مفهوم العالم الإسلامي.. أسطورة الوحدة والإسلام المجرد

التاريخ الإسلامي - تراث - البيوت في الحضارة الإسلامية
المجتمعات الإسلامية في القرن الـ19 لم تكن فعليا أقل تنوعا من سابقتها في الألفية السابقة، ولكن النخب الإصلاحية كانت تأمل في إعادة صياغة مجتمعاتها (الجزيرة)

نواصل تناول كتاب الدكتور جميل أيدن "فكرة العالم الإسلامي: تاريخ فكري عالمي"، والذي يطرح فيه أن العالم الإسلامي مفهوم كولونيالي علماني. ويجادل أيدن بأن العالم الإسلامي لم يستمد مفاهيميا وتاريخيا من مفهوم الأمة القرآني، وإنما هو مفهوم مفارق له، إذ ثمة انقطاعات بين كلا الكلمتين، فالأمة تشير إلى جماعة من المؤمنين، أما العالم الإسلامي فهو وحدة تحليل جيوسياسية، وهو يشير إلى جماعة عالمية تتشارك العادات والاهتمامات والخبرة السياسية على نحو مختلف عن الآخر غير المسلم.

والعالم الإٍسلامي كمفهوم هو مقابل الغرب المسيحي وفي صراع أبدي معه، وهو مفهوم يقوم على فكرة الإسلام المجرد الجامد المنزوع من سياقاته التاريخية الاجتماعية والثقافية.  وهو مفهوم يقتضي وحدة سياسية شاملة ويشهد سيولة في ترتيب كلّ من الأولويات الدينية والإستراتيجية عبر الزمن. وهو في النهاية يؤشر إلى فئة عرقية وحضارية لا جماعة من المؤمنين، وهو مفهوم يعيش دائما عملية مستمرة -من الخلق، والانقطاعات، والطفرات، وإعادة الخلق- تدور حول الخلافة والأمة والحراك الأممي الإسلامي.  وهو في النهاية ليس أكثر من مجرد وهم لا يزال مستمرا.

فالإسلاميون والغربيون -على السواء- يتحدثون عن "الغرب" وعن "العالم الإسلامي"، لكن أيدن يعد هذه الثنائية نوعا من "القَبَلية"، ويحاجج بأنها دعاية كولونيالية خطيرة، ويبني حججه عبر سردية تاريخية جينالوجية نقدية عابرة للقرون؛ ليبين حداثة فكرة العالم الإسلامي وكيفية تشكلها وتطورها، والجهود الدائمة لاستغلال هذه الفكرة لأغراض سياسية من قبل القوى الإسلامية والغربية على السواء. وينتهي أيدن إلى أن مفهوم العالم الإسلامي ذاته مفهوم علماني مخترع، وليس ثمة دليل أفضل على ذلك من حقيقة أن "العالم الإسلامي" أُنتج خطابيا في إطار الفعل ورد الفعل بين حملات التبشير والاستشراق من ناحية وناشطي الحراك الأممي الإسلامي والحداثيين/الإصلاحيين الإسلاميين في 150 سنة الأخيرة. وفي ما يلي نتناول أفكار وحجج أيدن الرئيسية والمحطات التاريخية التي توقف عندها.

إن التاريخ الإسلامي كما كتبه المؤرخون في العصر الحديث يفترض وحدة إسلامية كاملة وشاملة. ولكن رغم ذلك فإن الخبرة السياسية الإسلامية الحقيقية من القرن السابع وحتى القرن الـ18 تروي قصة عن التعددية والنزاع والتغير. ففكرة العالم الإسلامي ستظهر لاحقا جنبا إلى جنب مع السردية الحضارية للغرب والتي ظهرت متأخرا

أسطورة الوحدة والإسلام المجرد

يفترض مفهوم العالم الإسلامي وحدة سياسية شاملة ويستبطن كلا إسلاميا واحدا غير متمايز البتة. ولكن في الواقع وعلى العكس، فإن المجتمعات الإسلامية في القرن الـ19 لم تكن فعليا أقل تنوعا من سابقتها في الألفية السابقة، ولكن النخب الإصلاحية كانت تأمل في إعادة صياغة مجتمعاتها باعتبارها كذلك (أي باعتبارها أقل تنوعا)، وحولت تلك النخب مضمون ومبادئ الإسلام من طبيعتها الديناميكية إلى حالة سكونية من أجل خلق وحدة تؤدي إلى تمكين المسلمين. وقد استهدفت النخب الإٍصلاحية في القرن الـ19 وضع الإسلام في موضع الدين المتنور والمتسامح، ومن ثم وضع المسلمين في مكانة مساوية لسادتهم الغربيين من الناحية العرقية. ونتيجة لذلك ظهر مفهوم الإسلام مجردا، وقُدم هذا المفهوم عن الإسلام المجرد -وهو الجوهر الأساسي للإصلاح الإسلامي والحراك الأممي الإسلامي- في بداية القرن الـ20. والإسلام المجرد يعني تجريد الإسلام وجعله خاليا من سياقاته وعوامله الجغرافية والثقافية والتاريخية فيصير متحجرا ومتكلسا، بمعنى أن العقائد والشرائع الإسلامية ظلت جامدة وثابتة بشكل أزلي ولم تشهد أي نوع من التغير والتنوع، ومقتضى ذلك أن الإسلام شيء واحد سواء أكان في جزيرة العرب أيام الصحابة، أو في إندونيسيا من 700 سنة، وفي أميركا اليوم.

