الحكّاء (3) | الرحيل الذي لا ينتهي أبدا

الأنبار، العراق (خاص الجزيرة)

(1)

على كل من يزيد عمره على 18 عاما حمل السلاح، والالتحاق بالقتال ضد القوات الحكومية.

 

(2)

لم يكن هذا الأمر العشائري -في أكبر محافظات العراق مساحة- ليصدر إلا بعد أن قامت القوات الحكومية بالاعتداء على ثورة المواطنين في مدينة الرمادي، وهي مركز محافظة الأنبار التي كنت أكمل دراستي الجامعية فيها، تحديدا في المرحلة الأخيرة بقسم هندسة تقنيات الحاسوب، والزمان هو عام 2014.

 

3 أيام من المواجهات العسكرية المستمرة، إطلاق النار بمختلف أنواع الأسلحة، من مختلف الاتجاهات، وأنا أتسمَّر في فراشي وأختبئ في غرفتي، وكلما هدأ القتال -ولو لدقائق- أسترق النظر من النافذة، فلا أرى إلا جامع صدام الكبير المقابل لمسكننا، وأعمدة الدخان في المدينة التي باتت ساحة قتال مستعرة.

 

نفد الطعام في مسكننا الجامعي، وما زال القتال مستمرا، إلى أن تُعلن هدنة لمدة 3 ساعات فقط، يهرع الناس إلى تأمين بعض الاحتياجات المعيشية، أقول لصديقين علينا استغلال الفرصة والهروب خارج المدينة، نتفق أن نوقف أي سيارة تمر بنا ونسأل صاحبها أن يساعدنا على الهرب، هكذا بكل عشوائية.

 

(3)

اسمي طه العاني، من مواليد عام 1990، وأعترف أنني بين ثلاثتنا كنت الأكثر خوفا من المجهول، وفي الوقت نفسه الأكثر عزما على الهرب، كل ما حولي مرعب، الرمادي باتت مدينة أشباح، دمار وحرائق ودخان سيارات مشتعلة، وآليات عسكرية محطمة، لم أكن معارضا سياسيا، ولا ناشطا مدنيا، ولا منتميا لحزب، ولم أشارك في الثورة، كنت ببساطة طالبا جامعيا، وأمارس عملي الحر في الصحافة.

 

تمر السيارات مسرعة، لا أحد يأبه لنا، يتوقف رجل كبير السن بسيارته، يبدو أنه كان يبحث عما يمكن شراؤه، ألقي عليه السلام مضطربا: يا عم هل بإمكانك أن تخرجنا من هذه المدينة ونتفق على الأجر وكل التفاصيل في الطريق؟

 

يرق لحالنا، نتفق على أن ينقلنا لأقرب نقطة خارج المدينة، لا يتسع الوقت للتعرف إلى السائق، يوقفنا مسلحون، يشكّون في أننا من القوات الحكومية، يطلبون أوراقنا الثبوتية، ويدخلون في سجال مع السائق.

 

هل ترى تلك التلة؟ هز السائق رأسه مؤكدا، حاوِلوا أن تتخطوها في أقل من 5 دقائق، فإننا نتوقع وصول رتل عسكري من هذا الاتجاه، ونستعد لمواجهته، وإلا بِتّم في مرمى قصفنا.

 

أجفف عرقي، أحاول التظاهر بالثبات، المنطقة صحراوية، وسيارتنا قديمة، لحظات من الخوف والهلع، لقد توقف الكون كله عن الحركة، ينطلق السائق بسرعة جنونية، ننجح بشق الأنفس في تجاوز التلة، لم تمر إلا دقائق قليلة حتى اشتعلت المنطقة كلها بمواجهة شرسة يتدخل فيها حتى الطيران.

