الإسلاموية والعلمانية في الربيع العربي.. تغطية الاستقطابات

الثورة المصرية بذكراها الثامنة.. أزمات اقتصادية طاحنة تعيشها البلاد
(الجزيرة)

يجادل كاتب هذا المقال بأن خبرة الربيع العربي -خاصة في الموجة الثانية منه- قد تجاوزت ثنائية العلماني الإسلامي التي حكمت الموجة الأولى وجعلها البعض عائقا كبيرا أمام التحول الديمقراطي ومصدرا رئيسا لعدم الاستقرار السياسي في المنطقة، بل يزعم كاتب هذه السطور أن الاستقطاب الإسلامي العلماني ومنذ الموجة الأولى قد استخدم للتغطية على الاستقطابات الحقيقية التي طرحتها سردية الانتفاضات العربية.

المفاهيم والمصطلحات

لا ينبغي أن يُنظر إلى العلمانية و"الإسلاموية" في سياق الربيع العربي على أنهما مفهومان متعارضان بل هما أيديولوجيتان كبيرتان تهدفان إلى إعادة صنع الإسلام في العصر الحديث، وفي أثناء فعل ذلك يخلطون المقدس بالعقل البشري مما أدى إلى ظهور كثير من الأيديولوجيات الفرعية التي تظهر عددًا من الاختلافات والتشابهات.

العلمانية -في هذا السياق- أيديولوجيًا هي سياسية أو نظرة عالمية -بأشكالها الشمولية- تهدف إلى إعادة تشكيل الإسلام على ظروف الحداثة، وتقييد وظائفه ومظاهره الاجتماعية والسيطرة عليها في المجالين العام والخاص. أما "الإسلاموية" فليست مساوية للإسلام، وكمفهوم، فهي أحد التجليات الحديثة للإسلام، الذي يشير إلى أيديولوجية سياسية تشكل أفكارًا للتنظيم السياسي والاجتماعي المستوحى من تعاليم الشريعة، وحركة اجتماعية تشارك بشكل روتيني في الأنشطة السياسية والتعبئة باسم الإسلام.

وإذا كان ذلك كذلك؛ نصبح إزاء صراع على أنماط تدين متعددة لها تجلياتها في الاقتصاد والسياسة كما في الاجتماع والثقافة؛ خاصة أن كليهما ليس من الفئات الثابتة المتنافية؛ بل من المفاهيم أو اللافتات الكبرى التي تتجمع تحتها اتجاهات وتوجهات مختلفة.

وهنا يصبح السؤال عن طبيعة الصراع الإسلامي العلماني كما ظهر في الربيع العربي، وعلى ماذا حدث؟

يقدم لنا د. محمد عفان في أطروحته للدكتوراه التي تقدم بها إلى جامعة إكستر البريطانية (أغسطس/أب 2020) وحملت عنوان "العلمانية في مواجهة الإسلاموية: مسارات متباينة للمفاوضات الانتقالية في مصر وتونس"؛ يقدم لنا إجابة مفادها "يمكن تلخيص الأسباب الجذرية لهذا الصراع في دراسات الحالة [يقصد مصر وتونس] في 3 قضايا رئيسة هي الترتيبات السياسية لتقاسم السلطة أثناء الفترة الانتقالية، والأداء الضعيف للحكومات التي يسيطر عليها الإسلاميون، والخلافات الأيديولوجية في الدستور، أي عملية صنع المواد المتعلقة بالدور السياسي والاجتماعي للإسلام، وما إذا كان ينبغي تكريس الشريعة في الدستور، وكذلك عالمية حقوق الإنسان، وحرية العقيدة".

عند هذه النقطة يجدر بي تقديم الأطروحة الأساسية لهذا المقال؛ وهي أن الصراع الإسلامي العلماني في الربيع العربي كان ولا يزال ذا طبيعة سياسية تختبر فيها أطرافه المتعددة موازين القوى فيما بينها في ظل هواجس ومخاوف متبادلة، وعدم يقين من نتائج العملية السياسية، وامتزاج شديد للمشاعر الدينية بالمصالح السياسية، وأن ما ظهر من صراع على موقع الشريعة من الدستور لم يكن -من وجهة نظري- إلا صراعا على النفوذ وبحثا عن التأييد السياسي واستخداما للتعبئة والحشد للمؤيدين؛ فالشريعة كانت إحدى أدوات الصراع ولم تكن جوهره.

