الجيش المصري بعد عقد من يناير.. ما الذي يجب أن نتابعه؟
ناقشت في مقال آخر موقف المؤسسة العسكرية المصرية من انتفاضة 2011، وانتهيت استنادا إلى كتاب "نهاية اللعبة" لهشام بو نصيف -الذي صدر هذه الأيام- إلى أنه "يجب أن نتذكر أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان بمثابة عصبة عسكرية مناهضة للثورة بشكل جوهري في عام 2011 وما بعده".
ونحاول في هذا المقال صياغة منظور يمكن بالحوار حوله أن تتابع قوى التغيير في مصر، وتفسر ما يخطه نظام 3 يوليو/تموز من سياسات، وما يتخذه من قرارات ويسنه من قوانين؛ خاصة من جهة تأثيرها على حلم التغيير، الذي دشنته ثورة يناير/كانون الثاني؛ والذي يزعم كاتب هذه السطور أنه ما زال يعيش في الأفئدة؛ فجوهر الربيع العربي -في موجتيه- تطلع الشعوب العربية -خاصة الفئات الشابة منها- للحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد، واحتجاج على الفساد وسوء توزيع الدخل.
قبل أن نترك هذه المقدمة يحسن أن نذكر بعدد من القواعد:
1- "إن جمهورية مصر الثانية لن تولد؛ إلا عندما تزول جمهورية الضباط من الوجود" -كما يرى يزيد صايغ في كتابه "فوق الدولة"– ؛ لكن تفكيكها سيستغرق وقتا.
2- إن المستبدين يقدمون دائما منع الانقلابات على جميع الاعتبارات الأخرى، بما في ذلك الأداء العسكري في ساحة المعركة؛ لكن الربيع العربي -بموجتيه- يروي قصة ما يحدث للحكام المستبدين، الذين يعدون جيوشهم لإحباط الانقلابات؛ لكنهم يواجهون بشكل غير متوقع انتفاضات شعبية ضخمة بدلا من ذلك.
3- لا يمكن الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية إذا ظلت القوات المسلحة متماسكة وموالية للقوى الموجودة. بعبارة أخرى، يمكن أن تؤدي الانتفاضات الشعبية إلى الانهيارات الاستبدادية، فقط عندما تكف الجيوش عن الدفاع عن الوضع الراهن، ويمكن للطغيان أن يستمر لسنوات وعقود من الزمن عندما يستمر جهاز قسري ملتزم بالوضع الراهن.
في كل موجة ديمقراطية جديدة تتحدى السلطوية؛ كان السؤال المركزي هو نفسه: هل سيستجيب الجيش لدعوة القمع، أم سيكون جزءا من "تحالف منشق"؟، فقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الانشقاق العسكري يغير علاقة القوة لصالح انتفاضات مدنية واسعة النطاق ضد الحكام المستبدين، وأن الاحتجاجات يمكن أن تصل بسرعة، والأهم من ذلك الحفاظ عليها لا يكون إلا بقوة تماسك الكتلة الحرجة للتغيير فقط.
4- أتفق مع نادية أبو المجد في كتابها "عسكرة الأمة" أن المؤسسة العسكرية الموجودة في مصر اليوم ليست هي نفسها، التي أنشأت أول نظام عسكري للبلاد قبل 60 عاما؛ فقد حدث شرخ جوهري في هذه المؤسسة في ثمانينيات القرن الماضي، حيث ولد الجيش الجديد، الذي يحكم البلاد اليوم؛ إلا أن التطورات، التي جرت بعد انقلاب 3 يوليو/تموز، أحدثت نقلة نوعية تستحق المتابعة.
