لو افترضنا أن المسلسلات العربية التي عرضت ومثات الواقع الذي كان اليهود يشكلون فيه جزءا من النسيج العربي، فهل هذا التمثيل يشكل خطوة بريئة للدراما؟ أم أن لها ما بعدها؟
يمكن اختيار مجموعة من الموضوعات التي طرحتها مقالة الأخ والصديق الدكتور معتز الخطيب، لم أتوقع منه أن يشيّع الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية رمضان عبد الله شلح بمثل هذه المقالة بعد إعلان وفاته (وأحسبه مع الشهداء والصالحين إن شاء الله).
أولاً: تعتمد المقالة على ما تسميه "المبادئ الأخلاقية الكبرى" (كالحق والعدل والحرية) بعد أن أسقط منها عزة الأمة واستقلالها ووحدتها ومحاربة الغزاة ودرء الفتنة. ولكن من دون أن يقول لنا أيضا من يتبنى هذه المبادئ في سياسته ومواقفه في هذا العالم؟ وما المرجعية التي تعرّف ما هو الحق وما هو العدل وما هي الحرية؟ وهل هنالك اتفاق عليها في مستوى البلد الواحد أو في المستوى العالمي، مثلاً لو أنزلناها على أية قضية من القضايا في بلادنا، أو في العالم، لوجدنا الاختلاف حولها هو الظاهرة العامة. ولنأخذ قضية فلسطين أو قضية الموقف من أميركا أو من العدالة الاجتماعية أو من الإسلام أو من الحداثة، أو في التاريخ الموقف من المغول أو الفرنجة أو الاستعمار المعاصر والصهيونية والعنصرية. بهذا تكون المقالة قد أسست موقفها على بنيان ملتبس "مبادئ أخلاقية كبرى" كالحق والعدل والحرية، تفهم وتعامل وتمارس في كل قضية بما لا يحد من الخلاف والمواقف. والأسوأ رميها في وجه المقاومة الفلسطينية لينزع عنها أخلاقيتها.
ثانيا: يقول: "لو احتكمنا إلى المعايير الأخلاقية، فإن التحرر من الاستبداد وتحرير الأوطان متلازمان ويصعب الفصل بينهما…"، السؤال هنا: هذه الموضوعة من أين جاءت؟ أو ما الدليل على صحتها شبه الإطلاقية؟
هل جاءت من التاريخ العربي الإسلامي، أم من تجارب ثورات معاصرة في عالمنا، أم جاءت من الفقه الإسلامي السني الذي خالفها في أغلب الحالات؟ السؤال الثاني هنا، واعتمادا على الاختصاص الذي يدرّسه الدكتور معتز في الجامعة: هل كان المعيار في مبايعة الحاكم المسلم هو الحق والعدل والحرية، أو هل هو مستبد؟ أم تغلّب معيار وحدة الأمة وعزة الأمة ودرء الفتنة، ومحاربة الغزاة والبغاة، ومحاربة الخوارج معايير تقدمت على عدل الحاكم، أو على شرعيته حيثما جاءت بالغلب أو بالوراثة؟ بمعنى آخر هل قام الفقه الإسلامي السني كله على مبدأ أن التحرر من الاستبداد لا ينفصل عن محاربة الروم أو الفرنجة أو المغول، أو الفتوحات؟ فأين يذهب بدول وسلطات إسلامية لم يخل حاكمها من جور الاستبداد، ووضع السيف في رقاب معارضيه، أم لا يعتبرها جزءا من تاريخنا الإسلامي الذي نعتز به؟ بل جزءا من التاريخ الذي حافظ على وحدة الأمة وإسلامها وديارها.