 

نصل بعد نصف ساعة من قيادة مجنونة في الصحراء إلى هدفنا، أُسرِع بالتواصل مع الأصدقاء الذين ودعتهم في السكن الجامعي للاطمئنان عليهم، يخبرونني بأنهم حاولوا الهروب مثلنا؛ لكنهم تأخروا قليلا بسبب المواجهات عند التلة التي حذرنا منها المسلحون في طريقنا، والتي أسفرت عن إصابة سيارتهم التي كانت تنقل 9 منهم، قبل أن يتمكن سائقهم من الفرار والولوج داخل الأحياء السكنية القريبة من منطقة المواجهة، وأنهم يسعون لتضميد جراح المصابين، والبحث عمن يوصلهم لمكان آمن لاحقا.

 

أحمد الله على نجاتي، عليَّ الآن استكمال الرحيل، والمطلوب سيارة أخرى توصلني إلى مسقط رأسي حيث عائلتي، والتي تبعد 200 كيلو متر، أي 4 ساعات في الظروف العادية.

 

(4)

بيتنا واسع ككل بيوت المدينة، حديقته مثمرة بأنواع النخيل والأشجار المختلفة، تزين مدخله الأزهار والورود، على بعد أمتار من بيتنا، بيت عمي، وأنا أقضي أيامي متنقلا بين حديقتنا وحديقتهم المليئة بالخيرات، أما الفرات فهو على مقربة من بيتنا، في صحبة أصدقائي وأقربائي نذهب إليه، نمر بالبساتين والمزارع، نأكل ما لذ وطاب دون تفكير أو حساب.

 

أصحو من ذاكرتي فجأة وأنتبه إلى أنني وصلت مدينتي "عنة"؛ لكني لا أجدها كما تركتها، فبالرغم مما جرى لها في الثمانينيات حين غرقت إثر بناء سد أقيم على نهر الفرات، وما عاصرته في فترة الغزو الأميركي عام 2003، فإن الأسوأ كما يبدو ما تمر به الآن، واكتشفت أن ما رحلت هربا منه وجدته في مسقط رأسي.

لم يكن من السهل علينا كشباب قادرين على حمل السلاح البقاء في نقطة وسطية، كان على كل منا أن يختار في أي طرف يصطف، لا يروق لي أي طرف، وأرى أن المعركة ليست معركتي، وهذا سبب إصراري على الرحيل.

معارك متصلة، وأحداث متداخلة، مسلحون تتعدد فصائلهم، وقوات حكومية تستعين بقوات إضافية وتحالف دولي، وفي غضون ذلك تصل قوات داعش، ليصبح المشهد جنونيا.

 

أحاول البقاء في مدينتي على رغم الخوف الكبير في داخلي، لكن مع سقوط أول صاروخ على بعد أمتار من بيتنا، أقرر الرحيل مجددا بحثا عن مكان آمن، والدي لا يوافقني الفكرة، ووالدتي خائفة، أخواتي وإخواني السبعة مترددون، وأنا أصر على الرحيل.

 

لم يكن من السهل علينا كشباب قادرين على حمل السلاح البقاء في نقطة وسطية، كان على كل منا أن يختار في أي طرف يصطف، لا يروق لي أي طرف، وأرى أن المعركة ليست معركتي، وهذا سبب إصراري على الرحيل.

 

ليلة سفري يحذرني أخي محمود من أن الطريق غير آمن، أدس أنا حاجاتي في حقيبة سفر صغيرة تلائم المغامرة، أنطلق مع السائق فجرا، تودعني والدتي باكية بعد ليلة سهرت فيها لتطمئن علي، وأودع أنا بيتنا، والشارع الذي نسكن فيه وكأنه الوداع الأخير.

 

عند مخرج المدينة تواجِهنا أول نقطة توقيف تابعة لداعش، "أهلا بكم في ولاية الأنبار"، لافتة يرفعها التنظيم الذي حوّل المدن إلى ولايات، وحوّل أملاك الدولة إلى أوقاف تابعة له، ولافتة أخرى تفيد بأن "الدولة الإسلامية باقية وتتمدد"، أواصل الطريق في مناطق سيطرتهم، أرى شبابا من أبناء بلدي وآخرين قدموا من الخارج، سراويل طويلة، ودشاديش قصيرة، ولحى كثيفة، ولغة عربية فصحى، وصياح عند الحديث معنا، واتهام مسبق بأننا ضد معتقداتهم وتطلعاتهم.

