الفضائل الفردية الاستثنائية للعلماء ومشكلة الحسابات الرياضية

يحكي الطبيب والفيلسوف المعروف أبو بكر الرازي (311هـ) أنه بلغ من صبره واجتهاده أن "كتب بمثل خط التعاويذ في عام واحد أكثر من 20 ألف ورقة". قال "وبقيت في عمل (الجامع الكبير) 15 سنة، أعمله الليل والنهار حتى ضَعُف بصري، وحدث علي فَسخ في عضل يدي يمنعانني في وقتي هذا عن القراءة والكتابة، وأنا على حالي لا أدعهما بمقدار جهدي، وأستعين دائمًا بمن يقرأ ويكتب لي".
وكنتُ قبل أيام نشرت هذا الخبر عبر صفحتي على فيسبوك؛ فعلق أحد الإخوة مشككًا في دقة الرقم الذي ذكره الرازي قائلاً "لو أنه كتب فعلاً 20 ألف ورقة في سنة؛ فمعناه أنه كان يكتب نحو 60 ورقة يوميًّا. ولو حسبنا له 8 ساعات من الكتابة المتواصلة دون التفات أو انشغال بأي وظيفة بشرية طبيعية، فمعنى هذا أنه كان يكتب حوالي 7 ورقات ونصف في الساعة بخط دقيق دون أن يقرأ أو يراجع شيئًا في مصدر هنا أو هناك، وعلى هذا النحو تستغرق الصفحة حوالي 8 دقائق. بهذه الحسبة يكون الكلام عن كتابة 20 ألف ورقة منطويًا على مبالغة كبيرة، بل هو في الحقيقة غير آدمي".
هذا المقال ليس دفاعًا عن الرازي، فلم أكتبه حرصًا على تثبيت الرقم الذي ذكره الرازي (وهو كتابة 20 ألف ورقة في عام)، ولكنه لبيان أن هذا الرقم يدخل في دائرة الممكن عقلاً؛ فخبر الرازي هو مناسبة تعيننا على التفكير النقدي أو نقد النقد؛ خصوصًا أن مثل هذه المنهج قد طبق على الأحاديث النبوية، بل على صحيح البخاري تحديدًا، وسبق لي أن فندت بعض الادعاءات المتصلة به في مقال سابق بعنوان "أكاذيب حول البخاري".
يثير لدي هذا النقد عدة تساؤلات؛ فهو نقد متنيّ (أي يتصل بمتن أو مضمون الخبر التاريخي)، ويتوسل أساسًا بحسبة رياضيّة لينتهي إلى إصدار حكم عقلي بنفي صحة أو دقة الخبر. وهذا أمر يغريني -شخصيًّا- بمناقشة الأصل المنهجي الذي يقوم عليه هذا النقد، وهو منهج النقد التاريخي الذي شاع في القرن 19، ولنعتبر خبر الرازي عن نفسه مجرد مثال للقيام بهذا التمرين النقدي لهذا المنهج.
فهذا المقال ليس دفاعًا عن الرازي، فلم أكتبه حرصًا على تثبيت الرقم الذي ذكره الرازي (وهو كتابة 20 ألف ورقة في عام)، ولكنه لبيان أن هذا الرقم يدخل في دائرة الممكن عقلاً؛ فخبر الرازي هو مناسبة تعيننا على التفكير النقدي أو نقد النقد؛ خصوصًا أن مثل هذه المنهج قد طُبق على الأحاديث النبوية، بل على صحيح البخاري تحديدًا، وسبق لي أن فندت بعض الادعاءات المتصلة به في مقال سابق بعنوان "أكاذيب حول البخاري".
وقد طُبق منهج النقد التاريخي على تحليل النصوص الأدبية والكتابية أولاً قبل أن يتم استخدامه في ميدان التراث الإسلامي، ويقوم هذا المنهج على عناصر رئيسة، هي:
- مبدأ الشك والارتياب في النص أو الخبر.
- اكتشاف الفروق اللغوية بين الروايات والأخبار؛ لأن اللغة أداة مهمة لاكتشاف النص الأصلي الذي يُفتَرض أنه موجود ولكن يفترض أصحاب هذا المنهج أنه تم التستر عليه أو التلاعب به.