إن التاريخ الإسلامي كما كتبه المؤرخون في العصر الحديث يفترض وحدة إسلامية كاملة وشاملة. ولكن رغم ذلك فإن الخبرة السياسية الإسلامية الحقيقية من القرن السابع وحتى القرن الـ18 تروي قصة عن التعددية والنزاع والتغير. ففكرة العالم الإسلامي ستظهر لاحقا جنبا إلى جنب مع السردية الحضارية للغرب والتي ظهرت متأخرا، ولكن قبلها كان المسلمون في أجزاء متفرقة من العالم على اتصال عبر التعليم والتجارة والحج والسياسة والقرابة، وليس الدين فقط، وكذلك ليس عبر التنافس الجمعي مع الآخر غير المسلم. كما أن الولاءات السياسية وتصور المسلمين عن ذواتهم لم يكن نابعا بالأساس من الانتماء إلى كتلة دينية أو حضارية عالمية. ولم تكن هناك ثنائية واضحة بين الأراضي الإسلامية وغير الإسلامية. وإنه من غير الممكن أن نجد جذور التمييز الحديث بين الإسلام والغرب في العلاقات الإسلامية المسيحية بالعصر الوسيط. وإن غياب نظام سياسي إسلامي مبني حصرا على مفاهيم الخلافة والأمة لم يمنع من التشارك العابر للإمبراطوريات في الأعراف، والأحكام، والقيم النابعة من التقاليد الدينية والقانونية الإسلامية، وتناقلها. لكن الأهم أن المعرفة والممارسة الدينية المشتركة لم تعنِ أبدا أو تفترض وحدة سياسية عابرة للمعمورة، فالرحالة ابن بطوطة مثلا لم يكن لديه مفهوم مجرد وعالمي عن الحضارة الإسلامية.

فيما بين 1814 و1878 بدأت عملية التمييز العنصري ضد الهوية الإسلامية فيما بين عشرينيات وثمانينيات القرن الـ19، مثلها مثل التمييز العنصري ضد الهوية السمراء والهوية الآسيوية. وقد أدت هذه العملية إلى تحدي التوازن الإمبراطوري. وفي هذا الإطار ظهر الوعي العنصري بالوحدة والاختلاف العرقي والجيوسياسي المتعايش أحيانا مع الولاءات والحقائق الإمبراطورية والمناقض لها أحيانا أخرى، فالإمبراطورية تقتضي تحقيق المثال "الكوزموبوليتاني" وفحواه حماية الكرامة والحقوق المتساوية داخل وعبر الإمبراطوريات.

وكان هذا الوعي العنصري جديدا للغاية من الناحية التاريخية. ففي ظل الظروف السياسية كان المسلمون أحيانا غزاة فاتحين، وأحيانا أخرى رعايا مخلصين لإمبراطوريات حكمها المسيحيون، وأحيانا ثالثة خاضعين للاحتلال. وفي ظل هذه الظروف لم يكن من المنطقي اختزال عالم المسلمين إلى جماعة واحدة غير متمايزة. ولكن على الرغم من هذا، فقد بدأت مع الظروف المتغيرة في النصف الثاني من القرن الـ19 عملية تحويل المسلمين إلى آخر حضاري، وبدأ التمييز العنصري ضد المسلمين في الحواضر الأوروبية وفيما بين المسلمين أنفسهم.

وبالنصف الأخير من القرن الـ19، بدأ المستشرقون في إنتاج نظريات أكثر صلابة عن الهيراركية العرقية. وكانت هذه العرقية الجديدة هي التي تحداها نشطاء الحراك الأممي الإسلامي، لكن إستراتيجيتهم أتت بعكس ما أرادوا. فتأكيد نشطاء الحراك الأممي الإسلامي على الروابط الروحية مع الخليفة العثماني ومقارنة أوضاع المسيحيين العثمانيين بأوضاع المسلمين الخاضعين للحكم الأوروبي، شجع البارانويا الأوروبية حيال الصدام بين الإسلام والغرب، وكثف الحداثيون المسلمون الخطاب العرقي من خلال ردهم بفخر على المستشرقين مخاطبين مركزا إمبرياليا أوروبيا متخيلا. وفي تفاعلهم النقدي مع الحجج الاستشراقية والجيوسياسية، حوّل المفكرون المسلمون الإسلام والهوية الإسلامية إلى مفهوم مجرد متكلس وجامد.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.