٥-تشير بيانات كلا من البارومتر والمؤشر العربيين أنه ما تزال الثقة، التي يمنحها الرأي العام للجيش المصري مرتفعة، في مقابل تراجع ملحوظ للثقة في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى تراجع الثقة في الأحزاب السياسية والحركات الإسلامية، وهذا توجه مفهوم في ظل شعور متنامٍ لدى المواطن بعدم الأمان، الذي واكبه حملة علاقات عامة تدعم هذا التوجه؛ إلا أن فجوة الثقة بين المدني والعسكري تؤشر إلى خلل خطير في العلاقات المدنية العسكرية، وقد يؤدي إلى ثورة توقعات لدور المؤسسة لا تستطيع أن تتحمل عبأه بمفردها في ظل إضعاف منظم لمؤسسات الدولة المدنية، واندماج في مشكلات المواطنين؛ فمثلا هل يمكن فصل زيادة معاناة المصريين من الفساد -كما تؤكده استطلاعات الرأي- عن أن يطال المؤسسة في ظل تصاعد دور العسكريين في القطاعات المدنية؟.
وضع الجيش نفسه كمؤسسة لتعظيم قوته وأرباحه في كل لحظة من مراحل التحول، وامتزج مع ذلك هدف افتراسي مهيمن وراء ما يبدو أنه قبض منسق على الموارد والفرص. ويدعم من ذلك كون العسكر يضعون أنفسهم مكان وعي جزء من الطبقة الوسطى الجديدة المعولمة في مصر في ظل انفتاح على شبكات المصالح الخليجية والدولية
طأفنة المؤسسة
تتحقق الطأفنة عبر عدد من المسالك أهمها -من وجهة نظري- هو تقييد الانتماء -ابتداء- للمؤسسة، الذي يقوم على اعتبارات المحسوبية -التي اشتكى منها المتقدمون للكليات العسكرية- بما أحدث تحولا في القاعدة الاجتماعية للجيش المصري، فبعد أن كانت قاعدته في الخمسينيات هي الطبقات الوسطى والدنيا؛ إلا أنه في العقد الأخير من عهد مبارك تحول إلى أن يكون في أغلبه تعبيرا عن شبكات المحسوبية والفساد المرتبطة بالنافذين من الطبقة الحاكمة؛ مما ضيق قاعدته الاجتماعية، لتبتعد كثيرا عن الطبقات الدنيا، وأصبحت تعبر عن شرائح محدودة من الطبقة الوسطى.
بل إن خطاب المؤسسة العسكرية يعتمد منطق المحاصصة، التي لا تجعل من مصر وطنا؛ بل شركة مساهمة أو مستوطنات محتلة (على حد تعبير طارق البشري في حواراته التي صدرت عن دار البشير هذا العام)، وقد كان تعبير محمود نصر، عضو المجلس العسكري في يناير/كانون الثاني ومساعد وزير الدفاع للشؤون المالية وقتها، عن "عرق" المؤسسة عن مشاريعها الاقتصادية دالا في هذا الصدد؛ فالمؤسسة باتت تستخدم نفوذها السياسي المتصاعد لجني المزيد من المكاسب والمزايا الاقتصادية، وأصبحت تسعى إلى إضفاء الشرعية على إدارة السيسي وتوطيد الوضع السياسي الراهن من خلال الاستثمار بكثافة في خطط الانتعاش الاقتصادي الوطنية، مهما كانت هذه الخطط مصاغة بشكل سيئ.
ويمكن (من التمكين) للطأفنة مزيجا ما بين "السلطوية التفويضية" –على حد تعبير يزيد صايغ– "التي أرسيت قواعدها في عهد إدارة السيسي، والتي تحرر المشاركين في الائتلاف الحاكم من جميع القيود على سلوكهم ما عدا التوازنات الداخلية فيما بينهم، مع حد أدنى من الكوابح الدستورية أو القانونية، وبين الموقف المتساهل، إن لم يكن المؤيد، مع الحكومات الأجنبية والهيئات الدولية المتلهفة لالتقاط الرسالة، التي كررتها إدارة السيسي مرارا بأن مصر (مشرّعَة الأبواب) للفرص الاستثمارية".