- مبدأ القياس أو افتراض أن ثمة "قوانين طبيعية" حاكمة لجميع البشر، وهي تنطبق على كل المجتمعات البشرية؛ إذ إن روح التاريخ واحدة.
- مبدأ الاختلاف؛ فالحديث الذي يخالف الأرثوذكسية (أو الصراطية أو الاتجاه الرئيسي) من الأرجح أنه صحيح بخلاف الاتجاه العام أو السائد، أي تقديم الهامشي على السائد؛ لمجرد افتراض مسبق بأن السلطة السياسية فرضت هذا السائد وهمشت المهمَّش.
وقام هذا المنهج على مبدأ مركزي؛ هو نبذ الوثوقية التي يُزعَم أنها سادت في التراث الإسلامي، وأنها مسألة قد بولغ فيها وتم تلقيها من دون نقد كافٍ!
وإذا عدنا إلى خبر الرازي، فسنجد أن نقد الناقد هنا يتصل بالعنصر الثالث تحديدًا، وهو مبدأ القياس، أو افتراض أن ثمة "قوانين طبيعية"، وأن ما نعرفه من أحوالنا نحن يجب أن يجري على الرازي نفسه؛ لأننا جميعًا نخضع للقوانين البشرية نفسها، ولا بد هنا من توضيح أمرين مركزيين لتفنيد هذا الادعاء:
الأمر الأول: أن التحليل العقلي يفرض أهمية التمييز بين ما هو معتاد أو عادي في سلوك البشر، وما هو استثنائي؛ بسبب عوامل موضوعية تحكمها سياقات زمانية ومكانية وبشرية تتعلق بالقدرات والملكات الشخصية (سواءٌ الفطرية أو المكتسبة)، وتفاوت الناس في ما حباهم الله وفي اجتهادهم وغاياتهم وسِيَرهم الشخصية والعلمية أيضًا. وهذا كله يَحول دون وضع قانون واحد وطرده على جميع الأفراد في جميع الأمكنة والأزمنة، وأن ما يجري على الرازي في القرن الثالث الهجري يجب أن يجري بحذافيره على إنسان القرن 21.
يورد الرازي هذا الخبر حكاية عن نفسه في "السيرة الفلسفية" التي إنما كتبها ليحاجج ضد بعض منتقديه الذين لم يعدوه ضمن الفلاسفة، والفلسفة درجة رفيعة في تصورات فلاسفة اليونان والمتفلسفين على طريقتهم؛ إذ إنها تعني الإنسان الفاضل أو الكامل الذي يحصل السعادة من خلال طلبه للحكمة، وهذا يعني أنه يقف في أعلى السلم، وهي درجة تختلف عن عامة الناس؛ بل إن بعضهم كالفارابي (ت 339هـ) مثلاً جعل الفلسفة درجة أعلى من درجة النبوة، والرازي كان يتأسى بإمامه وإمام المتفلسفين سقراط (ت 399 ق.م). فهو يريد أن يثبت لقارئه أن سيرته سيرة فلسفية مطابقة للشروط، ويستحق بها لقب فيلسوف؛ بالمقارنة مع غير المتفلسفين. فقد سار على نهج الفلاسفة الكبار نظرًا وعملاً (أي في الحكمتين العلمية والعملية معًا، وهما جزءا الفلسفة)، ومن ثم فهو ليس كسائر الناس.
والصبر والجلَد ومدافعة الشهوات والتزهد في الحياة والاكتفاء منها بما تشتد إليه الحاجة ويصون بقاء النفس ويدفع عنها الألم، ويحفظ توازنها واعتدالها، بميزان الفلاسفة؛ كلها فضائل يجب على الفيلسوف أن يتحلى بها. وهذا يقتضي ترك كثير من المباحات أيضًا لأنها لا تليق بالفيلسوف، وهي ضرورية لتمرين القوة الناطقة (أو العقلية) حتى تتمكن من التحكم بسائر قوى النفس فتضبط قوتيها الشهوية والغضبية، وتبلغ كمالها الذي يقودها إلى السعادة التي هي الهدف الأسمى الذي يطلبه الفيلسوف.