 

على طول الطريق تتبدل عليك نقاط التفتيش المختلفة، كل واحدة تابعة لقوات مختلفة، أصل إلى مناطق سيطرة القوات الحكومية، لترحب بي لافتة أخرى: "الجيش نور لمن يهتدي، ونار على من يعتدي".

 

(5)

أصل أربيل الواقعة في إقليم كردستان العراق، بعد 6 ساعات من السفر والتوقيف والرعب، أتعامل خلالها مع كل نقطة تفتيش بما يناسبها، فالقوات الحكومية أخرج لهم هويتي العراقية لأثبت لهم أنني هارب من داعش، والمسلحون الآخرون أخرج لهم هويتي الجامعية لأثبت لهم أنني ذاهب لإكمال دراستي ومعاملات الجامعة، وهكذا.

 

أخفي هوياتي المتعددة في الحقيبة في مكان ما وبخوف كبير؛ لأنها يمكن أن توردني المهالك إذا ما اكتشفها الداعشيون مثلا، تماما كما كنت أخفي اسم مدينتي أمام القوات الحكومية، التي تدل على أنني قادم من مناطق داعش، وبين هذا وذاك، مر الوقت بكل مرارة.

أحاول أنا أن أقنعهم بكل الوسائل: تارة بأني صحافي، وأريد الإقامة هناك، وتارة بأني طالب أريد الدراسة، ولم ينفع أي منها، وبعد أن قضيت نحو 4 ساعات، في درجة حرارة بلغت 45 فقدت الأمل

مئات العائلات مكدسة على مدخل أربيل، نازحون من مناطق النزاعات والمواجهات العسكرية، تمنعهم قوات البيشمركة الكردية الحكومية من الدخول، أتعرف على العديد من العائلات هناك، أفهم أن غالبيتهم يبيتون على مدخل المدينة منذ أيام، ولم يتمكنوا من الدخول، يكررون كل يوم نفس المحاولات ويستعطفون القوات دون جدوى.

 

أحاول أنا أن أقنعهم بكل الوسائل: تارة بأني صحافي، وأريد الإقامة هناك، وتارة بأني طالب أريد الدراسة، ولم ينفع أي منها، وبعد أن قضيت نحو 4 ساعات، في درجة حرارة بلغت 45 فقدت الأمل، ونصحت بمحاولة الدخول لمدينة أخرى، كركوك مثلا، عليك تأمين كفيل حتى تستطيع دخول المدينة، نصحني السائق، قلت له ولنفسي هو أمر لو تعلمون عظيم.

 

أصل كركوك، بعد ساعة ونصف الساعة من طريق معبد وآمن، يتكرر نفس الموقف؛ لكن هذه المرة يتركني السائق عند أطراف المدينة، عبثا أحاول إيقاف أي من السيارات المارة، تمر ساعة، قبل أن تصل سيارة يستقلها فلاح تركماني ومعه زوجته وأولاده الذين على ما يبدو عائدين من مزرعتهم خارج المدينة.

 

عمي أريد الدخول للمدينة والأمن يمنعني، وأنا طالب نازح من الأنبار، أجاب الرجل دون تردد وبلهجته العربية التركمانية: نعم تفضل، تعجبت من سرعة موافقته، وبدأت أشرح له صعوبة موقفي، وأن محاولته إدخالي قد لا تنجح، لكنه يكتفي بالرد، لا عليك ليس هناك مشكلة.