وضع الجيش نفسه كمؤسسة لتعظيم قوته وأرباحه في كل لحظة من مراحل التحول، وامتزج مع ذلك هدف افتراسي مهيمن وراء ما يبدو أنه قبض منسق على الموارد والفرص. ويدعم من ذلك كون العسكر يضعون أنفسهم مكان وعي جزء من الطبقة الوسطى الجديدة المعولمة في مصر في ظل انفتاح على شبكات المصالح الخليجية والدولية. إن من يتتبع الاحتجاجات الاجتماعية، التي اندلعت بعد يناير/كانون الثاني في داخل الشركات العسكرية ومؤسسات الدولة، التي يديرها عسكريون -التي قامت أبو المجد بتوثيقها في كتابها المتقدم- يتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن المؤسسة ووعي قطاع معتبر من أفرادها، قد تحولا إلى طائفة مغلقة تشبه المماليك في علاقتهما بجموع الشعب المصري.
التزامات أيديولوجية مشتركة
إذا كان مبارك لم يطور أي صلة تربط الجيش بحكمه من خلال التزامات أيديولوجية مشتركة؛ فإن السيسي يحاول أن يخلق هذه الأرضية من خلال عدد من المقولات الفكرية المستندة أساسا لما جرى في يناير/كانون الثاني، وما تلاه حتى يوليو/تموز 2013، بالإضافة إلى عدد من الممارسات العملية، التي جوهرها مزيد من الاندماج في السوق المعولم باتباع سياسات نيوليبرالية.
أما تداعيات ما جرى في يناير/كانون الثاني؛ فقد كان حديثا في الحفاظ على الدولة المصرية والأمن القومي والمؤامرات الداخلية والدولية والتمويل الأجنبي واستهداف مصر، وخطاب عن الاستقرار في ظل تداعيه في دول الإقليم من حولنا ومصير سوريا وليبيا واليمن، أضيف إلى كل ذلك -بعد يوليو/تموز- محاربة الإرهاب، التي تمت توسعتها لتشمل مجمل الحركات السياسية الإسلامية. [انظر مقالنا فخاخ الاستقرار الذي يناقش أيديولوجيا غريزة الخوف لدى نظام ٧/٣]
في حرب مصر على الإرهاب، أصبح للجيش، الذي سبق وأمّن البلاد في العقود القليلة الماضية، مبررات جديدة لتحويل حياة المواطنين المصريين بأكملها إلى "ساحة معركة". باسم محاربة الإرهاب الداخلي، وراكم الجيش المزيد من الأرباح والقوة القمعية، وفي الوقت نفسه، يكرس الخطاب القومي حول إنقاذ الوطن من التهديدات الداخلية والخارجية على حد سواء. في الواقع، استخدم النظام العسكري منذ ذلك الحين شكلا جديدا من أشكال العسكرة، وذلك باستخدام خطاب مكافحة الإرهاب.
وأضيف لمهام الجيش مع التعديلات الدستورية 2018 مهمة الحفاظ على النظام الديمقراطي، والمقصود به تدخله على غرار 2013 ضد رئيس مدني منتخب لا يرضى عنه. وتحت ذريعة تهديد النظام الديمقراطي، وفي تناقض واضح مع عسكرة المجال العام في مصر بأكمله الآن. يقيم صايغ في كتابه (أولياء الجمهورية) "امتيازات الهيمنة"، التي يتمتع بها الجيش حاليا فيقول "إن المشروعات العملاقة والمخططات التجارية الجديدة أدت إلى تعجيل الريعية التنافسية، وذلك بسبب سحب رأس المال الشحيح بعيدا عن أجزاء أخرى من الاقتصاد، بدلا من زيادة الموارد المالية العامة في مصر. يمكن استنتاج ذلك من العمليات الظاهرة في إعادة الاصطفافات بين جهات اقتصادية عسكرية فاعلة محددة وبين الشركات الخاصة أو جماعات مصالح أخرى (ممثلة في أجهزة الأمن الداخلي ووسائل الإعلام والبرلمان). كما أن المتنافسين العسكريين، الذين تم تمكينهم حديثا، أبعدوا المنافسين السابقين، وأزاحوا الشركاء من رجال الأعمال المفضلين سابقا أو حلوا محل متقاعدين آخرين من القوات المسلحة في قطاعات معينة. أما الجهات الفاعلة بالمستويات الأدنى، التي تنفذ النهج الشامل، الذي يتبعه السيسي والمؤسسة العسكرية، فقد تكيفت مع ذلك بطريقة دينامية بطبيعة الحال؛ لتغتنم الفرص للتربح والافتراس. ومن وجهة نظر السيسي، قد تخدم منافستهم أيضا وظيفة منع الانقلاب ضده، وهو يستكمل ذلك بتغيير مستمر في قيادات القوات المسلحة".