وطريق هذه السعادة تحصيل المعارف النظرية (أو الحكمة النظرية)؛ فالمعرفة هي الفضيلة العظمى، وإذا كان لكل فضيلة طرفان؛ هي الواسطة بينهما متطرفان (إفراط وتفريط)، فإن الحكمة (أو العلم النظري) ليس لها طرفان؛ لأنها كلها فضيلة ولا حدود لطلبها. ولهذا تحدث الرازي في سيرته عن دفع الضرر وطلب المنابع في الجملة؛ ولكنه حين جاء إلى طلب المعارف قال "ولو أدى ذلك إلى ضرر"، وإنما وقع بالرازي الضرر الذي يحكيه من انفساخ عضل يده، وضعف بصره؛ للمبالغة في طلب المعارف، وإلا لو كان سلك في سيرته العملية مسلك الناس العاديين لما أصابه كل هذا، ولفسد المعنى الذي يحاول إثباته لقارئه والاحتجاج به على من يعترضون على كونه فيلسوفًا.
وقد كان من طبيعة الرازي أو خصاله ما وصف به نفسه حين قال "فأما محبتي للعلم وحرصي عليه واجتهادي فيه؛ فمعلوم عند من صحبني وشاهد ذلك مني أني لم أزل -منذ حداثتي وإلى وقتي هذا- مكبًّا عليه، حتى إني متى اتفق لي كتاب لم أقرأه أو رجلٌ لم ألقه، لم ألتفت إلى شغل بتة -ولو كان في ذلك علي عظيمُ ضررٍ- دون أن آتي على الكتاب وأعرف ما عند الرجل". وهو إنما يقول هذا أو يكتبه بعد أن أصابه ما أصابه من عطب، وبعد أن كتب قرابة 200 كتاب ومقالة ورسالة حتى تاريخ كتابته رسالته المسماة "السيرة الفلسفية".
وعليه، فإن "الآدمي وغير الآدمي" -الذي يرد في تعليق الناقد- هي درجة دنيا لعامة الناس لا درجة الكُمَّل من الناس والتي يسعى إليها الفيلسوف، ومن ثم فإن ما يعتبره الناقد لخبر الرازي هنا "آدميًّا" يعتبره الفيلسوف نقيصة في حقه تنزل به إلى درجة العامة، وتنحط به عن الفضيلة والسعادة معًا؛ لأن طلبه الحكمة النظرية (الفلسفة) هو الذي بلّغه هذا المبلغ في رأيه، ومن ثم فالرقم الذي يذكره الرازي هو من الممكن العقلي، ودليل على بلوغ صاحبه درجة الحكمة أو الفلسفة، وهذا يقودنا إلى ضرورة التمييز هنا بين الممكن والمستحيل عقلاً، وكتابة هذا الرقم الضخم من الصفحات ليس مستحيلاً، ولكنه بالتأكيد خارق لمألوفنا لا للمعقول.
الأمر الثاني: أن الحسابات الرياضية لا تجري على قانون عام في غير مجالها الرياضي التجريدي؛ لأن تطبيقاتها تختلف باختلاف الأشخاص لوجود عوامل موضوعية وفروق فردية تجعلها صادقة في حق أناس دون أناس، أو في حق الأشخاص العاديين دون الاستثنائيين، وفي هذه الحالة فالحساب الرياضي لا يحيل صحة الخبر عقلاً، ولكنه ينقل صاحبه من مرتبة العادي إلى مرتبة الاستثنائي، ومن ثم تُقدم الاعتبارات السابقة تسويغًا لكون الاستثنائي استثنائيًّا.