ولقد أبرزت الموجة الثانية هذه الحقيقة بجلاء؛ لأننا بتنا أمام فواعل تسيطر على سلوكها السياسة أكثر من الأيديولوجيا، ففي الموجة الأولى كانت حركات الإسلام السياسي في المعارضة التي تكافح ضد الحكام والأنظمة القائمة. وفي الموجة الثانية؛ الإسلاميون-والموجة-الثانية-من-الربيع في 3 من الحالات الأربع التي وقعت فيها الاحتجاجات (لبنان والسودان والعراق)، نرى الإسلاميين إما حكامًا أو داعمين للنظام الحالي، وهذا يخلق ديناميكية مختلفة تمامًا للإسلام السياسي؛ ففي بعض البلدان، حشدت فصائل الإسلاميين في المعارضة ضد أقسام أخرى من الإسلاميين في السلطة، ويمكن تفسير ذلك على أنه تعبير عن تعميق الانقسام داخل الحركات الإسلامية في العالم العربي أو أنه فرصة لعدد لا يحصى من الإسلاميين لتوضيح مواقفهم المتباينة بشأن القضايا السياسية الرئيسة، كما يتعلق الأمر بالتعددية التي باتت حقيقة واقعة في مجمل التيارات السياسية العربية.

أنا أدرك أن مشروعات الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعنى الواسع لمفهوم السلطة، إنها شكل أو مقترح للحياة ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته، وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتصور معرفي للحياة والدولة تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده، تصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.

سردية الربيع العربي

يدرك كاتب هذه السطور أن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن الـ20، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد؛ فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها. القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة فالقديم قاد إلى الانفجار، ولم يعد قادرا على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة، لكنّ الجديد لم يتبلور بعد، واللحظة ليست خواء كما يظن البعض، بل تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة المؤسسات والقوى والأحزاب السياسية على التقاط مقومات هذه اللحظة سيستردون حضورهم وثقة المواطنين التي تؤكد كثير من استطلاعات الرأي أنها تراجعت إلى حد كبير.

أنا أدرك أن مشروعات الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعنى الواسع لمفهوم السلطة، إنها شكل أو مقترح للحياة ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته، وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتصور معرفي للحياة والدولة تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده، تصور للذات والآخر يعبّر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.

وسردية الانتفاضات العربية بحث عن عقد اجتماعي جديد يعاد به بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة هي الحرية/الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية. وهذا الحلم يكاد يكون عليه توافق من الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا وبعض شرائح من الطبقة الوسطى العليا، لكن قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغ.

إعادة هندسة الاستقطابات

تقدم لنا دراسات المراحل الانتقالية سلسلة من اللحظات التي قد يستلزم كل منها ميثاقا أو اتفاقيات منفصلة، إلا أنه يمكن الحديث عن محطات مفصلية ثلاث:

1- اللحظة العسكرية عندما تدور المفاوضات حول الظروف التي سيمتنع فيها الجيش عن تعطيل عملية الانتقال والتخلي عن مطالبته بالحكم، وتهدف هذه الشروط عادة إلى حماية الجنرالات من أي عمل انتقامي وحماية المصالح الحيوية للمؤسسة العسكرية.
2- اللحظة السياسية التي تأتي بعد التأكد من عودة الجيش إلى ثكناته، والهدف من هذه المفاوضات هو وضع لوائح بشأن المنافسة بين النخب السياسية، وتقاسم المنافع بينها بشكل متناسب، والحد من أجندة سياستها، وتقييد مشاركة المتطرفين في صنع السياسات.
3- آخر ما سيأتي هو اللحظة الاقتصادية التي تهدف إلى المساومة على المصالح الطبقية وضمان حقوق الملكية للبرجوازية والطبقة العاملة وسياسات العدالة الاجتماعية.
إلا أن خبرة مصر في الربيع العربي تقدم لنا لحظة رابعة يقتضي فيها الأمر إنشاء عدد من المواثيق؛ وهي اللحظة الاجتماعية التي تبرز فيها قضايا المرأة والأسرة  بشكل كبير في ظل محاولة للتراجع عن المكتسبات التي تحققت في هذا المجال بحجة أنها من بقايا النظام البائد.