سياسات منع الانقلابات
يتم تشكيل موقف الجيوش عموما تجاه الانتفاضات الشعبية وآفاق التحول الديمقراطي من خلال تكتيكات منع الانقلابات؛ كما يرى عدد من الباحثين، ولتحقيق ذلك يسعى المستبدون إما إلى جعل الجيوش موالية للأنظمة التي تخدمها، أو غير قادرة على تحديها، أو كليهما. لقد بنى نظام الحكم في مصر منذ 1952 تقاليد راسخة لمنع الانقلابات، باعتبار أن الجيش هو التهديد الرئيسي لمن يتبوأ منصب الرئاسة؛ فبينما لم يفقد أي رئيس حتى مبارك سلطته أبدا أمام احتجاجات شعبية أو منافس، واجه الرؤساء جميعا تحدي المعارضة العسكرية والانقلابات، صحيح أن سياسات منع الانقلاب اختلفت في شكلها من رئيس لآخر؛ لكن ظلت هناك استمرارية تاريخية للملامح الأساسية مع إضافة عناصر جديدة، حسب ظروف كل رئيس.
قامت العناصر الجوهرية لمنع الانقلاب على إفساد القيادات العليا للمؤسسة من خلال إدماجهم في شبكات المصالح والامتيازات وإغداق الأموال عليهم أثناء الخدمة، أو بعد تركها من خلال المناصب في المؤسسات التجارية أو العامة. وتكامل مع سياسات الإفساد أيضا تغيير القيادات بشكل مستمر. الملمح الثاني لمنع الانقلابات هو تكتيكات فرق تسد بين مكونات المؤسسة والقيادات بها، والتوازن مع مؤسسات أخرى مثل وزارة الداخلية في عهدي السادات ومبارك، أو الاتحاد الاشتراكي في فترة عبدالناصر.
ليس المطلوب من قوى التغيير متابعة منع الانقلاب، فهي تخص من في الحكم؛ لكن ما يستحق المتابعة هو التأثير غير المقصود لمنع الانقلاب، أو ما تطلق عليه بعض الدراسات "المنتج الثانوي" أو "الجانب السلبي" أو "المفارقة" أو "الآثار الضارة" أو "العواقب غير المقصودة" لهذه السياسات، وهنا يحسن الإشارة إلى ملمحين: الأول؛ هو استمرار الصراع بين الطبقة الأولى من القيادات العسكرية، الذي برز في انتخابات 2018 واحتجاجات سبتمبر/أيلول 2019، التي أعقبها تسويات بينهم لا ندري -لقلة المعلومات- مدى قوتها وإمكانية استمرارها؛ لكن ما يلاحظ هو نجاح السيسي حتى الآن في كسب الجولات المتعددة للصراع لصالحه.
لن تشهد المؤسسة العسكرية المصرية بحكم طبيعة المجتمع المصري انقساما حول خطوط العرق أو الجهة أو الدين؛ لكن الانقسام المهم، الذي يشير إليه عدد من الدراسات هو الانقسام الجيلي؛ فقد أبرزت انتفاضة 2011 مأزق المجلس العسكري
أما الثاني؛ فما أشار إليه صايغ في دراسته عن اقتصاد الجيش من تأثير امتيازات الهيمنة، التي تجري بلا قواعد "إن غياب القواعد الصارمة يعني أن تضارب المصالح يجري حله غالبا من خلال التنازع المباشر. وكان هذا الأمر واضحا بشكل خاص في ردود شبكات المتقاعدين العسكريين وجماعات الضغط المدنية المتنفذة والمتمركزة في الجهاز البيروقراطي للدولة، التي قاومت حين توغلت الهيئات العسكرية بقوة في أسواق الاستيراد والتموين، مهددة بإزاحة الفئات الأولى. في الوقت ذاته، فقد كانت المؤسسة العسكرية هي المنتفع الرئيس من حل شبكات المحسوبيات، التي ارتبطت بمبارك لغاية عام 2011. حيث أدت عملية إعادة التشكيل العامة لشبكات الامتياز داخل الإدارات البيروقراطية المدنية إلى تمكين المؤسسة العسكرية من تنحية منافسين أقوياء، إن لم يكن تغييبهم بالكامل، مثل جهاز المخابرات العامة".