لنتأمل الحسبة الرياضية التي قام بها ناقد خبر الرازي هنا، سنجد أنها تقوم على اعتبارات مغلوطة تتمثل في نقاط:
النقطة الأولى: أنها تقيس شخص الرازي وممارسته على أي شخص عادي يعمل لمدة 8 ساعات فقط من أصل 24 ساعة في اليوم؛ رغم أن الرازي نفسه يتحدث عن مواصلة الليل بالنهار في عمله وطلبه للمعارف، وأنه لا يعتبر الضرر في سبيل طلب المعرفة ضررًا يُجتَنب، وأشك أن عالمًا متمكنًا من العلماء في أي زمان كان، يقرأ ويكتب فقط لمدة 8 ساعات، أو أنه ينهج نهج الأوروبيين في تقديس أيام عطلة نهاية الأسبوع ولا يواصل عمله فيها، فضلاً عن أن يكون فيلسوفًا يتبنى السيرة الفلسفية التي تحدث عنها الرازي، بل إنه قد أبان هو نفسه عن أن من طلب الحكمة في وقت فراغه لم يصل إليها، ومن أراد تحصيلها في مدة قصيرة لم يشم رائحتها؛ لأن التفرغ والمواظبة شرطان ضروريان لتحصيلها على وجهها التام؛ شأن باقي الصناعات والعلوم، وقد قيل: إن العلم إن أعطيتَه كلك أعطاك بعضه، فليت شعري كيف يستقيم لعالم أو متعلم أن يكتفي بـ8 ساعات في اليوم، أو كيف تطيب نفسه وتركن إلى أن يمر عليه زمان -مهما قَصُر- دون أن يتفكر أو يتعلم!
النقطة الثانية: أن الرقم الذي عيّنه الرازي لم يكن هو المقصد؛ بل هدفه أن يوضح تفرغه ومبلغ صبره وجلَده على طلب المعارف، وأيّ نوع من النفوس يملك، وأنها نفسٌ تتحقق فيها شروط السيرة الفلسفية، وإلا فإن الخوض في تفاصيل الرقم وفق قوانين الحساب الرياضي يقضي بالبحث عن أسئلة تفصيلية مهمة من شأن الإجابة عليها أن تؤثر في كيفية الحساب ومعاييره ودقة نتائجه، من قبيل عدد ساعات الكتابة؛ علمًا بأن اليوم 24 ساعة، وعدد ساعات نومه، خصوصًا أننا نعرف من سيرة الرازي أن الفيلسوف الفاضل يسلك في اللذات الجسدية مسلك من يطلب منها "ما لا بد منه" فقط دون التلذذ به، أي يطلب منها ما يقتصر على مجرد دفع الألم، خصوصًا أن اللذة عند الرازي هي دفع الألم والعودة إلى الحالة الطبيعية.
ومن الأسئلة التي يتعين الإجابة عنها قبل الحسبة الرياضية أيضًا: ما نوع المكتوب هنا؟ فنحن نعرف أن طبيعة المكتوب تؤثر في معدل السرعة، فهل كان يلخص أعمالاً سابقة لنفسه أو يُنشئ أعمالاً إنشاءً؟ وهل كتب هذا الرقم الضخم في مرحلة النضج أو في مرحلة الابتداء؟ فنحن نعرف أن العالم في كل فن يمر بمراحل في طلبه للعلم: الابتداء ثم التوسط ثم النضج، ولهذا نشأت مصنفاتٌ هي تبصرة للمبتدي وتذكرة للمنتهي، ولا شك أن كل مرحلة تختلف عن الأخرى في درجة التمكن، ومن ثم تتفاوت الحاجة إلى مراجعة المصادر. ومن ثم فالحسبة الرياضية يجب أن تختلف؛ لاختلاف قوانين المحسوب والعوامل المحيطة بالسياق. أضف إلى ذلك أن الكتابة على الورق وبالقلم مهارة، وهي تختلف سرعة وبطأً، وضوحًا ووعورة، تفننًا واضطراب خطٍّ، بين كاتب وكاتب، وقد كان ابن تيمية مثلاً سريع الكتابة ولكن خطه في غاية التعليق والإغلاق؛ حتى لا يكاد يُقرأ.
