أزمة الخطاب لدى الإسلاميين "السابقين"

Egyptian protesters and Muslim Brotherhood members shout slogans against President Abdel Fattah al-Sisi and the government during a demonstration protesting the government's decision to transfer two Red Sea islands to Saudi Arabia, in front of the Press Syndicate in Cairo, Egypt, April 15, 2016. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh
من تظاهرات طلاب الإخوان المسلمين

تثير كتابات الإسلاميين السابقين وتعليقاتهم على منصات التواصل الاجتماعي الكثير من التأمل والتفكير حول طبيعة العلاقة المركبة التي تجمع هؤلاء بجماعاتهم وحركاتهم وتنظيماتهم، وذلك قبل أن ينشقوا عنها ويتركوها لأسباب مختلفة إما سياسية أو أيديولوجية أو شخصية.

نظرياً، من المفترض أن تمثل كتابات وتعليقات هؤلاء مصدراً معرفياً مهماً للباحثين المشتغلين بظاهرة الحركات الإسلامية، وتفكيك علاقتها المركبة بالمجتمع، والسياسة، والفضاء العام، خاصة إذا كانوا من المستوي القيادي، ولديهم حضور في مسألة صنع القرار داخل هذه الجماعات والتنظيمات. ولكن في أحيان كثيرة يخلط هؤلاء بين الشخصي والموضوعي، والخاص والعام، فتصبح مهمة الباحث أكثر تعقيداً في فهم وتفكيك هذه الكتابات عند محاولة فهم ما يحدث داخل هذه التنظيمات والجماعات. وهو ما يتطلب قدراً كبيراً من التأنّي والفهم لمعرفة سياقات هذه الكتابات، وتأثيرها على الأفراد والجماعات.

على أن ما يثير التأمل، وأحيانا الحيرة، في كثير من كتابات الإسلاميين السابقين، هو خطاب التحريض والهجوم، وأحياناً الكراهية، الذي يشنّه هؤلاء المنشقون (أو التائبون بحسب البعض!) على جماعاتهم وتنظيماتهم السابقة، وذلك فيما يشبه التبرؤ والتطهر الذاتي من ماضيهم. وهو ما يأتي في أحيان كثيرة على حساب الحقائق والتجربة التاريخية التي عاشوها بالفعل داخل تنظيماتهم.

ففي بعض الأحوال يبالغ بعضهم في دوره داخل التنظيم والجماعة، وذلك مثلما يفعل إسلاميون سابقون أمثال "مختار نوح" و"ثروت الخرباوي" الذين انشقوا عن جماعة "الإخوان المسلمين" أواخر التسعينات من القرن الماضي، واللذيْن، على عكس ما يدّعون، لم يتمتعا بدور قيادي كبير فيها سواء في مكتب الإرشاد أو مجلس شورى الجماعة، ولم يكن لأي منهما دورا مؤثرا في صياغة رؤية الجماعة وصنع قرارها. وقد وصل كراهيتهما وعداؤهما لجماعة الإخوان إلى حد التحريض علناً على أعضائها، والمطالبة بتصفيتهم، والتخلص منهم خاصة في مرحلة ما بعد انقلاب 3 يوليو 2013.

ومن يقرأ ما يصرّح به الرجلان أو يكتبانه، خاصة "الخرباوي"، حول الجماعة يكتشف بسهولة حجم المبالغة والكذب بشأن دورهما داخل التنظيم والجماعة، رغم أنه لم يتعد أن كانا ممثليْن للجماعة داخل "نقابة المحامين" المصرية أواخر الثمانينات وحتى منتصف التسعينات، وذلك قبل أن ينشقا عنها. ولا يمكن بحال أخذ ما يقولانه عن الجماعة بكثير من الثقة والجدية، بسبب حجم الخلط ما بين الشخصي والموضوعي، فضلاً عن الرغبة في تحقيق الشهرة والحصول على مكاسب مادية وسياسية من إظهار عدائهما للجماعة.

 

تزداد المسألة تعقيداً عندما يقع الإسلاميون المنشقون (أو التائبون) في فخ التوظيف السياسي من قبل خصومهم السابقين، خاصة الأنظمة السلطوية التي تستخدمهم كرأس حربة في مواجهة جماعاتهم وزملائهم وأصدقائهم السابقين

وفي أحيان أخري، يمارس بعض المنشقين نوعاً من الثأر والانتقام من جماعته بأثر رجعي، وذلك إما بسبب تهميشه تنظيميا أو تعرضه لغبن شخصي من القيادات، وذلك كما هي الحال مع الدكتور محمد حبيب، النائب الأول السابق للمرشد العام للإخوان، والذي استقال من الجماعة عقب ثورة يناير بعد أن جمد عضويته فيها بشكل غير رسمي بعدما فشل في الوصول إلى منصب المرشد العام. فمن يقرأ مقالات الرجل، خاصة في مرحلة ما بعد الانقلاب، يفاجأ بحجم الهجوم والتحريض و"التصحيح السياسي" الذي يمارسه ضد جماعته السابقة، التي وصل فيها لأعلي المناصب القيادية، وكان على مرمي حجر من قيادتها قبل أن تتم إزاحته بفعل التوازنات الداخلية بالجماعة.