عسكرة الدولة
وهنا يحسن أن نشير إلى أن وعي قطاع مهم من قوى يناير/كانون الثاني (حبذا لو عمل فريق على توثيق خبرات يناير/كانون الثاني الاحتجاجية) كان متنبها لاحتلال عدد متصاعد من العسكر لأجهزة الدولة المختلفة بما يثير حفيظة قطاع عريض من المدنيين، الذين كان يجب أن يحتلوا هذه المناصب، وقد أطلقوا مبادرات مختلفة لرصد هذا الوجود العسكري تمهيدا للتعامل معه، ويرتبط بذلك قضية يشيعها العسكريون، وهي الادعاء بكفايتهم عن المدنيين، وبما لا تسنده الوقائع الممتدة تاريخيا؛ فبرغم زيادة هذا الحضور من 1952 حتى الآن إلا أن الأداء المتعثر لأجهزة الدولة المصرية يتناسب طردا مع زيادة وجود العسكريين في أجهزتها؛ بل إن ما شهدناه من زيادة الفساد في عقد مبارك الأخير صاحبه زيادة ملحوظة بحضور العسكريين في أجهزة الدولة المختلفة.
تماسك المؤسسة
لن تشهد المؤسسة العسكرية المصرية بحكم طبيعة المجتمع المصري انقساما حول خطوط العرق أو الجهة أو الدين؛ لكن الانقسام المهم، الذي يشير إليه عدد من الدراسات هو الانقسام الجيلي؛ فقد أبرزت انتفاضة 2011 مأزق المجلس العسكري، فقد كان بحاجة إلى إقناع الرتب الدنيا والمتوسطة، الذين ينتمون بأغلبية ساحقة إلى الطبقات الوسطى والدنيا -وبالتالي يعانون من التداعيات الاقتصادية للتحول النيوليبرالي بعد عام 1990- باستخدام القمع المميت ضد مواطنيهم، الذين يحشدون أنفسهم ضد السياسات نفسها، التي كانوا يتألمون منها أيضا، خاصة أن هذه الاحتجاجات كانت من كل الطبقات -غير عنيفة- ولم يتصدرها فصيل سياسي أو أيديولوجي يمكن شيطنته.
الاحتكاك بين الأجيال (أي العمودي) مهم بشكل خاص للمتابعة -كما يرى بو نصيف- لعدة أسباب: أولا، تنخفض السلطة الأخلاقية لكبار الضباط على مرؤوسيهم عندما يأمر الأخير بذبح المدنيين. قد يكون الضباط والجنود الميدانيون مستعدين للموت حتى آخر رجل، عندما تغزو القوات المسلحة الأجنبية بلادهم؛ أما إطلاق النار على النساء والأطفال هو أمر مختلف، ومع ذلك، فإن كبار الضباط، الذين يصدرون أوامر القمع لا يمكنهم دائما تحمل الطاعة غير المشروطة من مرؤوسيهم.
ثانيا، يتم عزل الضباط من ذوي الرتب المتوسطة والصغار أكثر من كبار الضباط في دوائر السلطة، ويميلون إلى أن يكونوا أكثر حساسية تجاه المظالم الاجتماعية، وأكثر تنفيرا عن النخبة الحاكمة، أو الترحيب بالتطلعات الديمقراطية.
أخيرا، يكون لدى الضباط أحيانا حوافز مهنية لدعم التغيير؛ فإذا نجحت الانتفاضات المدنية، فمن المحتمل أن تعيد تشكيل الساحة السياسية بشكل جذري من خلال إحداث سقوط نخبة مدنية وبروز أخرى، وقد يكون لهذا الاضطراب السياسي تداعيات عميقة على القوات المسلحة، وخاصة الضباط. وبالتالي، قد تساهم الاعتبارات المهنية المتمحورة حول الذات في تشكيل مواقف الضباط في العداء وعدم الثقة بينهم.