النقطة الثالثة: أن عنصر الزمن وبركته مسألة شديدة الأهمية هنا، ولا تجري على قانون واحد بين أهل القرون الأولى وأهل قرون الحداثة، فالتحديث خلق كثيرا من الحاجات التي صارت أشبه بالضروريات يظن الإنسان أن حياته لا تستقيم من دونها، وهي تستهلك وقتًا وجهدًا وفكرًا، في حين أن أهل الأزمنة الأولى كانت حاجاتهم متواضعة وأوقاتهم أبرك وأوسع، وتحصيلهم وإنتاجهم أغزر وأعمق، هذا فضلاً عن كيفية استثمارهم أوقاتهم، وإلا كيف نفهم ظاهرة نجدها في كتب تراجم العلماء، وهي أن متوسط أعمارهم (وربما أعمار أناس زمانهم أيضًا) بين 50 و60 سنة هجرية (بالتاريخ الميلادي ستكون أقل بنحو سنتين تقريبا)، فالشافعي (ت204هـ) عاش نحو 54 سنة، والغزالي (ت505هـ) عاش نحو 55 سنة، والنووي (ت676هـ) عاش نحو 45 سنة، والزركشي (ت794هـ) عاش نحو 49 سنة، والسيوطي (ت911هـ) عاش نحو 62 سنة، وابن نجيم (ت970هـ) عاش نحو 44 سنة، وعامة هؤلاء شكلوا علامات فارقة، وقبل وجود الكهرباء ووسائل الحياة المريحة وتقنيات الكتابة الحديثة على الكمبيوتر وغيره وقبل وجود محركات البحث الرقمية.
وقد بلغت مؤلفات السيوطي نحو 600 كتابـ، وفيها موسوعات ضخمة، وهي ظاهرة سادت في العصر المملوكي. وقد فرض علينا السياق هنا التركيز على الحسبة الرياضية والكم دون الكيف، وإلا فبين الأسماء المذكورة سابقًا تفاوتٌ ظاهر في الكيف والقدر؛ فمنهم المُنشئ، ومنهم المؤلّف سواءٌ كان جمّاعًا محررًا أو محققًا لمسائل العلم.
النقطة المركزية التي تشكل محور هذا النقاش هي أوجه الخلل في المقايسة بين البشر مع اختلاف الزمان والمكان والإمكانات والسمات الفردية التي تسم أبناء كل جيل؛ رغم وجود عوامل كثيرة كافية لتفسير الفارق، بل إنه لا مفر من التحقيب التاريخي هنا واستكشاف القوانين السائدة في كل حقبة على حدة، وإذا كنا سنبحث في مدى دقة الرقم الذي ذكره الرازي؛ فالمنهج ليس هو القيام بحسبة رياضية على شاكلة ما فعله الناقد لكلام الرازي، بل العودة إلى العرف العلمي الجاري بين العلماء والنساخ المبرزين (أي الذين عُدوا استثناءً)، وذلك لندرك حالة الرازي بين أقرانه ضمن فئة الاستثنائيين لا فئة العاديين، وفي مرحلة ما قبل العصر الحديث تحديدًا؛ نظرًا لأوجه التشابه التي وسمت عصرهم في ما يخص التحصيل العلمي وتقنيات الكتابة.
ولا بد هنا من التمييز بين صنفين من الكتابة؛ كتابة العلماء وكتابة النساخ؛ فالمفترض أن عمل الناسخ عمل تقني الطابع، ومعدل الكتابة المفترض أكبر وأسرع من عمل المصنف الإبداعي، وقد وجدت أن معدل الكتابة للعالم المتوسع هو 4 كراريس في اليوم والليلة، وقد يزيد على ذلك، وهذا ممكن بناء على نماذج تبدو نادرة ولكنها لا تصل إلى 9 كراريس، وهو ما استبعده جدًّا ابن خَلِّكان (ت681هـ)، واعتبره منافيًا للإمكان العقلي. أما معدل كتابة الناسخ فقد يصل في حالات نادرة إلى 10 كراريس في اليوم والليلة.
والكراسة عبارة عن ورق بعضُه داخل بعض (أي مثل الدفتر أو الجزء اللطيف الحجم)، وقد أفاد غير واحدٍ من العلماء بأنها عبارة عن 10 أوراق، وأفاد عبد القادر النعيمي (ت927هـ) أنها تتضمن 15 سطرا، وبعض النسخ الخطية من كتاب "الكنى والأسماء" للإمام مسلم بن الحجاج (ت261هـ) قد جُزّئت إلى 5 كراريس في 62 ورقة، وقد كانت عدة كل كراسة 12 ورقة ما عدا الكراسة الأولى فقد كانت 14 ورقة، وهي نسخة كُتبت في القرن الرابع الهجري، وبناء على هذه الحسبة؛ فإن كتابة 60 ورقة في اليوم أمر ممكن وقريب من الواقع الاستثنائي للمبرزين.
وسأكتفي بذكر 3 نماذج من العلماء المكثرين من الكتابة لبيان مبلغ ما وصلوا إليه من الكتابة في اليوم والليلة:
النموذج الأول: أبو الفرج ابن الجوزي (ت597هـ):
كان مكثرًا جدًّا من الكتابة والتصنيف، وكتبه أكثر من أن تُعد، وقد كتب بخطه شيئًا كثيرًا، وكان لا يضيّع من زمانه شيئًا، وقد ذكرت كتب التراجم أنه كان يكتب في اليوم 4 كراريس، ويرتفع له كلّ سنةٍ من كتابته ما بين 50 إلى 60 مجلّدا. وله في كل علم مشاركة، وكان يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه، وما يفيد عقله قوة، وذهنه حدة. وقد أُخذت عليه أوهامٌ؛ لأنه كما قال الإمام الذهبي "صنف شيئًا لو عاش عمرًا ثانيًا لما لحق أن يحرره ويتقنه".
وانتقد ابن خلكان بعض المبالغات التي ذكرها بعض المترجمين بشأن كثرة كتابة ابن الجوزي، فقال "والناس يغالون في ذلك حتى يقولوا: إنه جُمعت الكراريس التي كتبها وحُسبت مدة عمره وقُسمت الكراريس على المدة، فكان ما خص كل يوم 9 كراريس، وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل". فابن خلكان استكثر هنا رقم 9 بالنظر إلى حساب عمر الرجل، في حين اتفقت كتب التراجم الأخرى على رقم 4 في كل يوم.
النموذج الثاني: تقي الدين بن تيمية (ت728هـ)
كان أيضًا مكثرًا من التصنيف، حتى قالوا في ترجمته: إنه لو أراد -رحمه الله- أو غيره حصر مؤلفاته لما قدروا؛ لأنه ما زال يكتب، وقد ذكر مترجموه من تلامذته أن الله قد منّ عليه بسرعة الكتابة، وكان يكتب من حفظه من غير نقل، أي لم يكن عنده أثناء الكتابة ما يحتاج إليه ويراجعه من الكتب، كما أوضح ذلك تلميذه الذهبي. وقال تلميذه ابن عبد الهادي (ت744هـ) "وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلدًا لطيفًا في يوم، وكتب غير مرة 40 ورقة في جلسة وأكثر، وأحصيتُ ما كتبه وبيضه في يوم فكان 8 كراريس في مسألة من أشكل المسائل، وكان يكتب على السؤال الواحد مجلدًا. وأما جوابٌ يكتب فيه 50 ورقة و60 و40 و20 فكثيرٌ". وقال أيضًا "أملى شيخنا المسألة المعروفة بالحموية بين الظهر والعصر"، وبلغت هذه المسألة في نسختها الخطية التي بين يدي 43 ورقة.
الثالث: عبد الرزاق بن أحمد بن الفوطي (723هـ)
المحدث والمؤرخ والأخباري والفيلسوف صاحب التصانيف، اشتغل على نصير الدين الطوسي في بغداد بعلوم الأوائل، وبالآداب والنظم والنثر، ومهر في التاريخ، وذكرت كتب التراجم أنه كان "له ذهن سيال، وقلم سريع، وخط بديع إلى الغاية. قيل إنه يكتب من ذلك الخط الفائق الرائق 4 كراريس، ويكتب وهو نائم على ظهره".