هذا لا يعني طبعا، دفاعا عن الاستبداد. ولكن يعني، وبالصوت العالي، عدم اعتباره المعيار الأول في موازنة الأولويات كما تحاول المقالة أن تذهب إليه. ومن يذهب إليه لا يترك من تاريخنا إلاّ بضع عشرات من السنين، والأهم يشطب أمجادا حققتها الفتوحات، وأخرى حققتها الحروب ضد الغزاة، وفي الدفاع عن بيضة الإسلام، أو أمن العباد. لا يا أخ معتز ليس التحرر من الاستبداد متلازما لا ينفصل عن التحرير والاستقلال والوحدة وعزة الأمة، وخروجها من تحت أساطير الصهيونية والهيمنة الخارجية. وهو عكس ما ذهبت إليه مقالتك التي أعطت التحرر من الاستبداد الأولوية. وبالمناسبة، يا ليتك أسندت رأيك بالشروط التي وضعها الفقه السني للخروج على الحاكم. وأين موقع الاستبداد بينها؟
ثالثا: وتقول المقالة، "تخسر حركات المقاومة أخلاقية قضيتها حين تقصر معيار تقويمها للأفعال والمواقف على النظر إلى العالم فقط من زاوية دعمها هي ودعم تصوراتها هي لقضيتها. لأن الموقف الأخلاقي من الظلم والاحتلال والإجرام لا يتجزأ سواء كان هذا بأيدٍ إسرائيلية أو غير إسرائيلية. وسواء كان على أرض فلسطين أو خارجها".
رابعا: المقاومة الفلسطينية وقضايا التحرر العربي والإسلامي، يريد الدكتور معتز من المقاومة الفلسطينية أن تتدخل في الشأن الداخلي وتناصر ثورة ما هنا أو هناك. وهذا يعني التدخل في كل صراع داخلي على المستوى العربي أولاً، وربما الإسلامي والعالمي أيضاً، وجّه ضد الاستبداد، وإلاّ فقدت أخلاقية قضيتها الفلسطينية. هنا أيضا يبدو ظاهر الموقف كأنه مسلمة من المسلمات. ولكن لا يلحظ أن المقاومة الفلسطينية إذا تدخلت في الشأن الداخلي العربي لا تجد من لا تعاديه ويعاديها. بل لا تجد بين المعارضات إلاّ خصيما إذا انحازت إلى أيّ منها دون الأخرى. باختصار هذه دعوة إلى المقاومة للانتحار، فمَن ناصرته لن سيفيد منها لأن مصيره مرتبط بعوامل قوة وضعف لا علاقة لها بموقف المقاومة. إن من يحرر الأمة هي شعوبها.
فحنانيكم بالشعب الفلسطيني ومقاومته. فلا تحملوهما أكثر مما يحملان. وهيهات يستطيعان حمله.
خامسا: مركزية القضية الفلسطينية، يقول: "لا ينبغي للقضية الفلسطينية أن تصبح استثناء (قضية مُشَخصنة) هذا هو جوهر المشكلة الحالية أخلاقيا وسياسيا من الواضح أن قضية فلسطين لم تعد مركزية في عالم ما بعد الثورات العربية". هذا كلام من لا يعرف مكانة فلسطين في الدين والاستراتيجية والوطنية والعروبة والإسلام وتحرير العالم من العنصرية الصهيونية الاقتلاعية الإحلالية. وهذا كلام من لا يعرف مكانة إحلال المشروع الصهيوني في فلسطين، في الاستراتيجية العالمية للاستعمار الغربي، منذ منتصف القرن التاسع عشر وللإمبريالية الأميركية أمس واليوم وغدا. وذلك باعتبارها في مكانة القضية المركزية للغرب في استراتيجيته العالمية.
مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الشعوب العربية والإسلامية، ليست رأيا أو شعارا صنعته السياسة أو الاستراتيجية أو الأخلاق. إنها مسألة موضوعية وجودية تمسّ الأمن القومي، ومستقبل الأمة العربية والإسلامية، فإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، ليس في جزيرة في المحيط الأطلسي. وإنما كيان قام في قلب الوطن العربي وصادر القدس، وهدفه هدم المسجد الأقصى وتحويل المقدسات المسيحية والإسلامية والتراث العالمي التاريخي الإنساني إلى آثار دارسة حين يهجّر مسلميها ومسيحييها العرب، وتهوّد. نعم فلسطين استثناء بالنسبة إلى العرب والمسلمين، كما بالنسبة إلى الصهيونية والغرب. فيا للهول إن كنتم لا تعلمون، أو كنتم تنكرون.