ومن يقرأ مذكراته المعنونة "ذكريات محمد حبيب" التي أصدرها قبل عدة أعوام عن "دار الشروق" (صدرت طبعتها الأولي عام 2012)، يكشف حجم المرارة التي يتحدث بها الرجل عن علاقته بالجماعة خاصة في أيامه الأخيرة بها.

وتزداد المسألة تعقيداً عندما يقع الإسلاميون المنشقون (أو التائبون) في فخ التوظيف السياسي من قبل خصومهم السابقين، خاصة الأنظمة السلطوية التي تستخدمهم كرأس حربة في مواجهة جماعاتهم وزملائهم وأصدقائهم السابقين. وقد حدث هذا مراراً كثيرة سواء مع من سبقت الإشارة إليهم أو مع غيرهم. فعلي سبيل المثال نجح نظام السيسي في توظيف "نوح" و"الخرباوي"، ومن بعدهم كمال الهلباوي وسامح يوسف وعبد الجليل الشرنوبي وأحمد بان وغيرهم، للتحريض على جماعة "الإخوان" وشيطنتها وتصفيتها. كما استثمر حلفاء السيسي الإقليميون، وخاصة إمارة أبو ظبي، في هؤلاء إعلامياً وبحثياً، بحيث يتم استضافتهم والاحتفاء بهم وتقديمهم باعتبارهم "خبراء ومتخصصين في شؤون الجماعات الإسلامية" وذلك دون ذكر لعلاقاتهم السابقة بالتنظيم.

لا يقتصر الأمر علي إسلاميي المنطقة، فهناك إسلاميون غربيون انشقوا عن تنظيمات وجماعات إسلامية متنوعة سواء معتدلة أو جهادية، وقاموا بتسويق أنفسهم كخبراء في شؤون هذه الجماعات وألفوا كتباً وكتبوا مقالات بأهم الصحف والجرائد العالمية حول طبيعة هذه التنظيمات فكراً وأيدلوجية وتنظيما. وبالغ بعضهم في عدائه لتنظيماته السابقة إلى حد التشويه والتحريض عليها تماما مثلما يفعل أقرانهم في العالم العربي. ولم يكن غريباً أيضا أن تحتفي بهم وسائل الإعلام ومراكز البحوث الغربية وتقدمهم باعتبارهم "خبراء في شأن الإسلام والمسلمين". وتحول الأمر بعد فترة إلي عملية "استرزاق" حقيقية، فكلما بالغ أحدهم في نقده وهجومه علي الجماعات والحركات الإسلامية، كلما ازدادت غلته ومكاسبه. فالتحليل علي حسب الطلب، والهجوم حسب المستفيد، وهكذا.

أما الجديد في هذه الظاهرة، فهو ذلك الخطاب الاعتذاري التطهري الذي يمارسه بعض شباب جماعة "الإخوان المسلمين"، الذين انشقوا عنها إما بسبب الإحباط واليأس من أخطاء قياداتهم، أو نتيجة لاختلاطهم بتيارات فكرية وسياسية أخرى تعادي الجماعة وترفض وجودها. حيث يتصرّف بعض هؤلاء وكأن على رؤوسهم "بطحة" يحاولون مداراتها، فيتجهون إلي أقصى الطرف الآخر للمعادلة في الحديث عن جماعتهم السابقة، وكأنهم يحاولون إبعاد التهمة والشبهة عنهم. وتجد بعضهم يقوم باقتطاع أحداث وتصريحات وتعليقات وأحياناً بوستات معينة من سياقاتها، بوعي أو بدون وعي، من أجل إثبات فكرته ومهاجمة الجماعة. في حين يبالغ البعض الآخر في نقده وهجومه على الجماعة، وذلك من أجل أن يتم قبوله في جماعته أو شلته أو علاقاته الجديدة سواء في محيط العمل أو العلاقات الشخصية.

قطعاً هناك الكثير الذي يُكتب ويُقال عن مشاكل وأخطاء الجماعات والحركات الإسلامية، خاصة جماعة "الإخوان المسلمين"، وقد كتبنا عشرات المقالات والدراسات والكتب نقداً لهم ولأفكارهم وسلوكهم. ولكن المشكلة حين يختلط النقد الموضوعي بالهجوم الشخصي، والخيال بالحقيقة، والانتقائية بالدقة وتحرّي السياقات. وإذا كان مهماً أن يقرأ الباحثون ما يكتبه الإسلاميون السابقون عن تجاربهم داخل جماعاتهم وتنظيماتهم السابقة، فإنه من المهم أيضا أن يتم ذلك وفق قراءة واعية لمضمون ما يكتبونه، ووضعه في إطار تجاربهم الذاتية وملابساتها، وذلك احتراماً لعقل القارئ، وحفاظاً على مصداقية التحليل وأمانته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.