أما النساخ الذين عُرفوا بكثرة الكتابة فسأكتفي بذكر 4 نماذج منهم، وهم:
النموذج الأول: عليّ بن الحسن بن طاوس بن سِكْر
(وضُبطت في بعض كتب التراجم: سُكّر) المعروف بتاج القُرَّاء (ت483 أو 484هـ)، فقد كان يكتب في كل يوم -إذا أُملي عليه- نحوا من 4 كراريس، وكتب شيئا كثيرًا، وقد ذكر غير مرة أنه نسخ 81 أو 83 ختمة، ونحوا من 30 ألف ورقة.
النموذج الثاني: علي بن عبد الرحمن بن علي البكري (630هـ)
وهو ابن أبي الفرج بن الجوزي، وقد ذكر مترجموه أنه كان يكتب في اليوم 10 كراريس، ولكنه كان قليل المعرفة.
النموذج الثالث: أحمد بن عبد الدائم (668هـ)
العالم، مسند الوقت أبو العبّاس المقدسي الحنبلي الناسخ. كتب بخطّه المليح السّريع ما لا يوصف، سواءٌ لنفسه أم بالأجرة، وكان يكتب في اليوم إذا تفرّغ 9 كراريس أو أكثر، ويكتب الكرّاسين والثّلاثة في يوم وليلة مع اشتغاله بمصالحه.
وكان كتب "مختصر الخرقيّ" في الفقه الحنبلي في يوم وليلة، ونظرت في النسخة الخطية التي بين يدي منه فوجدتها تبلغ 121 ورقة، وقد كان متمرسًا؛ فقد لازم النّسخ 50 سنة أو أكثر، وخطه لا نقط فيه ولا ضبط. وفي بعض كتب التراجم أنه قال: كتبت بإصبعيّ هاتين أكثر من ألفي مجلّد، وكان قد أضرّ في آخر عمره.
وأورد صلاح الدين بن أيبك الصفدي (764هـ) حكاية عنه أنه قيل إنه كان يكتب مختصر القدوري في الفقه الحنفي في ليلة واحدة، ثم قال "وعندي أن هذا مستحيل". ونظرت في النسخة الخطية التي بين يدي من مختصر القدوري فوجدتها بلغت 192 ورقة، وهذا كثيرٌ جدًّا ولا يُتصور.
النموذج الرابع: محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي (830هـ)
وكان قد صحب الشيخ بهاء الدين الكازروني مدة ونسخ له كثيرًا، "وكان أحد الأفراد في كثرة النسخ؛ حتى كان ينسخ في اليوم 5 كراريس، فإذا تعب اضطجع على جنبه وكتب 5 أخرى كما يكتب وهو جالس، وكتب ما لا يدخل تحت الحصر". يقول الحافظ ابن حجر عنه "كان عديم النظير في الذكاء وسرعة الإدراك؛ إلا أنه تبلد ذهنه بكثرة النسخ".
توضح النماذج السابقة القدر المعقول في الممارسة العلمية التاريخية الخاصة بتقليد الكتابة قبل العصر الحديث، وأن ثمة سمات خاصة دالة على فضائل الأفراد من العلماء والنساخ المبرزين، وهي سمات فردية غير قابلة للتعميم والقياس على كل أحد؛ لأنها فضائل فردية بها صاروا مبرزين أو حالة استثنائية، ومن ثم فإن القانون الرياضي لا يلغي استثنائيتهم؛ لأنه إنما ينطبق على الأحوال العادية، لا سيما أن تلك النماذج -لا سيما من العلماء- تمتعت بخصال مكّنت أصحابها من أن يكونوا استثناء؛ كسرعة الكتابة، وسيلان الذهن، والحفظ الواسع من دون الحاجة إلى مراجعة المصادر، والذكاء النادر، واستثمار الوقت، والتفرغ للعلم. أما بالنسبة للنساخ فإن من تمرس منهم لعقود في الكتابة وتمتع بمهارات خاصة كالكتابة في أحوال مختلفة قاعدًا ومضطجعًا فلا شك سيكون معدل إنتاجه أضخم. والله يخص بنعمته من يشاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.