يدرك الكاتب أن دوافع الانتفاضات العربية شديدة التنوع والتعقيد، واختلطت فيها اللحظات الأربع مع بعضها بعضا؛ لذلك كان من الصعب تنظيم مفاوضات/حوار بجدول أعمال واضح، ومع هذا فإنه يمكن الإشارة إلى الملاحظات الآتية:

1- من السمات البارزة أن سياسات العدالة الاقتصادية والاجتماعية كانت شبه غائبة عن جميع أجندات المفاوضات مع أن الأداء الاقتصادي الضعيف وسياسات الضمان الاجتماعي غير الملائمة كانا من المظالم الرئيسة وراء انتفاضات الربيع العربي، لكن الإدارة الانتقالية تجاهلت ذلك إلى حد كبير.
2- رغم أن الانتقال في كل قطر عربي كانت له خصوصيته، فإن من الملاحظ فيها جميعا أن النظام القديم نجح في الاحتفاظ بدرجة متفاوتة من النفوذ السياسي عن طريق مؤسسات متعددة اختلفت من قطر إلى آخر؛ وكان ذلك من خلال المؤسسات الوصيّة مثل المجلس العسكري في مصر، أما في بلدان أخرى فقد حافظ النظام القديم على نفوذه عن طريق الأحزاب أو رجال الأعمال.. إلخ.

إن استمرار النظام القديم كان يستدعي بالضرورة إعطاء الأولوية لتفكيك بنية الاستبداد التي هي عميقة وممتدة في الأنظمة العربية وتأخذ قوة دفع من شبكات الامتياز الدولية والإقليمية.
كما أن هذا الاستمرار من شأنه أن يعيد تصنيف القوى والمؤسسات السياسية إلى قديم وجديد تمثله قوى التغيير، ومن شأن ذلك أن يعيد الفرز داخل الإسلاموية والعلمانية لأن كلا منهما يتوزع على القديم والجديد أيضا. ولقد مثلت جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية المصرية عام 2012 لحظة كاشفة لهذا التصنيف الجديد الذي سرعان ما تم التراجع عنه لمصلحة الانقسام الإسلامي العلماني.
ولا نتجنّى هنا إذا قلنا إن الانقسام الإسلامي العلماني كان أحد الأسباب الرئيسة وراء النكوص عن الثورة المصرية، وإنه سهّل إعادة إنتاج الاستبداد مرة أخرى حين استطاع المجلس العسكري أن يوظف هذا الاستقطاب لمصلحة استمرار مشروعه لحكم مصر.

3- تشابه الإسلاميون والعلمانيون -وإن بدوافع مختلفة- في تبنّيهم لعقيدة شمولية تُعلي من شأن السلطة على حساب المجتمع؛ فالاثنان يجعلان منها المركز في تحويل مشروعهما إلى واقع، فالإسلاميون يقولون بمحورية السلطة لتطبيق الشريعة، والعلمانيون نتاج نظرتهم الدونية لشعوبهم حين يصمون ثقافتهم بالتخلف عن الحداثة، فتصبح السلطة أداة أساسية لتغييره والوصول به إلى التقدم.
وغاب عند مناقشة الدساتير الحديث عن طبيعة الدولة العربية في حقبة الربيع العربي خاصة من ناحية علاقتها بالمجتمع، وكيفية بناء الديمقراطية التشاركية باعتبارها أحد أهم تجليات الحراك في هذه الانتفاضات.

وهكذا استخدم الاستقطاب الإسلامي العلماني للتغطية على أنواع أخرى منه كانت أولى بالاهتمام مثل الصراع بين سياسة الشارع وبناء المؤسسات، أو الصراع بين الجهوي/المحلي والمركزي، والصراع بين الثوري والإصلاحي، وأخيرا بين المطالب الاجتماعية/الاقتصادية والسياسية.

ولا يزال السؤال مطروحا: هل تبقّى من الاستقطاب الإسلاموي العلماني شيء إذا فصل بين السياسي والثقافي/الدعوي الذي هيمن على ممارسات الطرفين السياسية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.