 

سيارة قديمة، وموسيقى شعبية صادرة من المسجل، أجلس في الجزء الخلفي منها، مع أولاده الصغار الذين استغربوا مني ولا أعرف هل الاستغراب من ملابسي وهندامي الذي يختلف عنهم، أم من خوفي البادي علي، تصل السيارة إلى نقطة التفتيش عند مدخل المدينة، رجل الأمن يسمح للرجل ومن بصحبته بالدخول دون أي استفسار.

 

شكرت الرجل وغادرت سيارته بعد أن أوصلني حسب رغبتي إلى فندق شعبي متجنبا الفنادق الراقية، حتى لا أتعرض للتدقيق والمساءلة، أبلغ أخي محمود عن نيتي معاودة المحاولة للإقامة في أربيل لشهر واحد، لعلي أنعم فيه بالأمان والحكم الذاتي الذي تنعم به المدينة إلى حين عودة الحياة الطبيعية لمدينتي فأعود.

 

كان الفندق سيئا للغاية، لم أتمكن من الشعور بالأمان فيه منذ أول لحظة، أتوجه إلى مطعم لبيع المأكولات السريعة، أطلب فلافل، أسمع أذان المغرب، يستريح بالي، ثم ينقلب إلى ذعر شديد، فمن طريقة الأذان أفهم أن المنطقة التي حللت بها تختلف طائفتها عن طائفتي، ونحن في بلد يتحارب الناس فيه على القومية والدين والمذهب.

 

أهرع إلى هاتفي، أتصل بالأصدقاء أسألهم النصيحة، عليك الرحيل مجددا وفي أسرع وقت في اتجاه تركيا، تأتيني أصواتهم عبر الهاتف حاسمة، أذهب لشراء بطاقة الحافلة، يخبرني الموظف أنني محظوظ فهذه آخر بطاقة سفر لليوم.

 

أستقل الحافلة، نمر بمناطق إقليم كردستان -وأنا العراقي لم أزرها من قبل- أصل إلى المنفذ الحدودي مع تركيا، يختمون جواز سفري، أواصل رحلتي البرية 3 أيام وصولا إلى أنقرة.

 

(6)

تمر عدة أسابيع، يتصل بي زملاء في الجامعة، عليك العودة لأداء اختبارات عامك الأخير في الجامعة، في نفس مدينة الرمادي التي هربت منها، أعود بمغامرة طويلة في طريق طويل، أنهي امتحاناتي وأرحل مرة ثانية إلى إسطنبول، يمر يومان فقط، يعاود زملاء الاتصال، لقد رسبت في مادة، عليك العودة لأداء الامتحان، أعود هذه المرة إلى أربيل حيث فُتحت لنا مراكز امتحان استثنائية، ثم إلى تركيا أرحل للمرة الثالثة.

في ذلك كله لا يمل أخي محمود التواصل معي، يطمئن عليَّ، يبشرني بأن الأزمة ستنتهي قريبا، وأنني سأعود إلى بيتي، وأنه سيعود إلى دراسته في جامعة الموصل ليكمل دراساته العليا في علوم الفيزياء النووية.

(7)

في ذلك كله لا يمل أخي محمود التواصل معي، يطمئن عليَّ، يبشرني بأن الأزمة ستنتهي قريبا، وأنني سأعود إلى بيتي، وأنه سيعود إلى دراسته في جامعة الموصل ليكمل دراساته العليا في علوم الفيزياء النووية.

 

ينقطع محمود عن التواصل معي لفترة طويلة، يصيبني القلق، تخبرني العائلة بالأمر، داعش اختطفت أخاك، تمر الأعوام ثقيلة، الرحيل دوما مؤلم، حال أخي كحال عشرات الآلاف من المغيبين قسريا عن ذويهم، غير المعروف مصيرهم، قلبي يحدثني أن محمود الذي عارضني في فكرة الرحيل، رحل بصورة أو بأخرى، والدتي ما زالت تدعو له بالعودة قريبا إلى الدار، غير أن والدي يدعو له بالرحمة.

الأنبار- العراق

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.