السياسة الخارجية لبايدن بين استعادة القيادة الأميركية وتحدياتها

U.S. President-elect Joe Biden delivers a televised address to the nation, after the U.S. Electoral College formally confirmed his victory over President Donald Trump in the 2020 U.S. presidential election, from Biden's transition headquarters at the Queen Theater in Wilmington, Delaware, U.S., December 14, 2020. REUTERS/Mike Segar
(رويترز)

"الديمقراطية هي أصل مجتمعنا، ومنبع قوتنا، ومصدر تجديدنا.. إنها التي تقوي قيادتنا للحفاظ على أمننا وسلامتنا في العالم.. إنها محرك براعتنا التي تقود ازدهارنا الاقتصادي.. إنها قلبنا وكيفية رؤيتنا للعالم، ورؤية العالم لنا. ولهذا فإن قدرة أميركا على أن تكون قوة للتقدم في العالم، وقدرتها على تعبئة العمل الجماعي تبدأ من الداخل. ويجب على الولايات المتحدة أن تقود لا بمثال القوة فقط؛ بل بقوة المثال".

هكذا يرى الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن موقع بلاده ودورها خلال السنوات الأربع القادمة، وهو يحاول جاهدا أن يقطع كليا مع إرث السنوات الأربع المربكات للرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، والتي كادت أن تدمر سمعة الولايات المتحدة داخليا وخارجيا. من هنا فإن السياسة الخارجية لبايدن ترتكز على 4 محاور أو مبادئ وضعها في برنامجه الانتخابي؛ وهي:

أولا: تعزيز الديمقراطية الداخلية، وذلك من خلال استعادة الثقة في المؤسسات الأميركية، وإصلاح النظام التعليمي، والنظام الجنائي، وتأكيد الشفافية في النظام المالي للحملات الانتخابية، والتخلص من الأسباب البنيوية لعدم المساواة في المجتمع الأميركي.. إلخ.

ثانيا: استعادة وإعادة بناء القيادة الأخلاقية للولايات المتحدة، سواء فيما يتعلق بتحسين التعاطي مع المهاجرين خاصة النساء والأطفال، والمهاجرين الذين لا يحملون وثائق والذين يخدمون في الجيش الأميركي، إلغاء الحظر على البلدان المسلمة، الذي فرضه ترامب بعد توليه السلطة عام 2017، إعادة النظر في سياسات اللجوء لزيادة عدد طالبي اللجوء في الولايات المتحدة، حظر التعذيب ودعم الشفافية في العلميات العسكرية، إعادة إحياء الالتزام بدعم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان حول العالم، وذلك من خلال الدعوة لعقد قمة عالمية من أجل الديمقراطية.

ثالثا: اتباع سياسة خارجية تساعد في إعادة بناء الطبقة الوسطى الأميركية، وذلك من خلال مواجهة السياسات الاستغلالية للصين في الاقتصاد العالمي، والتأكد من اتباع سياسات اقتصادية تعود بالنفع على المواطن الأميركي.

رابعا: استعادة الدور الأميركي في تعبئة العالم لمواجهة التحديات العالمية وأهمها التغير المناخي، وحظر سباق التسلح.

 

التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة كبيرة جدا، وتكاد تكون غير مسبوقة. وهي تحديات ساهم في بروزها وتضخمها ترامب بسياساته الكارثية، التي كادت أن تدمر صورة الولايات المتحدة وسمعتها الخارجية. ولذلك كان بايدن حريصا منذ إعلان فوزه بالرئاسة الأميركية أن يطمئن قادة العالم، خاصة الحلفاء، بقوله إن "أميركا عائدة" (America is back)، وسوف تقود العالم من على رأس الطاولة مجددا.

ينتمي بايدن لما يُعرف بالمدرسة الليبرالية في السياسة الخارجية، وهي مدرسة معروفة في حقل العلاقات الدولية ينطلق منظروها من 4 افتراضات رئيسة هي: أولا: إن التعاون وليس الصراع هو الأصل في العلاقات الدولية. ثانيا: إن الحوار والتفاوض هو الطريق الأنجع لبناء العلاقات بين الدول لا القوة والسلاح. ثالثا: إن عقد الاتفاقات والمعاهدات طريق مهمة لاستدامة علاقات جيدة وبناءة بين الدول. رابعا: ثمة أهمية كبرى لوجود منظمات دولية تعمل على حماية السلم والأمن الدوليين، وتساعد في مواجهة التحديات العالمية، التي لا يمكن لدولة واحدة مواجهتها بنفسها.

في الولايات المتحدة، فإن الرئيس دوما بحاجة لمن يقوم بترجمة هذه المبادئ والافتراضات إلى سياسات براغماتية وبرامج عملية؛ لذلك فإن نظرة سريعة على فريق إدارة بايدن، خاصة فريق السياسة الخارجية والأمن القومي، الذي شُكل خلال الأسابيع الماضية، تكشف أن رؤية بايدن للسياسة الخارجية ليست مجرد أمنيات أو رؤية مثالية، وإنما تعكس تعقيدات الساحة الدولية، خاصة بعد الأضرار الكبيرة التي أحدثها ترامب في علاقات الولايات المتحدة سواء بحلفائها أو خصومها.

