس جديد للخطاب الإسلامي يضع إحدى قدميه في الشق المشرق من التراث الحضاري الإسلامي، والقدم الأخرى في النهل من المعارف الحديثة وما أفرزته من مفاهيم ونظم، وقد سعى محمد عبده وغيره إلى تبيئة تلك المفاهيم وتوطينها من دون خلق حالات تضاد وصراع بينها وبين منظومة التفكير الإسلامية وتجلياتها في واقع المسلمين وتاريخهم، ومن تجليات ذلك الرد على جملة من الدعاوى التي أثيرت في سياق الجدل الفكري بينه وبين فرح أنطون أو بين جمال الدين الأفغاني ورينان، ومن ذلك ما يتعلق بدعوى صبغة الإكراه الملازمة للاعتقاد، وانتقال هذا الإكراه من مصادرة الأفكار إلى مصادرة الحق في الوجود للمختلفين في الرأي والمعتقد، وما ينشأ عن كل ذلك من إشكالات ومقاربات متنوعة تخص مسائل التعددية والحرية الدينية والاختلاف التي تهم زمننا الحالي بمقدار أهميتها لجيل النهضة.

لم يكن الخلاف بين الفرق والمذاهب أصل مظاهر الاقتتال التي طفت إلى السطح في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي، إذ إنه رغم الاختلاف بين المتكلمين معتزلة وأشاعرة، أو بينهم وبين الفقهاء والمحدثين، وبين هؤلاء جميعا مع الفلاسفة الذين نزعوا منزعا مختلفا في مقاربة جملة من المباحث الفلسفية -كما وقع بين الغزالي والفلاسفة- بحجاج قد يناقض في مضمونه ومنطلقاته طبيعة الرؤية الدينية التي كانت سائدة، فإن الخلاف ظلّ في دائرة الحجاج النظري الصرف، ولم يتطور لينعكس إلى ممارسة الإكراه على المستوى الاجتماعي.

 1. مظاهر الاختلاف والتعددية الدينية في التاريخ الإسلامي

عرف التاريخ الإسلامي مظاهر متنوعة وأشكالا لا حصر لها للاختلاف والتعددية في الرأي والمذهب، وقد حافظت تلك التعددية على حضورها الاجتماعي من دون أن يكون ذلك مؤدّاه الاقتتال، إلا في الحالات النادرة التي كانت لها جذور ودوافع سياسية وليست دينية، تلك هي الفرضية التي يحاجج من أجلها محمد عبده.

لقد كانت أشكال الاختلاف في التاريخ الإسلامي متعددة لا حصر لها، مما يضع أرضية خصبة للنزاعات العنيفة والحروب حسب التفسير الذي يذهب إلى أن جذور العنف قائمة في الدين، وأن تجلياتها برزت في حضارة الإسلام تحت رايته، في إغفال للعناصر والدوافع الأخرى، أي النزاعات ذات الطابع الاجتماعي والسياسي، هذا الإغفال للدوافع الأخرى المؤثرة هو ما يحاول محمد عبده إثباته، ذلك أنه لم "يسمع في تاريخ المسلمين بقتال بين السلفيين والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة والمعتزلة، مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة، كما لم يسمع بأن الفلاسفة الإسلاميين تألّفت لهم طائفة وقعت الحرب بينها وبين غيرها. نعم سمع بحروب تعرف بحروب الخوارج، كما وقع من طائفة القرامطة وغيرهم، وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة الحكم، ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة ولكن لأجل أن يغيروا شكل الحكومة. وما كان من حرب الأمويين والهاشميين فهو حرب على الخلافة، وهي بالسياسة أشبه، بل هي أصل السياسة" (محمد عبده الأعمال الكاملة، ج3، ص: 308)

لم يكن الخلاف بين الفرق والمذاهب أصل مظاهر الاقتتال التي طفت إلى السطح في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي، إذ إنه رغم الاختلاف بين المتكلمين معتزلة وأشاعرة، أو بينهم وبين الفقهاء والمحدثين، وبين هؤلاء جميعا مع الفلاسفة الذين نزعوا منزعا مختلفا في مقاربة جملة من المباحث الفلسفية -كما وقع بين الغزالي والفلاسفة- بحجاج قد يناقض في مضمونه ومنطلقاته طبيعة الرؤية الدينية التي كانت سائدة، فإن الخلاف ظلّ في دائرة الحجاج النظري الصرف، ولم يتطور لينعكس إلى ممارسة الإكراه على المستوى الاجتماعي.

وذلك يعني أن التنازع بانعكاساته السلبية لم يكن في دائرة العقائد والآراء، بل كان في السياسة والحكم، وبصيغة معاصرة كان الدافع إلى الخلاف والتنازع هو السياسة وليس الدين، والمحرك هو السلطة وليس الاعتقاد، وهو ما يمكن أن نجد له شواهد منذ خلاف الصحابة والجماعات الثائرة في التاريخ الإسلامي التي امتزجت في ثوراتها الدوافع السياسية والدينية والاجتماعية.

لقد كانت جملة من الخلافات الكلامية والفقهية والفلسفية منحصرة في دائرة الاختلاف العلمي الضيق، ولم تصبح مسألة اجتماعية تثار من أجلها الحروب والإكراه وسلب حرية الاعتقاد أو التفكير،  كما حدث ذلك في حالات نادرة مثل فتنة خلق القرآن مع أحمد بن حنبل أو طلاق المكره مع الإمام مالك، التي لم تكن خالية من الدوافع السياسية، فكثير من الصراعات التي قد تظهر بلبوس عقدي أو ديني، التي ظلت تبرز بين الفينة والأخرى منذ القديم إلى اللحظة الراهنة، عادة ما تكون محدداتها قائمة في السياسة وليس في الفكر، إذ ظل الاختلاف الفكري وممارسة النقد والحوار بين مختلف أرباب العلوم والمعارف حاضرا ما لم يسد التعصب أو ينطفئ وهج العقل عن أداء وظيفته كما وقع في القرون المتأخرة، وذلك في اللحظات المفصلية التي تبرز فيها كثير من النزاعات التي شكلت فيها تدهور الأوضاع السياسية في حقب معينة من التاريخ دافعا رئيسا إلى التناحر الداخلي، وفق متطلبات الغلبة والشوكة التي شكلت مستند السلطة/الدولة في التاريخ الإسلامي، في حين يأتي الدين أو العقيدة غطاء أيديولوجيا ومصدرا للشرعية وحسب.

2. فساد السياسة وأهواء الحكام أصل النزاع والضعف.. بين ابن خلدون ومحمد عبده

لم يكن محمد عبده بإبرازه لتمظهرات الاختلاف والحرية الدينية في السياق الحضاري الإسلامي مغيّبا للحس النقدي تجاه أشكال النزاع الدامي التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية في بعض الأحيان، بحيث عمد إلى تفسير النزاع الداخلي السياسي والاجتماعي بالنزعات المتحكمة في السلوك السياسي للحكام وليس من خلال الأثر الذي يتركه المعتقد على وعي معتنقيه بشأن الموقف من الآخر ومن التعددية الدينية والثقافية.

من خلال هذا المنحى، فإن منشأ الفرقة والضعف والنزاع حسب منظور محمد عبده "طمع الحكام وفساد أهوائهم وحبهم الاستئثار بالسلطان دون سواهم"، ومصدر ذلك كله "جهلهم بدينهم، وارتخاء حبل التمسك به في أيديهم، وأكبر داء دخل على المسلمين في همهم وعقولهم إنما دخل عليهم بسبب استيلاء الجهلة على حكومتهم"، والجهلة عنده هم "أهل الخشونة والغطرسة الذين لم يهذبهم الإسلام ولم يكن لعقائده تمكن من قلوبهم، ولو رزق الله المسلمين حاكما يعرف دينه ويأخذهم بأحكامه لرأيتهم قد نهضوا والقرآن الكريم في إحدى اليدين وما قرر الأولون وما اكتشف الآخرون في اليد الأخرى، ذلك لآخرتهم، وهذا لدنياهم وساروا يزاحمون الأوروبيين فيزحمونهم" (محمد عبده، الأعمال الكاملة، الجزء الثالث).

نجد لدى محمد عبده نقدا حادا لما خلفته الرغبات الجامحة للحكام في تردّي الأوضاع، بل إن تردّي الوضع وما بلغه الحال في زمنه يعود في نظره إلى الطباع التي سيطرت على الممسكين بشؤون السلطة، وهي طباع تتسم بالخشونة والعنف اللذين يعودان إلى المكون الثقافي إن جاز القول، أي إلى أخلاق القبيلة القائمة على الغلبة والقوة، وليس إلى أخلاق الدين التي تنزع عن الإنسان لباس الغلظة والجهل والفظاظة.

هذا التفسير نجد جذوره عند ابن خلدون الذي تتبّع أوجه التأثير التي أحدثها الدين في طباع العرب الذين كانوا أهل بداوة وخشونة، ألفوا شظف العيش، فقام الدين بتطويع نفوسهم المناهضة للعمران والسياسة، وتكمن أهمية الفكر الخلدوني في رصد التحولات التي حدثت منذ انتظام العرب والمسلمين عموما في كيانات سياسية وأنساق حضارية متنوعة، إلى أن اضمحلّت تلك الأنساق وتفككت روابطها، كون ابن خلدون شاهدا قارئا ناقدا لكل تلك التمفصلات التي طبعت التاريخ الإسلامي، ثم باعتبار ابن خلدون أحد حلقات الوصل بين تاريخين في السياقين الحضاري والإسلامي، أي منذ تسجيله شهادة عن بداية الأفول، إلى بداية معالم التفكير النهضوي العربي والإسلامي في القرن الـ19 الذي استلهم بعض رموزه فلسفته في التحليل والنظر، ولعل أبرزهم خير الدين التونسي الذي كتب مقدمة كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" بأسلوب يستقي مفرداته من المعجم الخلدوني.

يشير ابن خلدون إلى عامل الدين في تمدين العرب ونقلهم من حالة الفوضى والخراب إلى العمران والحضارة قائلا "وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم، وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه. واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا، وتتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم" (ابن خلدون المقدمة، 164) حتى إن رستم -حسب ابن خلدون- علّق على ما رآه من تحول العرب وانتظامهم في الصلاة  قائلا "أكل عمر كبدي، يعلم الكلاب الآداب" (ابن خلدون، المقدمة، ص: 164).

تلك هي النقلة النوعية التي أحدثها الدين في السلوك الفردي وفي النظم الاجتماعية العربية وكل البلدان التي دخلها الإسلام وصارت تدين به في حقب معينة من التاريخ، لكن تعاقب الأجيال وتغير الأحوال أعادا العرب والمسلمين إلى وضعهم السابق من الفرقة والشتات، لا سيما في الزمن الراهن إذ أصبح دور العرب هامشيا في التاريخ ومسرح الأحداث السياسية والثقافية والحضارية، ولنبق مع نص لابن خلدون يصف فيه أسباب ذلك التردي قائلا "ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين، فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قفرهم، وجعلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النصفة، فتوحشوا كما كانوا، ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم… لكن بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة" (عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ص: 164، دار الفكر).

لقد كانت الأسباب المسهمة في التراجع والانكسار متداخلة، لكنها كامنة في الداء الذي أصاب نسق الحكم والسلطة، والتنازع بين أهل المدائن لما ضمر تأثير القيم والأخلاقيات الدينية في السلوك الفردي والاجتماعي، وفي ضبط سلوك الحكام والساسة، ومن ثم التأثير في النظم الاجتماعية وما يطبعها من أشكال للتعددية والاختلاف، وذلك أدى إلى فقد أحد أسباب النهوض، فالعوامل المؤثرة في النهوض هي نفسها الأسباب التي أدّت إلى التراجع والنكوص، تنبأ بذلك ابن خلدون حينما كان يعايش حالة التفكك والنزاع الذي قدم له أرضية للتأمل في منحنى النهوض والسقوط وهو الناظر الفاحص في أحوال السياسة والعمران والشرائع، واستعاده مفكّرو الرعيل الأول للنهضة العربية في تشخيص الوضع الذي آلت إليه حالة العرب والمسلمين في مختلف التمظهرات حين اصطدم الوعي العربي بفجر الحداثة يطلّ من الضفة الأخرى.

ختاما.. لقد كانت أسباب النزاع والخلاف المؤدي إلى الإضرار بالنسيج الاجتماعي وما يتخلله من أوجه التعددية، من خلال هذا المنظور النهضوي الذي يقدمه محمد عبده، قائمة في دائرة السياسة والنوازع المتحكمة في الاجتماع العربي والإسلامي، وليست في دائرة المعتقد والدين، حتى يتم إسباغ التاريخ الإسلامي بصبغة النزاع الديني، مما قد يجعل البعض يسجل غيابا للتسامح الفكري والقبول بالآخر؛ ذلك أن التنوع بقيت رموزه حاضرة في مختلف حقول المعرفة التي نشأت في البيئة الإسلامية والعربية، كما كانت التعددية تعبيرا عن غنى وثراء على مستوى النسيج الاجتماعي في لحظات الوهج الحضاري، في حين تكشفت إلى العلن مع التعصب الذي غذته دوافع وأسباب سياسية واجتماعية يستخدم الدين عادة فيها لحيازة شرعية الوجود السياسي، والقول بالجذور السياسية والاجتماعية لنشأة النزاع معناه طغيان النوازع السلبية لبعض أخلاق القبيلة والمكون الثقافي على سلوك الساسة والنخب، ذلك أن دائرة الاختلاف تتسع في دائرة الدين بالنظر إلى استناده إلى الحرية وعدم الإكراه، وتضيق في دائرة السياسة التي يتلبس فيها السلطان منطق القوة والقهر، كما سنرى حيثيات ذلك في المقالة القادمة.