كقاعدة عامة، يتأكد المستبدون من شراء ولاء قيادة القوات المسلحة؛ فالمراتب العليا لسلك الضباط -عادة- موالون؛ لأنهم جزء من النخبة الحاكمة، وعند سقوط الأخير، قد ينزل كبار الضباط معهم. هذه ليست أخبارا سيئة دائما لزملائهم ومرؤوسيهم. في الواقع، غالبا ما يكون العكس هو الصحيح؛ فزوال ائتلاف من القادة العسكريين يترك فراغا في القمة لا يمكن ملؤه؛ إلا من أعضاء آخرين في سلك الضباط.
تشير دراسات عدة إلى ضرورة التمييز بين إرادة الجنرالات، وقدرتهم على قمع الاحتجاجات على الورق؛ سيطر الجنرالات العرب في 2011 و2019 بالفعل على ما يكفي من المواد والرجال لقمع الحركات الشعبية. ومع ذلك، كان هذا صحيحا فقط بشرط أن يكون مرؤوسوهم على استعداد لتنفيذ أوامر بقمع المدنيين، لقد كانت النخبة العسكرية تفتقر إلى القدرة على الحفاظ على الوضع الراهن، بغض النظر عن عدد الرجال الذين قادتهم. بعبارة أخرى، على الرغم من أن قائد القوات المسلحة المصرية، المشير محمد طنطاوي، على سبيل المثال، كان تحت إمرته نصف مليون رجل عام 2011؛ إلا أنه كان بإمكانه فقط قمع المدنيين لو كان مرؤوسوه في سلك الضباط على استعداد لذلك.
خلاصة الدراسات العديدة: إنه عندما يفقد المستبدون ولاء الضباط من ذوي الرتب المتوسطة وصغار الضباط في القوات المسلحة، لا يعود بإمكانهم الاعتماد على الجيش للدفاع عنهم ضد الانتفاضات الشعبية، حتى لو ظل جنرالاتهم ملتزمين بالوضع الراهن، وإذا كان الضباط الذين يشغلون مناصب في الوسط والأسفل من التسلسل الهرمي العسكري يعارضون إطلاق النار على المدنيين، فلا يمكن للنخبة العسكرية أن تأمرهم بذلك، خشية أن يهددوا تماسك القوات المسلحة وسيطرتها عليها. المعنى ضمنيا ذو شقين: أولا، الجنرالات الموالون مفيدون فقط للقوى الموجودة إذا حافظوا على سلطتهم على مرؤوسيهم. ثانيا، حتمية تجنب تمرد الضباط من ذوي الرتب المتوسطة وصغار الضباط. ويصير السؤال المركزي لكبار الضباط، الذين يفكرون في قمع الاحتجاجات الشعبية هو التالي: "ماذا سيفعل مرؤوسي إذا أمرتهم بفتح النار على المدنيين؟".
من المرجح -وفق هذه الدراسات- أن يتبع الضباط ذوو الرتب المتوسطة والصغار أوامر النخبة الموالية إذا كانوا هم أنفسهم يدعمون الوضع الراهن؛ ومن المرجح أن يدعم الجنرالات المستبدين المحاصرين إذا علموا أن مرؤوسيهم سوف يتبعون أوامر القمع.
السؤال الذي لم أجد له إجابة حتى الآن ويستحق المتابعة؛ هل استطاع نظام 3 يوليو/تموز من خلال عسكرة الاقتصاد المصري والدولة بأكملها مع انفتاح على الشبكات المعولمة أن يدمج الرتب الأدنى والمتوسطة في سلم العسكرية المصرية في شبكات المحسوبية بما يضمن حفاظها على الوضع الراهن، أم ما تزال الفجوة كبيرة بين القيادات وبين هذه الرتب في تحصيل المنافع والاستفادة من شبكات الامتياز، التي باتت متحررة من القواعد القانونية والإجرائية كما قدمت؟.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.