فجميع من اختارهم بايدن ليكونوا ضمن فريقه للسياسة الخارجية ينتمون للمدرسة الفكرية نفسها، التي ينتمي إليها، والتي تميل كما قلنا إلى اتباع سياسة خارجية ليبرالية تركز على التعاون الدولي، وبناء الجسور مع الحلفاء، والتفاوض مع الخصوم. ومعظمهم خدموا في إدارة أوباما عندما كان بايدن نائبا له سواء تعلق الأمر بوزير الخارجية المرّشح أنتوني بلينكن، أو بمستشار الأمن القومي جاك سوليفان. حيث أدى كلاهما دورا محوريا في التوصل للاتفاق النووي مع إيران انطلاقا من الافتراضات الأربعة التي أشرنا إليها آنفا.

على أنه لا يجب الوقوع في فخ التبسيط والاختزال أو المثالية فيما يخص السياسة الخارجية لبايدن، فالتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة كبيرة جدا، وتكاد تكون غير مسبوقة. وهي تحديات ساهم في بروزها وتضخمها ترامب بسياساته الكارثية، التي كادت أن تدمر صورة الولايات المتحدة وسمعتها الخارجية. ولذلك كان بايدن حريصا منذ إعلان فوزه بالرئاسة الأميركية أن يطمئن قادة العالم، خاصة الحلفاء، بقوله إن "أميركا عائدة" (America is back)، وسوف تقود العالم من على رأس الطاولة مجددا.

ولكن ما هي أبرز التحديات التي تواجه إدارة بايدن في السياسة الخارجية؟

هناك على الأقل 4 تحديات في هذا الصدد أولها يتعلق بكيفية إدارة العلاقة مع الصين، خاصة في ظل التوتر والاحتقان الذي شاب علاقتها بأميركا خلال فترة حكم ترامب. فهل سيتراجع بايدن عن سياسة الضغط القصوى التي اتبعها ترامب تجاه بكين خاصة في المجالين التجاري والتكنولوجي؟ وكيف سيُفهم هذا التراجع إن حدث؟

من هنا تأتي حساسية العلاقة مع الصين بالنسبة لإدارة بايدن. فمزيد من التشدد تجاه بكين قد يؤدي إلى توتر العلاقات معها، وبالتالي خلق مشاكل عديدة قد تستنزف إدارة بايدن طيلة فترته الرئاسية. كما أن التراجع عن سياسات ترامب قد يُفهم منه صينيا أنه ضعف وعجز أميركي في مواجهة خصم متمرد يسعى لفرض هيمنته وسيطرته الاقتصادية والتكنولوجية عالميا، وذلك على حساب الولايات المتحدة؛ لذا فإن بايدن سيكون بحاجة للمشي على خيط رفيع يجمع بين المرونة والحسم في إدارة علاقته مع بكين، وذلك حتى لا يدخل في متاهة صراع صفري معها لن يأتي بخير على بلاده.

ثانيها، تحدي العلاقة مع روسيا، وهو الملف الأكثر حساسية وتوترا من ملف الصين، ويكاد يكون الملف الأكثر إلحاحا على طاولة بايدن، خاصة بعدما ثبت تورط روسيا في الهجوم السيبراني، الذي تعرضت له وكالات فدرالية ومؤسسات أميركية حكومية وخاصة أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي. وكذلك التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016.

يأتي هذا في وقت سوف تحاول فيه إدارة بايدن أن ترسم أيضا خطا رفيعا لعدم استفزاز روسيا، وتجنب الدخول في مواجهة معها قد تكون غير محسوبة العواقب. خاصة أن من المفترض تجديد العمل بمعاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية (معاهدة ستارت الجديدة) بين البلدين في الأول من فبراير/شباط القادم.

ثالثها، ملف العلاقة مع إيران. وهو يكاد يكون الملف الأبرز والأكثر أهمية على طاولة بايدن في منطقة الشرق الأوسط. ذلك أن مهمة بايدن لن تكون فقط استعادة طهران لطاولة المفاوضات التي أطاح بها سلفه ترامب؛ لكن ضمان حدوث ذلك بشكل لا يستفز الحلفاء الإستراتيجيين للولايات المتحدة في المنطقة، خاصة دول الخليج العربي، وذلك مثلما حدث إبان عهد أوباما، الذي لم يراع مخاوف تلك البلدان من الدور الإقليمي المتزايد لإيران. كذلك كيفية ضمان عودة إيران عن تخصيب اليورانيوم للحدود الدنيا المقبولة دوليا، ووقف أنشطتها العدائية في المنطقة العربية. وهي المسألة التي أخفق أوباما ومعه بايدن في علاجها في الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، وستتطلب منه معالجة خلاقة وغير تقليدية.

رابعها، تحدي التعاطي مع السلطويات حول العالم خاصة في المنطقة العربية. وهو ملف شائك وشديد التعقيد، حيث إنه يتعلق بالصراع الأزلي بين المصالح والقيم في صنع السياسة الخارجية الأميركية. فعلى الرغم من تعهد بايدن بعدم ممالأة أو محاباة الأنظمة السلطوية، واهتمامه، على مستوى الخطاب حتى الآن، بقضايا حقوق الإنسان؛ إلا أن ذلك قد يتعارض مع تحقيق المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة خاصة مع بعض البلدان المهمة في المنطقة العربية مثل مصر والسعودية والإمارات. لذا فإن هذا الملف سوف يمثل اختبارا جديا لمدى التزام بايدن وإدارته بالبعد القيمي والأخلاقي في صنع السياسة الخارجية خلال السنوات الأربع المقبلة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان