الحكّاء (7) لراغبي الهجرة: طريق "أبو خليفة" (2)

في زمن كورونا.. تذكرة الطيران الصالحة لا تضمن إمكانية السفر

(1)

القرب من الموت يجعلك تغير من نظرتك له، إنه يقدم نفسه لك أحيانا كصديق، صديق يريد أن ينقذك من هذا الظلم الذي لا يتحمله بشر، ولأنه صديق فهو يعرض عليك وأنت في صالة الانتظار فيلما وثائقيا عن حياتك، أنت فيه البطل، وأنت فيه المشاهد، وسوف تندهش كثيرا كمشاهد من نفسك كبطل.

(2)

"الأجانب يقفون"، هكذا كان يصيح بنا مدير مدرستي الابتدائية في بداية كل عام، ثم يطلب منا أن نأتي له في الغد بأوراق إقامتنا مجددة، وإلا فنحن محرومون من دخول المدرسة، وفي كل عام يتكرر نفس الأمر، وفي كل عام أنتظر شهرا بعد بداية العام الدراسي حتى تكتمل أوراقي.

 

كبرت وكبرت معي كلمة "أجنبي"، طاردتني في كل مكان بهذا البلد الخليجي، وبسببها واجهت الكثير من التنمر في المدرسة، وفي الشارع، وحتى في العمل، كنت أشكو لأبي، وكان يخفف عني بقوله "لا تهتم فيركبك الهم"، لكن نصيحة والدي رحمه الله لم تكن لتفيدني لاحقا في تلك الزنزانة الضيقة، أمام السجانين، كلاب حراسة العروش، في التحقيق والتعليق، عند الجلد بعد التعري، عند هدر الكرامة.

 

(3)

أستعيد حكايات المساء التي كان أبو خليفة يقصها علي ونحن ننتظر موعد البحر المناسب للهروب، كحكاية الفتاة السورية التي كانت تريد الالتحاق بعائلتها في ألمانيا؛ لكنها لا تستطيع الحصول على تأشيرة دخول، وكان البحر الطريقة الوحيدة للدخول هربا، كانت تتهيب الأمر تماما، وأصرت أن يأتي والدها من ألمانيا حتى يكون معها في هذه المغامرة انطلاقا من تركيا وهروبا إلى اليونان، ومن ثم إلى ألمانيا، وأتى والدها بالفعل، وركبا ذلك القارب المطاطي، لكنهما غرقا معا.

 

أو حكاية شابتين مغربيتين كانتا ترغبان في الهرب، ولم يكن معهما أي حقائب؛ لكن الكثير من الدولارات والذهب، وقد أخاطتاهم في ملابسهما، إلا أن القارب غرق هو الآخر، والغريب أنه أُنقذ جميع ركابه سوى الفتاتين.

 

الأهم كان خلاصة حواري مع أبو خليفة "ما هو شعورك لما رحلة تغرق ويموت فيها الناس"، "والله بزعل شوي وبعدين بيكون الموضوع مثله مثل باص سوَّى حادث، ما حتوقف الباصات، والناس ما حتبطل تركب".

تكاد الشمس تشرق، والمشهد رغم ألمنا وخوفنا بديع، بحر هادئ، وجزر متناثرة، والخطة تقضي بأن نستبدل قاربنا المطاطي بقارب خشبي عند اقترابنا من الشاطئ اليوناني، ليمضي بنا إلى إيطاليا، باعتبار أن المطاطي لا يقوى على تلك المسافة، لكن الأمور لم تجر على ما خطط له.

(4)

"لقد تجاوزنا المياه الإقليمية" استيقظت من ذكرياتي على هذا الإعلان الذي صرح به سائق القارب، ننظر جميعا ناحية الضوء المنشود، نود لو كان بوسعنا أن نمد أيدينا إليه فنمسك به، نشد أنفسنا إليه ونختصر المسافات، تمضي 4 ساعات على إبحارنا، يشتد البرد، يرهقنا الوقت، تهدأ أصوات الأطفال الذين غلبهم النوم، ما زال في حوزتنا زادنا القليل من البسكويت والماء.

 

تكاد الشمس تشرق، والمشهد رغم ألمنا وخوفنا بديع، بحر هادئ، وجزر متناثرة، والخطة تقضي بأن نستبدل قاربنا المطاطي بقارب خشبي عند اقترابنا من الشاطئ اليوناني، ليمضي بنا إلى إيطاليا، باعتبار أن المطاطي لا يقوى على تلك المسافة، لكن الأمور لم تجر على ما خطط له.

 

نقترب من جزيرة كوس اليونانية، هي أمامنا بجبالها وشجرها، بتلك المنازل المتناثرة، يقلل السائق من سرعة قاربنا، نكتشف أننا أمام شاطئ خاص بفندق، المظلات والكراسي والأسرة البحرية توحي بذلك، وإذا بالسائق يترك كل شيء حتى إنه لم يوقف المحرك ويقفز إلى الماء، يتبعه الجميع، أرفض في البداية أن أحذو حذوهم، لا أريد اليونان، أعرف أنها مقبرة اللاجئين.

 

تمر دقائق ثقيلة، إلى أن يكتشف أمرنا رجال أمن الفندق، يلقون القبض علينا جميعا، ويأمروننا بالجلوس على الأرض، تأتي سيارة الشرطة، يحصون عددنا، يفتشون حقائبنا، نبقى هكذا ساعة دون أي شيء ولا شربة ماء، تأتي حافلة، يحشروننا فيها حشرا، تمر نصف ساعة أخرى حتى نصل إلى مخيم للاجئين، بالأحرى نصل إلى جهنم.

 

(5)

تمر 5 ساعات كاملة، ونحن جلوس على الأرض الإسمنتية دون تقديم أي رعاية طبية أو غذائية، يأتي فريق أمني، ندخل واحدا واحدا إلى غرفهم، يطلب مني أحدهم هاتفي، يسجل رقمه التسلسلي، يسألني عن الاسم والدين، ومن أين أتيت، واسم المهرب، يساعدنا مترجمون، يتأكد من أوراقي الرسمية التي بحوزتي، يشير لي أن أذهب إلى غرفة مجاورة، لأخذ بصمات اليد وتصويري.

تمر 4 ساعات أخرى قبل منحي ورقة رسمية عليها صورتي وبها بياناتي باللغة اليونانية، يعطونني بطانية ويسمحون لي بالانخراط في المخيم، بينما معظم من كانوا معي على القارب هربوا من المكان بصورة أو بأخرى ليكملوا رحلتهم بطريقتهم الخاصة إلى وجهتهم خارج اليونان، تلك الرحلات التي تحتاج أموالا طائلة ليست بوسعي أبدا.

 

(6)

أدخل إلى المخيم، مكان واسع فيه الكثير من "الكرفانات" أي تلك الغرف الجاهزة، والأعمدة هنا تعلوها كاميرات للمراقبة، المكان مزدحم للغاية، طاقته 600 شخص، لكن يسكنه حوالي 6 آلاف، الناس فيه أشكال وألوان، الممرات قذرة واللاجئون يسيرون كأنهم سكارى وما هم بسكارى، أسأل أحدهم "أين أستطيع أن أنام؟"، "ابنِ لك خيمة من أعواد الخصف، ستجدها  في الغابة التي خلفنا"، ولأني في غاية التعب والإرهاق، ولأن الليل قد حل؛ أفرش في أحد الممرات بطانيتي، وأضع رأسي على حقيبتي، وأنكمش على نفسي محاولا مقاومة كل مشاعري، العطش والجوع والوحدة والخوف من الآتي.

 

في الصباح أنضم إلى طابور طويل في مواجهة نافذة تمنحك بعض الطعام، تندلع مشاجرة بين اللاجئين، أبتعد، وأمكث ساعتين حتى أكرر المحاولة، أقدم هويتي الجديدة، يمنحني الموظف قارورة ماء وحبة برتقال وقطعة "كرواسون".

 

أشرب زجاجة الماء دفعة واحدة رغم أنها نصيبي في اليوم كله، أتوجه إلى الغابة خلف المخيم، أحصل على حاجتي من الأعواد الخشبية، أعود فأبني خيمتي، أكسو الأعواد بكراتين ورقية وبطانيات أقوم بشرائها، على مساحة تعدل مساحة قبر، يساعدني بعضهم في ذلك.

أكتشف أن سكان المخيم من كل حدب وصوب، عرب وغير عرب من الهند وباكستان وأفغانستان ودول أفريقية متعددة، التنمر والمخدرات والمشاجرات والشتائم على أقبح كلماتها وسب الرب هو ما تسمعه هنا وهناك، وإذا رغبت في الاستحمام فإن في الغابة جدول ماء، أفعل ثم أعود إلى مخيمي لأسمع حكايات عجيبة عن الناس هنا.

 

أبو علي العراقي يعاني إعاقة في ظهره، وله أكثر من سنة يعيش في خيمة مثل خيمتي، شاب سوري يعاني من اضطرابات نفسية ويصرخ في نومه كثيرا، وكثيرا ما حاول الانتحار، آخرها محاولة قطع شريان يده، باكستاني يعيش هنا منذ أكثر من 4 سنوات، "عمران" الذي يعاني من تخلف عقلي حتى إنه يأكل من النفايات أحيانا وينام في أي مكان، اللاجئ العراقي الذي مات بسبب غيبوبة سكر.

 

في مخيمنا مكتب لمفوضية اللاجئين، من المفترض أنه يقدم مساعدات مادية؛ لكنها محدودة جدا، وليست على المستوى الذي يسوّق له إعلاميا.

 

إمدادات الماء والكهرباء تنقطع لساعات طويلة، مياه المجاري تعرف طريقها إلى الممرات، الخدمات الطبية مفقودة، الطبيب يأتي يومين في الأسبوع، غرفة الصليب الأحمر مغلقة على الدوام.

 

من غير المسموح به دخول الإعلام إلى هذا المخيم، وتعامل البوليس خشن، ونحن في حرم قرية جميلة جدا، لكن نظرات سكانها إلينا استعلائية وعنصرية.

 

هذه التجربة هي ثاني أسوأ تجربة لي بعد المعتقل، أفكر بالانتحار، يردني خوفي من الله، أفكر في بيع جزء من جسدي لعلي بالمال أنجح في الخروج من هنا، أكتشف أنني هربت من الخليج وفعلت ما فعلت بحثا عن الحرية، ففقدت ما تبقى لي من حرية.

من أول يوم وأنا أوثق ما نعانيه نحن اللاجئون هنا، أنشئ حسابا على تويتر أكتب فيه وأنشر صور مأساتنا التي نعيشها هنا، أراسل الكثيرين، يفاجئني تجاهل شخصيات مشهورة تقدم نفسها على أنها مدافعة عن حقوق الإنسان وعن اللاجئين.

20 شهرا حتى الآن وأنا أتعذب كل يوم، وكل ما حولي أصبح جزءا من حياتي اليومية، الحشرات، والفئران التي تعيش في الممرات، طابور الطعام المذل، طابور الماء الطويل تحت الشمس الحارقة.

 

تسألني مديرة المخيم "لماذا تتركون بلادكم وتأتون إلينا ثم تشتكون من قلة الخدمات؟ الجنة ليست هنا"، بدوري أرد عليها "عندما تتوقف أوروبا وحلفاؤها عن دعم الأنظمة الديكتاتورية، التي تحكمنا والتي تظلمنا وتقمعنا سوف يتوقف تدفق اللاجئين عليكم"، "ولكن اليونان بلد فقير لا يتحمل كل هذا العبء"، "ومن قال لك إن اللاجئين يرغبون بالبقاء في اليونان؟ سهلوا لنا إجراءات الخروج من بلادكم لن يبقى بها لاجئ واحد".

 

من أول يوم وأنا أوثق ما نعانيه نحن اللاجئون هنا، أنشئ حسابا على تويتر أكتب فيه وأنشر صور مأساتنا التي نعيشها هنا، أراسل الكثيرين، يفاجئني تجاهل شخصيات مشهورة تقدم نفسها على أنها مدافعة عن حقوق الإنسان وعن اللاجئين.

 

(7)

المغامرة غير الآمنة عبر البحر للهروب من ظلم جرى وظلم يهددك بأنه سيطولك مرة أخرى هو انتحار، صحيح لم أتناول جرعة زائدة من الحبوب، ولم أحز شرياني بسكين، ولم ألق بنفسي من عل، لكن الواقع أنني منتحر، وإذا كنت قد نجوت من البحر، فهل أنجو من هذا الجحيم المسمى بمخيم اللاجئين؟  ثم إلى أين تكون وجهتي اللاحقة؟

 

أنقذونا أيها الناس، حدثوا العالم عنا، راسلوا المنظمات المعنية، خاطبوا السلطات اليونانية، فإن لم يُجدِ ذلك نفعا فلا تحرموني من الذكرى، ودونوا اسمي عندكم: "ياسر قباني"، واكتبوا تحته "بلده الأصلي: فلسطين".

 

 

 

 

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.